لم يكن التورط العربي داعماً لقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب فقط بل كان مقدمة ومدخلاً له، ولا سيما أن ترامب انطلق في قراره بعد ارتياحه لمستوى العلاقات الخليجية – الإسرائيلية، فكان الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل مجرد تتويج لما بدأته السعودية التي قبلت من قبل، ومررت وصف ترامب للمقاومة الفلسطينية بالإرهاب، واستدعت له زعماء العرب والمسلمين ليقول قولته ويخطب بهم في قمتهم، وإن كانت المقاومة إرهاباً كبالون اختبار، فإن نقل السفارة إلى القدس نتيجة، وليست مجرد قرار، لم تكن نكبة فلسطين في عام 1948 منعزلة عن واقع النظام الرسمي العربي وحساباته وسوء تقديراته، بل إن فهم النكبة ومن بعدها النكسة لا يمكن بمعزل عن استحضار الدور العربي وتعاطيه مع الأمر، وهو تعاطٍ يطول شرحه والحديث عنه لكن التاريخ لم يغفله، كما لم يغفل حسابات "حسين ــ مكماهون" من قبل، وإن اختلفت الحيثيات فإن النتائج واحدة، بل إن جزءاً مركزياً من نتائج النكبة والتهجير نتج عن سوء التقدير في حسابات النظام الرسمي العربي وتطور الأمر بعد ذلك لتصبح فلسطين ممرا اختياريا للعواصم العربية صوب مصالحها وحساباتها ليختتم الأمر بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
حينما وقعت النكبة لم يكن بمقدور جيلنا متابعة حيثيات التعاطي العربي الرسمي معها، ولكن الأقدار شاءت أن نعيش نكبة جديدة بكل تفاصيلها وبكل ما لها وعليها، نكبة الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل، لم يكن قرار ترامب بنقل السفارة الأميركية للقدس أكثر من نتيجة لتواطؤ عربي رسمي مقصود وقديم ومتدحرج، قرار ترامب في دلالاته يتجاوز توصيف واقع النظام الرسمي العربي وعجزه، وفي تبعاته يتجاوز التعليق على حالة الانقسام العربي ويتجاوز القدس ويتجاوز القضية الفلسطينية، قرار ترامب مر عبر العواصم العربية قبل أن يُقر بالقدس عاصمة للدولة اليهودية.
تضحية العرب بالقدس لم تتزامن مع قرار ترامب ولا يمكن إيجاز التورط أو اختصاره في البيان الختامي الذي أصدره وزراء الخارجية العرب الذين اكتفوا بوصف القرار بالباطل، التورط العربي في القدس أعمق من ذلك وأقدم من القرار الأميركي، موضوعيا يمكن التأسيس للتورط العربي المعاصر في تضييع القدس من اللحظة التي كُشف فيها اللثام عن تورط عواصم عربية في السمسرة لبيع أراضي وعقارات القدس للمستوطنين، وهو أمر مكشوف وأفردت له الحركة الإسلامية في الداخل مساحات ووثقته في عام 2014 عندما كشفت عن تورط الإمارات ببيع عقارات بالقدس لإسرائيل.
لم يردع كشف التورط الإماراتي في بيع عقارات القدس التدحرج صوب إسرائيل بل تطور الأمر وانتقلت العلاقة مع إسرائيل من السرية إلى العلنية ومن العواصم الأوروبية إلى العواصم العربية. ومن السمسرة في عقارات القدس إلى عرض القضية الفلسطينية كلها في مزادات على شكل مبادرات. فكانت النتيجة أن يتبجح ترامب بإبلاغ الزعماء العرب عن عزمه نقل السفارة الأميركية للقدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل.
قد يصعب استدعاء التعاطي العربي الرسمي على حدوث النكبة الأولى عام 1948، لكن ماذا عن نكبة قرار ترامب؟ لا يختلف الأمر كثيرا إطلاقا، فقط في المرة الأولى كان العرب أكثر تجرأ على فلسطين وشعبها، وكان الإسرائيليون أكثر سرية، واقتضى تمرير النكبة تحرك الجيوش العربية شكلا وإبقاء الصفقة قيد الكتمان، في نكبة قرار ترامب لم تحرك الجيوش ولم تتكتم إسرائيل على الموقف العربي، بل سارع مراسل القناة العبرية العاشرة إلى القول إن قرار ترامب كان بالتنسيق مع الرياض والقاهرة وأبوظبي، ولأن الواقع العربي الرسمي تردى إلى الحد الذي بات هو من يبادر بالتطلع للوصول إلى الذهاب إلى تل أبيب، بدت رواية النكبة الأولى أكثر مصداقية مما يحدث الآن، ففي نكبة 1948 اكتفى العرب بالصمت بينما في نكبة ترامب ذهبوا بعيدا إلى الحد الذي باتت فيه تصفية القضية الفلسطينية أحد محددات التقارب العربي مع تل أبيب. وتطوّع بعض العرب بعرض أبو ديس عاصمة للدولة الفلسطينية، هكذا اختصر ولي العهد السعودي القضية وكأنها بحث عن عاصمة.
ربما يصعب البناء على رواية مراسل القناة العاشرة بتورط عواصم عربية بدعم قرار ترامب، وهي رواية بالمناسبة موثقة بالصوت والصورة، فالرجل يقول إن قرار نقل السفارة لا يمكن أن يتم دون التنسيق عربيا، وإن السعودية أعطت ترامب الضوء الأخضر لتنفيذ قراره بنقل السفارة، تمهيدا للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. هذا تصوير مشوه من يعطي من الضوء الأخضر!
تقتضي الموضوعية ألا يبنى تقدير الموقف العربي من القدس على رواية واحدة، خاصة إذا كانت رواية إسرائيلية، ولكن ماذا عما قالته صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 4 ديسمبر/كانون الأول 2017 بأن السعودية وتحديدا ولي العهد محمد بن سلمان قد عرض على الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) في زيارته الأخيرة للسعودية مبادرة سلام جديدة تتضمن اختيار بلدة أبو ديس المجاورة لمدينة القدس لتكون عاصمة للدولة الفلسطينية بدلا من مدينة القدس الشرقية. وقد تضمن المقترح السعودي وفقا للصحيفة أن تقوم دولة فلسطينية بسيادة محدودة بلا حق عودة للاجئين الفلسطينيين، وبدون ترابط بين أراضيها وإبقاء غالبية المستوطنات على ألا تشمل التسوية مدينة القدس.
تدحرج الموقف العربي من القدس لم يكن في الصمت عن قرار ترامب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل فحسب، ولم يكن بتقديم المبادرات أو التلويح بالعقوبات على السلطة الفلسطينية، لم يكن التورط العربي داعماً لقرار ترامب فقط بل كان مقدمة ومدخلاً، ولا سيما أن ترامب انطلق في قراره بعد ارتياحه لمستوى العلاقات الخليجية – الإسرائيلية، فكان قرار نقل السفارة مجرد تتويج لما بدأته السعودية التي قبلت من قبل ومررت وصف ترامب للمقاومة الفلسطينية بالإرهاب، واستدعت له زعماء العرب والمسلمين ليقول قولته ويخطب بهم في قمتهم، وإن كانت المقاومة إرهاباً كبالون اختبار، فإن نقل السفارة إلى القدس نتيجة، وليست مجرد قرار.
وبالتالي لم يقرر ترامب نقل السفارة والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل بمعزل عن معطيات وشواهد ومؤشرات عربية سعودية سهلت له ومهدت لقراره، وهي شواهد يصعب حصرها، لكن سأكتفي بذكر ما مرّ منها خلال شهر نكبة ترامب.
في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 كُشف عن وثيقة سعودية موجهة من وزير الخارجية السعودي عادل الجبير إلى ولي عهد المملكة محمد بن سلمان، وفيها خلاصة مباحثات وتوصيات حول مشروع إقامة علاقات بين السعودية وإسرائيل، استنادا إلى ما أسماه اتفاق الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. وتبيّن الوثيقة حجم التنازلات التي تنوي الرياض تقديمها في سياق تصفية القضية الفلسطينية.
وإذا عدنا لما قبل تسريب الوثيقة بأربعة أيام وتحديدا في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 سنجد وزيرة الخارجية السابقة وعضو الكنيست تسيبي ليفني قد نشرت عبر حسابها على موقع تويتر صورة تجمعها بالرئيس الأسبق للاستخبارات السعودية تركي الفيصل، وعلقت ليفني على الصورة بأن السلام الإقليمي الكامل والتطبيع سيتحقق، ليتضح لاحقا بأن هناك صورة أخرى تجمع الأمير تركي مع رئيس الموساد السابق إفرايم هليفي، ولم ينكر الأمير الصورة، بل برر اللقاء بأنه من أجل القول إن فلسطين هي القضية الأولى.
ترامب كان واضحا وصريحا عندما قال إن الأوضاع الآن مواتية جدا لقرار نقل السفارة والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وقد أصاب الرجل في توصيفه هذا، فلم يكن العرب يوما بهذا التدحرج صوب إسرائيل، وبهذا الزخم في تقديم المبادرات، حتى تحول المشهد من استدارة إسرائيل نحو العرب والبحث عن مكان تحت الشمس بينهم، كما كان يأمل نتنياهو في كتابه منتصف التسعينيات؛ وبات العرب هم الذين يبحثون عن مكان تحت الشمس الإسرائيلية، ففي مايو/ أيار الماضي كشفت "هآرتس" نقلا عن "وول ستريت جورنال" أن عدة دول في الخليج، وفي مقدمتها السعودية والإمارات، قامت بإعداد مقترح توافق فيه هذه الدول على تنفيذ عدة خطوات لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وحسب الصحيفة فإن السعودية والإمارات المتحدة أطلعتا الإدارة الأميركية وإسرائيل على الاقتراح. ليس مستغربا إذن إطلاع ترامب هذه الدول على قراره بخصوص السفارة.
المفارقة في الموقف السعودي لا تتوقف ملامحها عند ما قبل إقرار ترامب بنقل السفارة، بل تتعدى ذلك للتزامن مع توقيت الإعلان، فعندما كان ترامب يعلن القدس عاصمة لإسرائيل كان روبرت ساتلوف مدير معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى والمعروف بانحيازه لإسرائيل برفقة 50 من زملائه يزورون السعودية، ويلتقون بولي العهد محمد بن سلمان على وقع خطاب ترامب واعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، ويصف ساتلوف الأمر قائلا إن ولي العهد لم يأت على ذكر القدس مطلقا تلك الليلة، وعندما اجتمع في الصباح بالأمير مرة أخرى عقب إعلان ترامب، لم يرد ذكر القدس على لسانه، واكتفى بن سلمان بوصف قرار ترامب بأنه مخيب للآمال.
إن أدق وصف لغضّ النظر السعودي عما ذهب إليه ترامب يتمثل في قول ساتلوف "إن ما نعتبره معبّرا عن العالم الإسلامي وغضبه هو ما يأتي من السعودية، أما ما يجري في البلدان الأخرى فقد كنا نتوقعه ولا نأخذه في حساباتنا".
لم تتوقف حدود التماهي مع ترامب وإسرائيل عند قرار نقل السفارة، بل تمدد التدحرج حتى أعلن موقع "ميدل إيست آي" البريطاني أن ولي العهد السعودي طلب من الرئيس محمود عباس الغياب عن القمة الإسلامية التي عقدت في تركيا لبحث تداعيات قرار ترامب بنقل السفارة الأميركية والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
لم يكن ترامب ليجرؤ على قرار نقل السفارة لو وجد ردا عربيا حقيقيا موضوعيا يليق بالقدس، لكنه وجد هرولة عربية صوب إسرائيل، وهي هرولة لا تمانع من تقديم القدس على قربان التقارب والتماهي مع إسرائيل، لم يجد ترامب من يخبره أن أي اقتراب من القدس سيعني سحب السفراء العرب وطرد سفراء واشنطن، لم يسمع ردا من ملك السعودية سلمان بن عبد العزيز يخبره أن القدس جزء من العقيدة وجزء من الدين وجزء من الإسراء وأنها القبلة الأولى. سيذكر التاريخ رواية نكبة ترامب كاملة، كما روى من قبل رواية "حسين - مكماهون" ورواية نكبة عام 1948، سيروي أن ثمن التقارب بين السعودية والإمارات مع إسرائيل هو القدس التي قرر ترامب نكبتها في أزهى عصور العلاقات العربية مع إسرائيل.
تضحية العرب بالقدس لم تتزامن مع قرار ترامب ولا يمكن إيجاز التورط أو اختصاره في البيان الختامي الذي أصدره وزراء الخارجية العرب الذين اكتفوا بوصف القرار بالباطل، التورط العربي في القدس أعمق من ذلك وأقدم من القرار الأميركي، موضوعيا يمكن التأسيس للتورط العربي المعاصر في تضييع القدس من اللحظة التي كُشف فيها اللثام عن تورط عواصم عربية في السمسرة لبيع أراضي وعقارات القدس للمستوطنين، وهو أمر مكشوف وأفردت له الحركة الإسلامية في الداخل مساحات ووثقته في عام 2014 عندما كشفت عن تورط الإمارات ببيع عقارات بالقدس لإسرائيل.
لم يردع كشف التورط الإماراتي في بيع عقارات القدس التدحرج صوب إسرائيل بل تطور الأمر وانتقلت العلاقة مع إسرائيل من السرية إلى العلنية ومن العواصم الأوروبية إلى العواصم العربية. ومن السمسرة في عقارات القدس إلى عرض القضية الفلسطينية كلها في مزادات على شكل مبادرات. فكانت النتيجة أن يتبجح ترامب بإبلاغ الزعماء العرب عن عزمه نقل السفارة الأميركية للقدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل.
قد يصعب استدعاء التعاطي العربي الرسمي على حدوث النكبة الأولى عام 1948، لكن ماذا عن نكبة قرار ترامب؟ لا يختلف الأمر كثيرا إطلاقا، فقط في المرة الأولى كان العرب أكثر تجرأ على فلسطين وشعبها، وكان الإسرائيليون أكثر سرية، واقتضى تمرير النكبة تحرك الجيوش العربية شكلا وإبقاء الصفقة قيد الكتمان، في نكبة قرار ترامب لم تحرك الجيوش ولم تتكتم إسرائيل على الموقف العربي، بل سارع مراسل القناة العبرية العاشرة إلى القول إن قرار ترامب كان بالتنسيق مع الرياض والقاهرة وأبوظبي، ولأن الواقع العربي الرسمي تردى إلى الحد الذي بات هو من يبادر بالتطلع للوصول إلى الذهاب إلى تل أبيب، بدت رواية النكبة الأولى أكثر مصداقية مما يحدث الآن، ففي نكبة 1948 اكتفى العرب بالصمت بينما في نكبة ترامب ذهبوا بعيدا إلى الحد الذي باتت فيه تصفية القضية الفلسطينية أحد محددات التقارب العربي مع تل أبيب. وتطوّع بعض العرب بعرض أبو ديس عاصمة للدولة الفلسطينية، هكذا اختصر ولي العهد السعودي القضية وكأنها بحث عن عاصمة.
ربما يصعب البناء على رواية مراسل القناة العاشرة بتورط عواصم عربية بدعم قرار ترامب، وهي رواية بالمناسبة موثقة بالصوت والصورة، فالرجل يقول إن قرار نقل السفارة لا يمكن أن يتم دون التنسيق عربيا، وإن السعودية أعطت ترامب الضوء الأخضر لتنفيذ قراره بنقل السفارة، تمهيدا للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. هذا تصوير مشوه من يعطي من الضوء الأخضر!
تقتضي الموضوعية ألا يبنى تقدير الموقف العربي من القدس على رواية واحدة، خاصة إذا كانت رواية إسرائيلية، ولكن ماذا عما قالته صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 4 ديسمبر/كانون الأول 2017 بأن السعودية وتحديدا ولي العهد محمد بن سلمان قد عرض على الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) في زيارته الأخيرة للسعودية مبادرة سلام جديدة تتضمن اختيار بلدة أبو ديس المجاورة لمدينة القدس لتكون عاصمة للدولة الفلسطينية بدلا من مدينة القدس الشرقية. وقد تضمن المقترح السعودي وفقا للصحيفة أن تقوم دولة فلسطينية بسيادة محدودة بلا حق عودة للاجئين الفلسطينيين، وبدون ترابط بين أراضيها وإبقاء غالبية المستوطنات على ألا تشمل التسوية مدينة القدس.
تدحرج الموقف العربي من القدس لم يكن في الصمت عن قرار ترامب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل فحسب، ولم يكن بتقديم المبادرات أو التلويح بالعقوبات على السلطة الفلسطينية، لم يكن التورط العربي داعماً لقرار ترامب فقط بل كان مقدمة ومدخلاً، ولا سيما أن ترامب انطلق في قراره بعد ارتياحه لمستوى العلاقات الخليجية – الإسرائيلية، فكان قرار نقل السفارة مجرد تتويج لما بدأته السعودية التي قبلت من قبل ومررت وصف ترامب للمقاومة الفلسطينية بالإرهاب، واستدعت له زعماء العرب والمسلمين ليقول قولته ويخطب بهم في قمتهم، وإن كانت المقاومة إرهاباً كبالون اختبار، فإن نقل السفارة إلى القدس نتيجة، وليست مجرد قرار.
وبالتالي لم يقرر ترامب نقل السفارة والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل بمعزل عن معطيات وشواهد ومؤشرات عربية سعودية سهلت له ومهدت لقراره، وهي شواهد يصعب حصرها، لكن سأكتفي بذكر ما مرّ منها خلال شهر نكبة ترامب.
في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 كُشف عن وثيقة سعودية موجهة من وزير الخارجية السعودي عادل الجبير إلى ولي عهد المملكة محمد بن سلمان، وفيها خلاصة مباحثات وتوصيات حول مشروع إقامة علاقات بين السعودية وإسرائيل، استنادا إلى ما أسماه اتفاق الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. وتبيّن الوثيقة حجم التنازلات التي تنوي الرياض تقديمها في سياق تصفية القضية الفلسطينية.
وإذا عدنا لما قبل تسريب الوثيقة بأربعة أيام وتحديدا في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 سنجد وزيرة الخارجية السابقة وعضو الكنيست تسيبي ليفني قد نشرت عبر حسابها على موقع تويتر صورة تجمعها بالرئيس الأسبق للاستخبارات السعودية تركي الفيصل، وعلقت ليفني على الصورة بأن السلام الإقليمي الكامل والتطبيع سيتحقق، ليتضح لاحقا بأن هناك صورة أخرى تجمع الأمير تركي مع رئيس الموساد السابق إفرايم هليفي، ولم ينكر الأمير الصورة، بل برر اللقاء بأنه من أجل القول إن فلسطين هي القضية الأولى.
ترامب كان واضحا وصريحا عندما قال إن الأوضاع الآن مواتية جدا لقرار نقل السفارة والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وقد أصاب الرجل في توصيفه هذا، فلم يكن العرب يوما بهذا التدحرج صوب إسرائيل، وبهذا الزخم في تقديم المبادرات، حتى تحول المشهد من استدارة إسرائيل نحو العرب والبحث عن مكان تحت الشمس بينهم، كما كان يأمل نتنياهو في كتابه منتصف التسعينيات؛ وبات العرب هم الذين يبحثون عن مكان تحت الشمس الإسرائيلية، ففي مايو/ أيار الماضي كشفت "هآرتس" نقلا عن "وول ستريت جورنال" أن عدة دول في الخليج، وفي مقدمتها السعودية والإمارات، قامت بإعداد مقترح توافق فيه هذه الدول على تنفيذ عدة خطوات لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وحسب الصحيفة فإن السعودية والإمارات المتحدة أطلعتا الإدارة الأميركية وإسرائيل على الاقتراح. ليس مستغربا إذن إطلاع ترامب هذه الدول على قراره بخصوص السفارة.
المفارقة في الموقف السعودي لا تتوقف ملامحها عند ما قبل إقرار ترامب بنقل السفارة، بل تتعدى ذلك للتزامن مع توقيت الإعلان، فعندما كان ترامب يعلن القدس عاصمة لإسرائيل كان روبرت ساتلوف مدير معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى والمعروف بانحيازه لإسرائيل برفقة 50 من زملائه يزورون السعودية، ويلتقون بولي العهد محمد بن سلمان على وقع خطاب ترامب واعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، ويصف ساتلوف الأمر قائلا إن ولي العهد لم يأت على ذكر القدس مطلقا تلك الليلة، وعندما اجتمع في الصباح بالأمير مرة أخرى عقب إعلان ترامب، لم يرد ذكر القدس على لسانه، واكتفى بن سلمان بوصف قرار ترامب بأنه مخيب للآمال.
إن أدق وصف لغضّ النظر السعودي عما ذهب إليه ترامب يتمثل في قول ساتلوف "إن ما نعتبره معبّرا عن العالم الإسلامي وغضبه هو ما يأتي من السعودية، أما ما يجري في البلدان الأخرى فقد كنا نتوقعه ولا نأخذه في حساباتنا".
لم تتوقف حدود التماهي مع ترامب وإسرائيل عند قرار نقل السفارة، بل تمدد التدحرج حتى أعلن موقع "ميدل إيست آي" البريطاني أن ولي العهد السعودي طلب من الرئيس محمود عباس الغياب عن القمة الإسلامية التي عقدت في تركيا لبحث تداعيات قرار ترامب بنقل السفارة الأميركية والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
لم يكن ترامب ليجرؤ على قرار نقل السفارة لو وجد ردا عربيا حقيقيا موضوعيا يليق بالقدس، لكنه وجد هرولة عربية صوب إسرائيل، وهي هرولة لا تمانع من تقديم القدس على قربان التقارب والتماهي مع إسرائيل، لم يجد ترامب من يخبره أن أي اقتراب من القدس سيعني سحب السفراء العرب وطرد سفراء واشنطن، لم يسمع ردا من ملك السعودية سلمان بن عبد العزيز يخبره أن القدس جزء من العقيدة وجزء من الدين وجزء من الإسراء وأنها القبلة الأولى. سيذكر التاريخ رواية نكبة ترامب كاملة، كما روى من قبل رواية "حسين - مكماهون" ورواية نكبة عام 1948، سيروي أن ثمن التقارب بين السعودية والإمارات مع إسرائيل هو القدس التي قرر ترامب نكبتها في أزهى عصور العلاقات العربية مع إسرائيل.