بتأملنا لبناء الأوركسترا التي جرى اختيار عدد آلات الكونترباص فيها وفقاً لعدد آلات التشيللو الذي حدّده عدد آلات الفيولا وفقاً لمجموع آلات الكمان؛ نحصر سبب وجود ثمانين آلة موسيقية على خشبة المسرح لتعزف مقطوعة أُلّفت ودُوّنت في القرن السادس عشر.
هذه المقدمة ليست من باب المفاضلة المبطنة، وإنما لسهولة ووفرة المصادر والمراجع، وما نجده من تدوين وتوثيق لأدق التفاصيل المقروءة والمسموعة والمرئية في الموسيقى الكلاسيكية الغربية، مقابل صعوبة وندرة ما يخص الموسيقى الكلاسيكية العربية؛ إذ قلما نجد نوتة تتطابق مع ما يُعزف، وقلما نجد سماعياً ثقيلاً واحداً يُعزف بنفس أبعاد النغم أو السرعة أو حتى الطبقة.
يذهب بعضهم إلى القول إن الموسيقى العربية الكلاسيكية تناثرت وضاعت بسبب عدم التدوين، علماً بأن الكندي (801 -873) دوّن النغم مُستخدماً الأحرف الأبجدية، ومن بعده الفارابي (872 - 950) فعل ذلك. وتعود أنضج محاولات التدوين النغمي إلى صفي الدين الأرموي (1216-1294) صاحب كتاب "الأدوار في الموسيقى"، واضعاً الأرقام تحت الأحرف لتبيان الزمن، وذاكراً لاسم الإصبع المستخدم بالضغط على الوتر لتشكيل معالم المقام والنغم المدوَّن.
استمرت طريقة الأرموي في التدوين إلى أن طوّرها ديمتري كانتمير (1673-1723) أحد الرهائن الرومان الذين كانوا يعيشون في بلاط السلطان العثماني، ونجح بتوثيق ما يقارب 350 مقطوعة عثمانية كانت تعزف في البلاط، مدونة بالطريقة الأبجدية العربية للسلطان أحمد الثالث.
مهدت مؤلفات كانتمير الطريق للعديد من المدونين العثمانيين لتنقيح هذا الإرث، منهم مصطفى كيني الذي وضع كتاباً ضم مجموعة متنوعة من المؤلفات؛ مستفيداً من تجربة كانتمير. وأثمرت هذه الجهود وتراكماتها إلى إنتاج عدة أعمال تحيي تلك الحقبة، منها ألبوم "البحث عن الصوت المفقود" (1999) لفرقة "بزمارا" معتمدة على تدوين كانتمير نفسه، مستخدمة الآلات الموسيقية نفسها.
أما عربياً، فلم نعرف أي تدوين متطوّر بعد الأرموي سوى تدوين الموسيقي فيلوتو الذي ضمَّه نابليون مع غيره من العلماء في "حملته" على مصر. وبدأ دخول التدوين بالأسلوب الغربي إلى الثقافة العربية مع فترة محمد علي باشا.
المهتم بالموسيقى الكلاسيكية العربية لا يعرف عن موروثه الكلاسيكي سوى أعمال سيد درويش، وعلى أبعد تقدير بعض الموشحات التي نُسبت إلى التراث؛ إذ إن ثقافة الاستسهال هي تفسير لما صارت إليه الموسيقى العربية. فكلمة تراث، أسهل من أن نُتعب أنفسنا بمعرفة اسم المؤلف، والمايكروفون أسهل من إعادة التفكير بسبب وجود آلة عود واحدة مقابل عشر كمنجات، والاستعراض الشكلي بالأداء أسهل من إتقان المضمون، والهجرة للمزج بين ثقافات أخرى أسهل من البقاء للتنقيب في ما نملك؛ ما جعل اسم زرياب قابلاً لأن يكون اسماً كباقي أسماء أبطال الأساطير العربية، لا غير.* موسيقي من فلسطين