مرة أخرى يعود "الجيش الوطني" السوري، التابع للمعارضة السورية، إلى واجهة المشهد السوري المعارض، بعد وفاة معتقل في سجون هذا الجيش في مدينة تل أبيض في ريف الرقة الشمالي في الشمال الشرقي من البلاد، الذي يشهد حالة فلتان أمني وغياب ضبط سلوك مجموعات منفلتة، تمارس مختلف أنواع التجاوزات بحق المدنيين.
وتُوفي السبت الماضي فارس الكراف الحميدي في سجون الشرطة العسكرية التابعة لـ"لجيش الوطني"، الذي يسيطر على المنطقة منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عقب عملية عسكرية للجيش التركي في منطقة شرقي نهر الفرات. وتعددت الروايات حول وفاة الموقوف، إذ أكد أقرباء المتوفى أنه قُتل تحت التعذيب، بينما يؤكد الجيش أن "الموقوف" كان مريضاً، معلناً أنه فتح تحقيقاً لمعرفة ملابسات الحادث، الذي يضاف إلى سلسلة طويلة من الانتهاكات التي تُرتكب من قبل بعض فصائل المعارضة في المناطق التي تسيطر عليها على طول الشمال السوري المتاخم للحدود مع الجانب التركي.
أعلن "الجيش الوطني" السوري فتح تحقيق في وفاة الموقوف فارس الكراف الحميدي
وذكر المتحدث الرسمي باسم "الجيش الوطني"، الرائد يوسف حمود، أن الشرطة العسكرية والقضاء العسكري في الجيش "فتحا تحقيقاً لكشف ملابسات ما جرى". وأشار إلى أن "حجم المشاكل كبير في المنطقة، ونعترف بذلك، والتحدي لضبطها أكبر، وستُضبط". كما أكد أن "الجيش الوطني لا يقبل بأي تجاوز بحق أي سجين، أو بحق أي مدني"، مضيفاً "نحن نطبق القوانين بحق الموقوفين في سجون الجيش الوطني. معنيون بالحد من الجرائم بكل أشكالها في المناطق التي تقع تحت سيطرة الجيش الوطني". من جهته، نفى قيادي آخر في "الجيش الوطني" وفاة الحميدي تحت التعذيب، مؤكداً أن "الجبهة الشامية" (فصيل تابع إلى "الجيش الوطني" يسيطر على تل أبيض) أكدت أن المتوفى كان مريضاً ولم تنقطع زيارة الطبيب له طيلة فترة احتجازه، مضيفاً أن "القضاء العسكري يجري تحقيقاً الآن".
وأفادت مصادر محلية بأن المتوفى كان يعمل مع "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) التي كانت تسيطر على منطقة تل أبيض، مشيرة إلى أنه سلّم نفسه لـ"الجيش الوطني" بضمان تقديمه لمحاكمة، مؤكدة بالفعل أنه كان مصاباً بداء السكري. من جهته، قال الناشط ماهر العايد، وهو أحد أقارب القتيل، إن الحميدي كان عنصراً في "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) وتركها إبان سيطرة "الجيش الوطني" على مدينة تل أبيض أواخر العام الماضي، وجلس في منزله، ولم يزر مناطق سيطرتها منذ ذلك الوقت. وأضاف أن قريبه سلّم نفسه للشرطة العسكرية حين طلبت "الجبهة الشامية" من العناصر السابقين في "قسد" القيام بهذا الأمر، وبقي في سجونها منذ سيطرتها على المدينة. وأشار إلى أن الحميدي قتل تحت التعذيب ضرباً وبالكهرباء. ولم يذكر إذا ما تمت إدانته أو تقديمه للقضاء العسكري التابع لـ"الجيش الوطني" في المنطقة. بينما أشار المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى أن الحميدي قتل بسبب رفضه دفع غرامة مالية كبيرة مقابل الإفراج عنه.
ولا يعد حادث مدينة تل أبيض سابقة في المناطق التي يسيطر عليها "الجيش الوطني"، إذ تكثر التجاوزات مع تردي الوضع الأمني في هذه المناطق. ويسيطر هذا الجيش على أربع مناطق في شمال سورية، هي "غصن الزيتون" التي تضم مدينة عفرين وريفها شمال غربي مدينة حلب، و"درع الفرات" التي تضم الجانب الأكبر من ريف حلب الشمالي والشمالي الشرقي، وأبرز مدنها الباب، والراعي، ومارع، وجرابلس. كما تقع منطقة أعزاز في ريف حلب الشمالي تحت سيطرة فصائل "الجيش الوطني"، إضافة إلى منطقة "نبع السلام" في شرقي نهر الفرات، والتي تمتد على 100 كيلومتر وبعمق 30 كيلومتراً، وأبرز مدنها تل أبيض، ورأس العين.
أشار أحد أقارب المتوفى إلى أن الحميدي قتل تحت التعذيب ضرباً وبالكهرباء
وكان "الجيش الوطني" قد تأسس بدفع ودعم تركي أوائل عام 2017، بعد عملية "درع الفرات" التي سيطرت خلالها فصائل الجيش السوري الحر، بإسنادٍ تركي، على مساحة كبيرة من الشمال السوري، عقب طرد تنظيم "داعش" منها. وضم "الجيش الوطني" عدة فصائل مقاتلة في ريف حلب الشمالي، منها: "الجبهة الشامية"، و"فرقة السلطان مراد" و"فرقة الحمزة" و"لواء المعتصم". وفي الرابع من أكتوبر/تشرين الأول 2019، تأسس أكبر "جيش" عسكري للثورة السورية في مناطق الشمال، عبر اندماج "الجيش الوطني" مع "الجبهة الوطنية للتحرير" التي تضم فصائل في محافظة إدلب، تحت مظلة وقيادة الحكومة السورية المؤقتة التي تتبع للائتلاف الوطني المعارض. وأعلن رئيس الحكومة المؤقتة عبد الرحمن مصطفى، توحيد "الجبهة الوطنية للتحرير" و"الجيش الوطني" تحت سقف وزارة الدفاع، ليكون بذلك "الجيش الوطني" مؤلفاً من سبعة فيالق، ويحتوي على نحو 80 ألف مقاتل. وتضم "الجبهة الوطنية للتحرير" كلاً من "فيلق الشام، وجيش إدلب الحر، والفرقة الساحلية الأولى، والجيش الثاني، والفرقة الساحلية الثانية، وجيش النخبة، والفرقة الأولى مشاة، وجيش النصر، وشهداء الإسلام (فصائل داريا)، ولواء الحرية، والفرقة 23".
ويشرف وزير الدفاع في الحكومة المؤقتة، سليم إدريس، على "الجيش الوطني"، الذي كان رأس الحربة في عملية "نبع السلام" في منطقة شرقي نهر الفرات. وينتشر هذا الجيش في ريف حلب الشمالي، وفي منطقة عفرين، وبعض المناطق في محافظة إدلب، إضافة إلى مدينتي تل أبيض ورأس العين وريفهما. ويُؤخذ على هذا الجيش عدم ضبطه الوضع الأمني في مناطق سيطرته التي تتعرض بين فترة وأخرى لعمليات تفجير تودي بحياة مدنيين، لعل أبرزها الهجوم الدموي غير المسبوق، والذي أودى بحياة العشرات في مدينة عفرين أواخر إبريل/نيسان الماضي، بعد انفجار صهريج مفخخ في سوق مزدحم. كما تتعرض مدينتا تل أبيض ورأس العين لتفجيرات بسيارات مفخخة منذ سيطرة "الجيش الوطني" عليهما أواخر العام الماضي، أبرزها الانفجار الذي ضرب تل أبيض في فبراير/شباط الماضي، وأدى إلى مقتل وإصابة العشرات من المدنيين.
وتُتهم "وحدات حماية الشعب" الكردية بالوقوف خلف هذه التفجيرات، ما يؤكد حالة الفوضى والفلتان الأمني بسبب تراخي القبضة الأمنية للفصائل في مناطق سيطرتها. كما تتهم بعض فصائل "الجيش الوطني" بالاعتداء على المدنيين وممتلكاتهم والاعتقال خارج القانون، تحت عدة مبررات، أبرزها الاتهام بالتعاون مع "قسد". واقتتلت بعض فصائل "الجيش الوطني" بينها في كل المناطق التي تسيطر عليها في الشمال السوري لأسباب تتعلق بالنفوذ. وآخر فصول الاحتراب الداخلي كان القتال الذي دار في مايو/أيار الماضي بين "أحرار الشرقية" و"الفرقة 20"، وهو ما دفع الجانب التركي إلى التدخل لإيقافه.