حدث هذا منذ الأشهر الأولى لانطلاق صحيفة وموقع "العربي الجديد"، مثلما حدث ويحدث لسنوات طويلة مع غيرها.
كاتب هذه السطور عايش بنفسه ذات يوم دمشقي محاولة قراءة صحيفة عربية في دمشق، فوجدها محظورة مع موقعها، بينما حين جرب الدخول إلى موقع "يديعوت أحرنوت"، الذي نشر لفترة بالعربية، كان ولا أسهل.
يدرك الذين عايشوا التنقل بين برامج فك الحظر مستوى ضيق أفق مقص رقيب يتبع سيادته، أينما كان.
كان الرقيب يفتش عن "المؤامرة" في رسائل الناس المكتوبة يدوياً في ثمانينيات القرن الماضي، قبل أن تصبح إلكترونية، ومن ثم مواقع عربية إخبارية.
السموات المفتوحة أشارت دومًا إلى الوجهة التي أوصلنا إليها هذا العقل الذي يخشى الكلمة والصورة. وبمجرد الاطلاع على خطابات تمجيد القادة، سيبرز حجم البؤس الذي نعيشه عربياً، في انتصارات وهمية على قادة العالم، في مبارزة بسيوف خشبية على الشاشات، ضحيتها العقل ليس إلا.
مؤخرًا، ابتدع لنا بعضهم وسيلة تطبيع غير محظورة في إدخال ناطق باسم جيش الاحتلال، حتى حين كان يصوب حممه على غزة، إلى تهنئة بلغة عربية بمناسبات عدة. وليزداد البؤس درجات ها نحن أمام لقاء مع سفاح بمستوى مهاجر روسي كأفيغدور ليبرمان، الذي لم يختلف كثيرا في رغبته بتحطيم جماجم الفلسطينيين والعرب عن الحاخام الأكبر "عوفاديا يوسيف"، الذي حوله بعضهم عنوة "رجل دين يدعو للسلام".
هل ذهاب صحيفة فلسطينية، تحمل اسم مدينة القدس المحتلة، لما سمته "حواراً شاملاً" مع أفيغدور ليبرمان سيفيد القارئ الفلسطيني والعربي بشيء؟ هذا في حال أن بعضهم ردّ الأمر إلى "مهنية" في "معرفة عدوك".
ليس هناك في فلسطين من لا يعرف كيف يفكر المحتلون، على كل المستويات؛ فعرب 48 ليس فيهم من لا يعرف لغة المحتل، بل وأساليبه بأدق تفاصيلها، ويكفي التعرف إلى العقلية الأمنية في مواجهة التجمع الوطني الديمقراطي ووسائله الإعلامية لندرك مدى معرفة عرب الداخل بتلك التفاصيل التي تضايق المحتل... أما في الضفة والقدس وغزة فلا تقل "المعرفة" بالدم واللحم الحي يومياً.
حين يشكو بعض الفلسطينيين محاولات عربية للتطبيع، يبدو الأمر بغير مصداقية حين يمرر بين فينة وأخرى مثل هذا التطبيع تحت اسم "فلتات إعلامية".
تبقى إشارة لا بد منها، وخصوصًا أنها باتت لافتة في الأعوام الماضية؛ ففي زمن الانقلاب على الربيع العربي يصبح المشهد الإعلامي، قراراً وتمويلاً وتوجيهاً، شديد الخصوصية في ركاكته وسطحيته التي تفضح كثيراً أكاذيب المبادئ. بمجرد أن تعرف تحالف الأضداد، نظرياً على الأقل، قبل أن يحيل هؤلاء مجتمعين الثورات العربية إلى مجرد مؤامرة لا أكثر، فلا شيء مستغرباً في أن يصير "العربي الجديد"، على سبيل المثال لا الحصر، قضية مشتركة في قصة الحظر وتصويب السهام المسمومة باتهامات تسقط عند أول تصادم مع الوقائع.
هل نتذكر، بعضنا على الأقل، كيف كانت وسائل إعلام وشاشات البعض، في 2011، تبث فرحا لسقوط حسني مبارك بخطاب حماسي: "سقوط نظام كامب ديفيد"؟
من يراقب مشهد السنوات الأخيرة سيدرك مدى البؤس الذي وصل إليه هؤلاء "الممانعون"، و"الجدد" منهم، وهم يكررون نظرية المؤامرة ويتباكون على ذات النظام، مرددين على مسامع ذات الجمهور والقراء "المؤامرة الكونية". أمر عجيب فعلا أن تساق الحقائق مجرورة على رأسها لتحشى في رؤوس المتلقين، وقد تبخرت أعلام مشهد الربيع العربي من خلفية معتلة لعقل أكثر اعتلالا في الانجرار المذهبي الفاقع.
في المقابل، ثمة خطاب، سياسي وفكري على الأقل، يمنح الجمهور تصورات كبرى عن استهداف مُرَكز للعرب، وبينما تصول وتجول في سموات العرب وسائل إعلام تقدم خطاب من يفترض أنه مستهدف في واقعه ومستقبله، وتفكيكه تفكيكا طائفيا، ترى رقابة وحظرا مقيتا بحق الكلمة الناقدة لأدوات وسياسات التعاطي مع تلك التحديات العربية.
لا حاجة الآن للدخول أيضاً في تفاصيل خلق عقل مشوه باستهداف القضية العربية، فلسطين، حتى في وسائل التعليم، كاستكمال لتعويد العقل على أن يصير أشباه أفيغدور ليبرلمان ممن يملكون الحلول لتلك القضية... ويا للعجب... كله باسم "الوطنية" وشعار "اعرف عدوك"... ألم نصب بتخمة معرفية عن العدو بعد؟