التحولات الجيوستراتيجية الناتجة عن "عاصفة الحزم"
مهما كانت نتيجة عملية "عاصفة الحزم" التي شنتها خمس من دول مجلس التعاون الخليجي، وكل من مصر والسودان والأردن والمغرب، باستعداد باكستاني للإسهام، والإسهام بقوة في حالة تعرض المملكة العربية السعودية لأي تهديد، ومن أي طرف كان، فإن مخرجاتها ستكون وضعاً جيوستراتيجياً جديداً يختلف، بالتأكيد، عن الوضع الذي كان سائداً حتى 26 مارس/ آذار 2015.
وعلى الرغم من أن هدف العملية هو إجهاض عملية السيطرة والمصادرة الحوثية لنظام الحكم اليمني، وإنها جاءت تلبية لطلب من الرئيس الشرعي لليمن، الرئيس عبد ربه منصور هادي، فإن من السذاجة تصور أن الحركة الحوثية، وحليفها الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، هما المستهدفان فقط بهذه العملية.
أطلقت هذه العملية استجابة لتحديات جدية وخطيرة، بدأت تؤثر على سلامة المنطقة واستقرارها، نتيجة انهيار منظومة التوازن الاستراتيجي الفاعلة في المنطقة، بإخراج العراق منها، بعد غزوه واحتلاله من الولايات المتحدة الأميركية، ثم غضّها الطرف عن تغوّل إيران ومليشياتها داخل العراق. هنا وجدت مجموعة دول مجلس التعاون الخليجي نفسها في مأزق شديد الخطورة، يقتضي منها سرعة التحرك من جهة، ومن ضغوط منطقية، سببها حالة التمزق الداخلية التي عانت منها إبّان الأزمة مع قطر، وحالة التردد العُماني في الانخراط في أي جهد إيجابي جدي.
وليس علينا أن ننسى ابتزاز الخطاب الإيراني المتصاعد يوماً بعد يوم، وهو يحمل، في طياته، رسائل تهديد مبطنة لكل الدول العربية الخليجية، من دون استثناء، مهدداً في قلب الأحوال الداخلية حيناً، وإغلاق مضيق هرمز بوجه الملاحة العالمية، بكل ما تحمله حالة الحصار البحري للدول العربية الخليجية حيناً آخر. وبين هذا وذاك، أضحى التلميح بوجود ما يسمونها خلايا إيرانية، أو عميلة نائمة، وارتفاع حدة الانقسام الطائفي في دول خليجية معينة، كالبحرين والكويت، وعدم تردد دوائر طائفية في هذين البلدين بإعلان ولائها لإيران والولي الفقيه فيها. لم يعد الاصطفاف إلى جانب إيران يشكل، من وجهة نظر تابعيها العرب، مثلبة يمكن تفاديها، يكفينا النظر إلى تصريحات زعماء المليشيات الإيرانية في العراق، هادي العامري وقيس الخزعلي وأبو مهدي المهندس، مثلاً، والخطاب المتشنج الذي ألقاه أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، يوم 27 مارس الجاري، والذي مجّد فيه إيران أيّما تمجيد، وهاجم العرب أيّما هجوم، إلاّ مثالاً ساطعاً على ما نقول.
لكن، لم تعد الأمور كما كانت قبل يوم تنفيذ عملية "عاصفة الحزم"، وهناك شواهد على تغيّر العلائق الجيوستراتيجية في المنطقة الذي يؤيد ما سبق وأوردناه أن الموقف، اليوم، لم يعد كما كان قبل تنفيذ هذه العملية، وفي ما يلي أهم الأسباب:
1. ترسخت قناعة سلبية بشبه تحوّل دول الخليج العربية إلى سياسة تفعيل القدرة في الدفاع عن مصالحها، نتيجة لسياسة الأناة، والتأني في اتخاذ القرارات، والتعويل على القوة الناعمة التي تجيد المملكة العربية السعودية، ومعها دول الخليج، استخدامها في المفاصل المصيرية التي تتعرض لها هذه الدول.
2. كان هنالك شبه إجماع أن دول مجلس التعاون الخليجي تركن إلى الولايات المتحدة الأميركية في حماية أمنها القومي، بفعل الاتفاقيات الأمنية المعقودة بين دول المجلس فرادى مع الولايات المتحدة. تبيّن من عملية عاصفة الحزم أن هذه الدول، بالتشاور في ما بينها، خوّلت المملكة العربية السعودية، على ما يبدو، التعبير عن قرارها الحاسم تنفيذ عملية "عاصفة الحزم"، والمباشرة بالتنفيذ الجماعي، وبالقوى المسلحة للدول الأعضاء.
3. تغوّل التدخل الإيراني إلى الدرجة التي افتضحت، من خلالها، الأهداف الحقيقية المخفية سابقاً في بناء امبراطورية فارسية، ترث (أمجاد) فارس، وكان العرب أول أهدافها، وقد تمكنت الدعاية الدينية الطائفية الإيرانية من أن تستميل بعض الشيعة من عرب العراق، وطوائف شيعية أخرى، لم تكن إيران الصفوية الإثني عشرية ومرجعياتها يعدونها من أهل الإيمان، كالعلويين والزيود، وتأليب هؤلاء الشيعة العرب على أوطانهم ومواطنيهم السنّة العرب، وقد كانت تصرفات هؤلاء، كمليشيات الحشد الشعبي في العراق، ومليشيا حسن نصر الله في لبنان، والمليشيات العلوية وشبيحتها في سورية، وأخيراً، الحركة الحوثية في اليمن التي شوهت المذهب الزيدي الكريم، تمثّل دليلاً ساطعاً على انحراف هؤلاء عن الطريق السليم، طريق المواطنة. كل هذا دعم القناعة بأنه لا بد من خطوة حازمة تعيد الأمور إلى نصابها.
4. وفي الوقت نفسه، شكل الرفض الحازم للمطالب الابتزازية للرئيس اليمني المخلوع نمطاً جديداً في التعامل مع الأمور، عندما يكون الأمن القومي في الميزان.
5. كان للسرية والكتمان اللذين تم فيهما التداول لاتخاذ القرار على مستوى مجلس التعاون إنجازاً مهمّاً بحد ذاته، ولعلّ ممّا يستجلب الاهتمام أن بعض المداولات التي أجراها العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز، عشية تنفيذ ضربة عملية عاصفة الحزم، كانت مع قيادات الصف الثاني الخليجيين (أولياء العهود، ورؤساء الوزارات)، وهو أمر يبيّن مدى الحصافة التي تم فيها اتخاذ القرار.
6. بغض النظر عمّا يجري على الساحة العالمية من مفاوضات (5+1) بشأن النووي الإيراني، ومفاوضات وزيري الخارجية الأميركي والإيراني، جون كيري ومحمد جواد ظريف، فإن قرار عملية "عاصفة الحزم" قد اتخذ فعلاً، ونفذ من دون استئذان أحد، بل تم إبلاغه للأصدقاء أمراً واقعاً.
7. عززت إخفاقات الحشد الشعبي، وقوات الحرس الثوري الإيراني في العراق، الذي كان ينفذ عملية السيطرة على تكريت، بقيادة وتخطيط إيرانييْن، من قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، وإخفاقات عملية هجوم النظام السوري، مدعوماً بمقاتلي حزب حسن نصر الله في سورية، القناعة التي كانت تزن قدرات إيران بحجمها الحقيقي، وليس بما يجعجع به تابعوها، مما سيكون له تأثير فعلي على ما سينجم عن عملية عاصفة الحزم من تداعيات.
الموقف الدولي:
من المهم، هنا، معرفة الثقل النوعي الذي تتمتع به دول مجلس التعاون الخليجي، على الصعيد الدولي، نتيجة القيمة التراكمية لأدوات القوة الناعمة التي تتوفر فيها، وحجم المصالح التي تربط هذه الدول بالمحيط الدولي المؤثر. ونشير، هنا، خصوصاً، إلى الولايات المتحدة، ودول أوروبا الغربية واليابان. ظهر للعيان من حجم التأييد الذي حظيت به المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي لعمليتها "عاصفة الحزم" القيمة الفعلية لهذه المصالح، كما أن إعراب هذه الدول عن تقديمها الدعم اللوجستي والاستخباري هو رسالة لا بد للإيرانيين من تدبرها، لكي لا ينساقوا على وفق طبيعتهم المكابرة، كما حصل إبّان الحرب العراقية الإيرانية التي انتهت بهزيمة ماحقة لحقت بهم. الرسالة الواضحة، الآن، التي أيدتها غالبية الدول المؤثرة عالمياً هي أن العرب، اليوم، هم ليسوا عرب الأمس الذين كان مصير المنطقة يُصاغ بغيابهم.
الموقف الإقليمي:
كنا نتحدث، عند معالجتنا الموقف الإقليمي سابقاً، عن لاعبين أساسيين فقط، هما إيران والكيان الصهيوني. لكن، الآن تغيّر هذا الأمر أيضاً. دخل هنا لاعبان لم نعتد دراسة تأثيرهما على الموقف الخليجي كثيراً، هما تركيا وباكستان. فتركيا، بكل ما تحمله من ثقل استراتيجي في موقعها، وبحكم علاقتها العميقة بأوروبا، وبالحلف الأطلسي الذي تشكل واحدة من أهم أعضائه، وبجيشها الذي يعد من أفضل الجيوش العالمية تسليحاً وتدريباً وقدرات، أعربت على لسان رئيسها، رجب طيب أردوغان، عن تأييدها عملية عاصفة الحزم، بل وحمّلت إيران مسؤولية إرباك الوضع الإقليمي، وتدخلاتها في سورية والعراق واليمن، وطالبتها بالتوقف عن هذه التدخلات.
الدولة الثانية التي عبّرت عن موقف حازم إزاء إيران كانت باكستان، وهي دولة نووية، حيث كان تصريح الناطق باسم الحكومة الباكستانية عن استعداد بلاده للدفاع عن أمن السعودية حيال أي تهديد من أي مكان أو مصدر جاء. وقد أعقبت هذا الموقف مواقف متعددة، صرح بها ضباط باكستانيون، تعبّر عن الموقف نفسه.
فوجئت إيران بالفعل بهذه المواقف، كما فوجئت برد الفعل الخليجي على عبث الحوثي بأمن اليمن، هو وحليفه علي عبد الله صالح، واكتفت، إلى حد الآن، بالشجب العلني للعملية التي تقودها السعودية ضد الحوثيين، على الرغم من أن هذه العملية، من وجهة نظر القانون الدولي، مشروعة تستند إلى المادة 51 من الميثاق.
ونعتقد أن توق إيران لعقد الاتفاق النووي مع دول 5+1 يعلو، في هذه المرحلة، على توق بعض دوائرها لإسناد الحوثي. ومع ذلك، من المتوقع أن تقوم، هي أو تابعوها، بعمل ما ذي صفة تخريبية على الأرجح، هنا وهناك، لكن أي عمل من هذا القبيل لن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، فاليوم هو ليس الأمس بالتأكيد.
الموقف العسكري:
يعلم الجميع أن القوة الجوية أداة تدمير وتجريد، وليست أداة حسم. يعول عليها بعمليات من النوع المنفذ حالياً، والتي تسمى في العلم العسكري عمليات التجريد (Interdiction Operations)، بتدمير نقاط قوة العدو وكسر إرادته على القتال، لتفضي إلى نوع ما من المفاوضات. من وجهة نظرنا، ما زالت هذه العمليات في بدايتها، وقد أظهر الجهد الخليجي الذي نفذ هذه العمليات قدرات عالية في التنفيذ، في غياب أية خسائر تذكر، ففيما عدا الطائرة التي أعلن عن تعرضها لضرر فني جعل قائداها يخرجان منها، وجرى إنقاذهما، لم تسجل مجريات العمليات أية خسائر.
وما زالت قوات علي عبد الله صالح والحوثي قوية على الأرض، ولم تنفذ، حتى الآن، عمليات جوية ضد تجمعات الدروع والمدفعية والمشاة. ومن وجهة نظرنا، إن ولاء هذه القوات سيبقى لعلي عبد الله صالح وللحوثيين، طالما لم تتضرر، ولم تتعرض لضرب كثيف، وطالما ظلت لدى الحوثيين وصالح القدرة على تنفيذ الإسناد اللوجستي والمادي لها. ولهذا، إن الانتقال من التجريد بعد إتمامه، إلى استهداف القطعات والأرتال سيهزّ من معنويات القطعات، وسيشجع على التمرد والاصطفاف مع الشرعية، كما حصل للواء 35 في تعز.
لقوات القبائل دور مهم في هذ المرحلة، حتى يتم ضبط ولاء القوات المسلحة، وهو استثمار ضربات القوات الجوية وإملاء الفراغ الناجم عن الانسحابات التكتيكية والاستراتيجية التي تنفذها قوات الحوثيين وحليفهم. لكن، ينبغي العمل، وبدأب، لإبعاد القبائل عن عاداتها الموروثة في النهب بعد الانتصار، لكي لا تُعاد مأساة معركة أُحد.
المراقبة البحرية وإغلاق الموانئ وإبعاد أي جهد إيراني يحاول التغلغل للدخول إليها لإنجاد الحوثي أمر مهم وحيوي، ينبغي على بحرية المملكة العربية السعودية ومصر، وربما باكستان، القيام به، وكذلك تأمين المسالك البحرية، وعدم السماح بالتدخل عليها.
المعركة في أيامها الأولى، وكل ما تتطلبه هو الحزم الذي شكل عنوانها، والإصرار على المضي فيها إلى النهاية، لكي يكتب بالفعل تاريخ جديد للعلاقات الجيوستراتيجية في الإقليم، وذلك يبعد التدخل الإيراني الممجوج في الشؤون الداخلية للدول العربية. ربما تكون اليمن مدخلاً لإجلاء النفوذ الإيراني من المشرق العربي، وقبراً لأحلام تصدير الثورة التي أضرت بالشعب الإيراني، بالحجم نفسه الذي أضرت به الشعب العربي في المشرق.