التحول العسكري في سورية.. كسر الاستعصاء
نشهد تحولاً في الوضع السوري، ربما يوحي بكسر حالة الاستعصاء العسكري، حيث يبدو أن انتصارات الكتائب المسلحة كبيرة في الجنوب، كما في الشمال، وربما يحدث الأمر نفسه في دمشق ومحيطها. فقد كانت مشكلة الثورة تتمثل في التناقض الذي يحكم الكتائب المسلحة، وارتباط بعضها بسياسات دول كانت متناقضة، وتتصارع على الاستحواذ على سورية، إضافة إلى الدور المعادي للثورة الذي قامت به داعش، وأيضاً جبهة النصرة (جرى تكفيرها وتجريمها أخيراً في الجنوب). ولهذا، كان فعل الكتائب المسلحة التي تريد إسقاط النظام، والتي هي استمرار للثورة، من خلال الشباب الذي تظاهر، ثم تحوّل إلى العمل المسلح نتيجة وحشية السلطة، مشلولاً، لأنها محاصرة خارجياً، وتصارع ليس السلطة فقط، بل كذلك داعش والنصرة، وحتى جيش الإسلام.
وكان ذلك كله يترافق مع ميل إقليمي ودولي لمنع حسم الصراع، وحصر الثورة في حدود لا تساعدها على الانتصار، بل أراد أن يستمر الصراع في ظل توازن قلق، وكان يجري دعم السلطة من إيران وروسيا مقابل ضبط الدعم للكتائب المسلحة، بما يبقيها قادرة على الصدّ فقط. وهذا ما كان يشكّل حالة الاستعصاء، ويمنع تقدم الثورة أكثر من حدود "التوافق الدولي"، بالضبط، لأن كل الأطراف الإقليمية والدولية المتدخلة في سورية، تريد التوصل إلى حل "سياسي"، وليس إلى إسقاط النظام. حل يبقي البنية الأساسية للنظام مع "دمج" معارضة فيما أسمي تشكيل هيئة حكم انتقالية. وظلت العقدة تتمثل في "وضع بشار الأسد"، أي بقاء أو رحيل بشار الأسد ومجموعته. حيث ظلت روسيا وإيران تتمسكان ببقائه، بينما كان يبدو أن بقاءه لا يوصل إلى حل أصلاً. وبالتالي، لا إمكانية لإنهاء الصراع (بات يسمى حرباً أهلية، أو صراعاً طائفياً، أو أزمة أو غيرها من تسميات تخفي واقع الصراع نفسه)، من دون "فرض معادلة جديدة".
يتمثل التحوّل الذي حدث في خلخلة ميزان القوى على الأرض، وربما نكون في بداية خلخلة أكبر. هذه الخطوة التي نتجت عن سياقين، يعودان ليترابطا في "عقدة عاصفة الحزم" التي كانت تهدف، ليس إلى تعديل الوضع في اليمن فقط، بل تعديله في مجمل المنطقة. لهذا، بدت ردّاً على الدور الإيراني المتضخم. يتعلق السياق الأول بالقدرة العسكرية للنظام، حيث لم يجرِ التركيز على هذه المسألة منذ بدء الثورة، وخصوصاً بعد عام منها. لهذا، ظهر أن التكتيك العسكري للقوى التي اندفعت إلى التسلح وتحويل الثورة إلى "حرب تحرير" كان خاطئاً، فأسهم في الوصول إلى الاستعصاء الذي حدث، ومن ثم تحكيم دول إقليمية بالوضع العسكري. فالجيش، بأغلبيته، هو من الشعب الذي تعرّض للقتل والقصف والتدمير وليس "جيش الأسد". ففيما عدا الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري، وبعض الوحدات الخاصة التي كانت "البنية الصلبة" التي يعتمد عليها، كان يزج الجيش في الصراع ضد التظاهرات بسيطرة أمنية شبيحية على الوحدات التي ترسل لهذا الأمر. ومع توسّع الثورة، ووصولها إلى حلب، ومع تصاعد وحشية السلطة، تلمست السلطة أن الاحتقان تصاعد في بنية الجيش، وأصبح توسّع الانشقاق ممكناً. لهذا، عمل على سحبه من الشمال والشرق
خصوصاً (حيث الحدود مع تركيا، التي كان متوقعاً أن تعلن الحظر الجوي هناك، وبالتالي، تحوّل الجيش فيها ووقوفه مع الثورة)، وفرض وضعه "في الإقامة الجبرية"، بمنع الإجازات وقطع الاتصال. هذا كان وضع معظم الجيش، منذ صيف 2012، وبالتالي، خرج من الصراع الفعلي ضد الثورة.
منذ صيف 2012 إلى نهاية العام، كانت "البنية الصلبة" قد تهشمت، وفقدت أعداداً كبيرة من عناصرها، كما كان وضع الشبيحة صعباً، بعد أن تحوّلت الثورة إلى التسلح، وأصبحت الحرب شكلها. هذا الأمر هو الذي فرض الإسراع في إدخال قوات حزب الله، ومحاولة تحقيق انتصارات سريعة، كما حدث في مدينة القصير. مذ ذاك، أخذ يتصاعد دور قوى حزب الله، وخصوصاً إيران التي أخذت ترسل قوى طائفية من العراق، ومن الحرس الثوري، ثم من اليمن وكل البلدان التي تستطيع تجنيد "شيعة" منها. وباتت، منذ سنة 2014، هي القوة التي تقاتل الثورة، وأصبحت، أخيراً، هي التي تقود الحرب "على الأرض". مع كل الدعم العسكري الروسي، والتوافق الروسي الإيراني على التمسك بالأسد.
لكن انفتاح الصراع في العراق فرض سحب جزء من هذه القوات التي هي المليشيات الطائفية العراقية، وحتى أصبح هناك اضطرار لإرسال جزء من قوات حزب الله، ومن الحرس الثوري. وللتفرغ للوضع العراقي، حاولت إيران حسم الصراع في الجنوب السوري وفي الشمال، من خلال "جيش" من إيران وحزب الله و"أشتات شيعة"، وبقيادة ضباط إيرانيين (تحت إشراف قاسم سليماني)، لكن المعارك في الجنوب، كما في الشمال، أدت إلى هزيمة كبيرة بقوى الكتائب المسلحة، حتى وهي تتواجه مع داعش في الشمال و"النصرة" في الجنوب. بعدها، أصبح واضحاً تراجع اهتمام الإيرانيين، نتيجة الانغماس في معارك العراق (خصوصاً في تكريت، حيث تورطت في معركة، لكي تثبت مقدرتها على هزيمة داعش، ولم تحسم المعركة إلا بعد تدخل الطيران الأميركي)، ومن ثم مع انفتاح الصراع في اليمن. وترافق ذلك كله مع تراجع القدرات المالية الإيرانية، خصوصاً بعد انهيار سعر النفط، وعلى ضوء الحصار الاقتصادي الخانق الذي تفرضه أميركا.
في هذه الوضعية، أصبح وضع السلطة العسكري حرجاً، حيث قدرات "الجيش" الذي تتحكم به محدودة، وأصبح انهيار المعسكرات التي تحجز الجنود فيها ممكناً، وأيضاً، أصبح الرفد الخارجي في تناقص شديد. بالتالي، هناك هلهلة في الوضع العسكري شديدة. لكن، ما كان يخفي ذلك تشتت قوى الثورة، وأخطار وجود داعش والنصرة، وتكتيك جيش الإسلام الملتبس.
يتعلق السياق الثاني، أولاً، بتوحيد نشاط الكتائب المسلحة في حوران، وحصار جبهة النصرة، وتحقيق هذه الكتائب لانتصارات منذ أشهر، كادت تهدد دمشق. وكان وجود جبهة النصرة، وكتائب قليلة أخرى، يفرض التريث، خوفاً من تقدم يجعل هذه الكتائب في كماشة بين قوات السلطة وجبهة النصرة. لهذا، بدا أن معالجة وضع النصرة يحظى بأولوية. وثانياً، وهو ما بدا أنه ارتبط بعاصفة الحزم، أو بالأساس بالتوافق السعودي القطري التركي. حيث كان تصارع هذه الدول يفكك الكتائب المقاتلة، ويدفعها إلى التناحر فيما بينها، لكن التوافق فرض "تحالف" قوى كانت تتصارع، ما أدى إلى تأسيس "جيش الفتح"، وسيؤسس لتوحيد كتائب أخرى في مناطق أخرى (حلب، القلمون وريف دمشق). ويبدو أن الكتائب حصلت على السلاح، لكي تكون قادرة على تحقيق انتصارات، وتوسيع السيطرة على الأرض، وربما كسر شوكة السلطة في الشمال.
هل إن ما يحكم هذه السياسة هو إسقاط النظام؟ بالتأكيد، لأن هذا ما يصرّح به داعمو التغيير في الوضع العسكري. لهذا، يتمثل الهدف في "كسر أنف" النظام، لكي يظهر ضعفه، وعجز إيران عن حمايته. وبالتالي، الانتقال إلى فرض الحل السياسي، على أساس مبادئ جنيف1. هذا بالضبط هو هدف "توحيد القوى"، وتحقيق انتصارات، وربما كذلك حدوث انهيار في أجهزة السلطة، تدفع إلى التدخل السريع، من أجل فرض الحل بموافقة إيرانية، بعد أن بان عجزها عن إبقاء النظام، الأمر الذي يعني إنهاء سلطة بشار الأسد بالضرورة بشكل ما، ترحيل أو قتل، أو هروب.
لهذا، يجب التدقيق في كل الخطوات التي تجري لإعادة ترتيب وضع المعارضة التي يمكن أن تشارك في الحل، بعد أن بات التعامل الدولي يقوم على التواصل مع أفراد وليس هيئات، وعلى الاختيار من كل طرف يسعى لكي يؤثر في الحل. أما من سيمثل السلطة، فليس واضحاً بعد، لكن بالضرورة لن يكون بشار الأسد ومفاوضوه.
ربما يكون الوضع الإقليمي قد وصل إلى مرحلة "التوافق"، فقد تقزمت إيران، ليس في سورية واليمن فقط، بل في العراق كذلك، وبات عليها أن تقبل حدود الدور الذي تقرره أميركا. وهذا يعني قبول الحل السوري الذي تحدد في مبادئ جنيف1، بعد مقاومة ومراوغة، عامين ونصف، أسهمت فيها بكل القتل والتدمير في سورية. لكن الحل هو "توافق دولي". لهذا سيمثل مصالح هؤلاء، وبالتالي، لن تحقق مطالب الشعب التي حكمت انطلاق ثورته، ما يمكن أن تحققه وقف العنف والوحشية والاعتقال، وربما بعض الحرية، الحرية التي كانت الشعار الأول الذي طرحه شباب الثورة، وهم يحلمون بتحقيق تغيير عميق من دون دم.