لعل بذوراً أولى للتفكير النسوي وللاعتراف بالمرأة قارئةً وذاتاً واعية يُعثَر عليها عند ديكارت، في رسالة وجّهها إلى الأب فاتْيِيه، في شباط/ فبراير 1638، وورد فيها أثناء حديثه عن كتابه خطاب المنهج قوله: "هذا الكتاب الذي أرَدْتُ أن تَفْهَم النساء شيئاً منه، وأيضاً لكي يجد فيه الأشخاص الأكثر نباهة مادة للاهتمام".
والاعتراف سمة تطبع ديكارت، فقد صرّح في الكتاب نفسه: "إذا كنت أكتُب بالفرنسية، لغة بلدي، بدل اللاتينية لغة أساتذتي، فلأني أرغب في أنْ يكون الحكم على آرائي صادراً عن أولئك الذين يستخدمون عقلهم الطبيعي الخالص، وليس أولئك الذين يؤمنون بالكتب القديمة فقط".
وجليٌّ أنه يقصد بأولئك من يعتمدون اللاتينية في كتابتهم وقراءتهم، وبذلك يكون ديكارت وهو يحرّر بالفرنسية رأساً، اللغة التي كانت تُعدُّ حينها وضيعةً ومُبتذَلة، بعكس اللاتينية المكرَّسة من قبل الكنيسة ورجال الفكر، قد خاض في مغامرة أخطر مما يُمكن تصوُّره؛ لقد حوَّل المعرفة السائدة والمتداولة باللاتينية إلى كلمات وعبارات وخطاب بالفرنسية، بمعنى أنه مارس الترجمة، لأنه كان يُفكّر بجهاز مفاهيمي لغته اللاتينية ويكتب بالفرنسية، فأثبت رهانَه على اللغة المبتذلة لغةِ بلده من جهة أولى، وبفعله هذا يكون قد اعترَف للترجمة بدورها في التأسيس لهويّة ولمرحلة معرفية وثقافية ثورية، من جهة ثانية، أفضت إلى استقلال اللغات المحليّة بذاتها في أوروبا، بانفصالها عن اللاتينية، وكان ذلك فعلاً ترجميّاً، حسب دريدا، و"الترجمة تهم الكتابة هنا، وهي نقل لكلام ممكن كي يصبح كتابة"، وقد سبقه بقرن أمر ملكي أصدره فْرَانْسْوَا الأول سنة 1535، باعتماد الفرنسية كتابةً في إدارات الدولة.
يتضح، إذن، أن للدولة بقرارات سياسيِّيها دوراً تأثيريّاً مهماً في المجال الثقافي؛ وفي رسم ملامح مخصوصة لمجتمعها. وبصدد الترجمة، لا يخفى أن اعتراف الدولة بهذه الممارسة الثقافية، عَبْر إنشاء مؤسّسات تُعنى بها وتُشجِّع عليها، يُقدِّم فكرة عن درجة الوعي المتقدّم لدى قادتها، الذي يتجلّى في اهتمامهم بالترويج لصورة معيّنة عن مجتمعهم.
إنَّ إنشاء الدولة لمؤسّسات جامعية متخصّصة في الترجمة، وتمويل مراكز علمية لها؛ تنكبّ على ترجمة أدب مُبدِعيها إلى اللغات المحليّة والأجنبية، وعلى نقل الفكر والأدب العالميّيْن إلى لغتها أو لغاتها، وبتخصيصها جوائز في الترجمة لمترجِميها مواطِنينَ وأجانب، تكون تروِّج لأدبها وفكرها، وتقدِّم صورة متنوّرة عن نظامها ومجتمعها باعتبارهما مجالاً متفتِّحاً، وفضاء متنوِّعاً، لا يتردّد في استضافة الغريب والإفادة منه دون تهيُّب أو توجس، فتَكشف بذلك عن إيمانها بالاختلاف، واعترافِها بالترجمة مدخَلاً رئيساً إليه تَسْتحضِره استراتيجيّتُها السياسية.
ويُجسّد المترجِم بنشاطه الوسيطيّ بين الثقافات واللغات وصهره الآفاقَ الصورةَ الفعلية للاعتراف، لأنه عند نقله نصّاً إلى لغته لا يُخفي اعترافه بقيمة النص الأصل الذي يُقدّمه لقرائه، وما عكوفه عليه مترجِماً وسعيه في أغلب الحالات إلى التماهي مع المبدع الأصلي سوى تعبير صريح عن الاعتبار الذي يُوليه إياه.
لكنّ إحدى مآسي المترجِم تتمثّل في كونه يُتّهم بالرغبة في تملُّك النص الأصل، وبإقصائه لصوت المؤلّف، وبتنكُّره لمبدأ الأمانة التي طالما حُبِّرت في شأنها الصفحات، في حين أنّ المسكين لا يدّخر جهداً في نيل الاعتراف به كاتباً، وفي أن يُثبت أنه -على غرار الإله هِرْمس- كاتبٌ كامل وحقيقي لكن من طينة أخرى.
إنَّ الكُتّاب إذا كانوا صانعي أدبَ أمَّتهم، وَفْقَ ساراماغو، فإنّ المترجمين يصنعون الأدب العالمي، أي أنهم يُوسّعون دائرة استقبال الأدب عبر إعادة كتابته وإذاعته بين قُرّاء المعمور، مما يجعلهم، حسب اعتراف صريح من لوفيفر، "فئة يساوي دورها في الأقلّ، إنْ لم نقل يفوق، دور الكُتَّاب أنفسهم".