01 نوفمبر 2024
التعايُش مع الاستخفاف الأميركي
حتى تبدأ إدارةٌ أميركية جديدة، لا نعرف: هل يكون على رأسها دونالد ترامب (الرهيب)، أم هيلاري كلينتون المتعثِّرة، مِن المرجَّح أن يبقى هذا التعاطي الأميركي مع الحرب شبه المَنسيَّة في سورية، أميركياً، إلا مِن تصريحاتٍ وتحرُّكاتٍ لمَلْء الفراغ، وللتنسيق مع روسيا التي قبلت أن تكون الوجه الأبشع، ظاهرياً: عسكريا، باستمرار القصف التدميري لحلب وإدلب وغيرهما. وسياسياً: بالاستمرار في التمسُّك ببشار الأسد، ونظامه الأمني.
يُصوّر الرئيس الأميركي، المتحدّر من أصول أفريقية، الصراعات (الطائفية) في المنطقة العربية والإسلامية على أنها تاريخية، كما يُلقي باللائمة على بعض دول المنطقة، كالسعودية، في زيادتها منسوب التطرُّف في المنطقة، بسبب مناهجها التعليمية، ودعوتها الوهابية إلى العالم الإسلامي وتمويلها؛ ما أدّى إلى إنتاج جماعاتٍ إرهابيةٍ كالقاعدة، وكداعش، وهو ما صرّح بمثله، حين عزا ازدياد التطرُّف في إندونيسيا إلى الفكر الوهَّابي الذي ترعاه السعودية. ومن هنا، يتفرَّع أوباما، بالزخم، والأولوية، من أصل المشكلة، وهو نظام الأسد الذي تسبَّب ضعفُه، مع تمسِّكه، في تنامي قوة "داعش" وجبهة النصرة، وما شابههما، إلى تلك الجماعات التي تطول معها الحرب، حرباً طويلة على الإرهاب.
وأما الداخل الأميركي، وهو ما يهمُّه أكثر، فأوباما مطمئنٌّ له؛ كون الحسابات الداخلية، ولا سيما الاقتصادية، هي الأكثر تأثيراً، إن لم تكن استحواذاً، وما دام أن سورية – في نظر عموم الأميركان، لا تبدو في صميم تلك المُحرِّكات، بل ما دامت المنطقة العربية تراجَع تأثيرُها، والاحتياج النفطي إليها، فإن نظرية الانكفاء عن الشرق الأوسط، وأزماته المعقدة، ستَلقى قبولا أكبر، ومِنْ أجدَد المؤشِّرات، وأوضحها على قياس الرأي العام، أو المزاج العام، في أميركا، صعود ترامب الذي لا يُخفي عنصريته وفاشيَّته، والذي يرى أن الأميركان لا يمكنهم الاستمرار بالقيام بدور شرطي العالم.
فحتى ما يُسمَّى الصراع العربي الإسرائيلي، وفي الصُّلْب منه القضيَّةُ الفلسطينية، لم يجد أوباما (وهو الذي أبدى اهتماماً لافتاً نحوها) لم يجد حرَجاً في نفْض يديه منها، والإعلان أن الظروف، وتحديداً ظروف الفلسطينيين والإسرائيليين، غير ناضجة لأيِّ تحرُّك جديد، لاستئناف المفاوضات المتوقفة بينهما، منذ نحو عامين، بل حتى التوصُّل الأميركي إلى قناعةٍ بأن حل الدولتين بات أبعد من أيِّ وقتٍ مضى، من دون أن تفعل واشنطن شيئاً لوقف اضمحلال هذا الحل، ومن دون أن تتبنَّى حلاً بديلا، أو رؤية.
والصحيح أنَّ أوباما غالبا يَسُوق هذه المغالطات في وجه من يذكِّره بصدقيَّته المخرومة، وقد ندَّد مراراً ببشار الأسد، وأعلن افتقاد الأخير لشرعية، وطالبه بالرحيل، وفي وجه من يذكّره بخطِّه الأحمر، المتمثِّل في استخدام الأسد الأسلحة الكيماوية.
مفاعيل الحرب الدائرة على سورية أكبر بكثير من مفاعيل التحرُّك لحلِّها، حتى أن تحرُّكات أميركا و"المجتمع الدولي" أقلّ من التعامل مع الأزمة الإنسانية المتفاقمة. هذا يؤكِّد أن "حقوق الإنسان" لا تُفَعّل، أميركيا، إلا وقت اللزوم، وأنَّ الأمم المتحدة، هذه الهيئة العالمية التي يُفترض أنها تمثِّل الأمم والدول في سعيها إلى تحقيق السلام، وحماية المدنيِّين من أهوال الحروب والنزاعات، باتت تُختزَل في أميركا وروسيا، وهي لا تفعل ما يوقف هذه الجرائم التي ترقى إلى وصف جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية.
تفقد أميركا مسوِّغات القيادة العالمية، إنسانياً وأخلاقياً، وهي تبدي اضطراباً عميقاً، وتتسبَّب في
مخاطر قريبة، وطويلة الأمد في هذه المنطقة العربية والإسلامية البالغة التعقيد، بسبب تثوير التناقضات الطائفية والعرقية، بعد سقوط نظام صدام حسين، وتأسيس دستور برعايةٍ وتوجيهٍ أميركيين، قائم على المحاصصة الطائفية، وإسلام العراق، (وبَعْدَه إلى الإقليم) لإيران التي ليست مقبولة لدى شعوب المنطقة، بشكل عام، ولا سيما وهي تتذرَّع بالبُعْد الشيعي، على الرغم من أن جزءاً لا بأس به من شيعة العراق لم يعودوا قادرين على السكوت عن هذا العراق (الإيراني).
يستند أوباما إلى عقيدة سياسية واقعية (وهو المعجب بهنري كيسنجر وواقعيَّته)، فاقترابُه من إيران، وكذلك تجنّبه الخيارات العسكرية في سورية، بتأثيرٍ من تلك العقيدة التي تقترب ممَّا فصّله المفكّر الأميركي الاستراتيجي، جورج كينان، الذي أسّس لسياسة الاحتواء، وبناها على التفريق الأساسي بين المصالح الحيوية والهامشية. فللحرب ما يبرّرها، عندما تتعرّض المصلحة الحيوية للتهديد، على أن تبقى الحرب دوماً استراتيجية الملاذ الأخير. وأما المصالح الهامشيَّة فيكون السعي إليها بطرقٍ أخرى، كالدبلوماسية، والحوافز الاقتصادية والعقوبات، واستخدام المؤسسات المتعددة الأطراف والدولية. ويبدو أن مأساة الشعب السوري التي فاضت إلى دول جوار، وإلى العالم، ليست حتى ضمن الاهتمامات الهامشيَّة.
وأوباما بواقعيَّته تلك، ورغبته في تخفيض النفقات والخسائر، وبإدراكه المزاج الشعبيّ الأميركي، إنما يعاكس عقيدة بوش الابن والمحافظين الجدُد، الصِّدامية والقائمة على الحروب الاستباقية، والميل إلى التفرُّد، والتحلُّل من الاتفاقات أو التحالفات الدولية. لكن أوباما، بالتأكيد، يسعى إلى الأهداف الأميركية نفسها باستبقاء القيادة الأميركية للعالم، ومنه منطقة الشرق الأوسط، ولكن بحروب بالوكالة، وعلى حساب القوى الإقليمية.
أما أن أميركا تمارس دوراً خطيراً على المديين، القريب والطويل، فإنها تترك المنطقة تجنح نحو التقسيم، على أسسٍ طائفيةٍ، (سنة وشيعة) وعرقية (كرد وعرب) أو (كرد وأتراك)، علماً أن ظروف المنطقة، حاليا، وقدرة أميركا على الإمساك بخيوط هذه التشكُّلات، أو التحلّلات، مغايرة للظروف والمعطيات التي كانت عشيَّة اتفاقية سايكس بيكو؛ فالأزمات في المنطقة شديدة التداخل، مع ثورة الاتصالات، ومع تخلخُل بنى الدول المركزية، من دون مؤشِّراتٍ على نضج كيانات بديلة، قادرة التبلور، أو قادرة على الصمود والحياة.
وهنا، والآن، معطى جديد، هو صعود (الحركات الجهادية) العابرة للحدود، وغير المعترِفة بالتقسيمات الحالية، فضلاً عن اعترافها، أو احتوائها بالحدود المفترضة، على أسس طائفية، أو عرقية. فإلى أيِّ مدىً يمكن لسورية، والإقليم، التعايش مع هذا الاستخفاف الأميركي؟ وإلى أيِّ مدى يمكن لأميركا أن تبقى مصرّةً على أنها الأجدر بزعامة العالم؟
يُصوّر الرئيس الأميركي، المتحدّر من أصول أفريقية، الصراعات (الطائفية) في المنطقة العربية والإسلامية على أنها تاريخية، كما يُلقي باللائمة على بعض دول المنطقة، كالسعودية، في زيادتها منسوب التطرُّف في المنطقة، بسبب مناهجها التعليمية، ودعوتها الوهابية إلى العالم الإسلامي وتمويلها؛ ما أدّى إلى إنتاج جماعاتٍ إرهابيةٍ كالقاعدة، وكداعش، وهو ما صرّح بمثله، حين عزا ازدياد التطرُّف في إندونيسيا إلى الفكر الوهَّابي الذي ترعاه السعودية. ومن هنا، يتفرَّع أوباما، بالزخم، والأولوية، من أصل المشكلة، وهو نظام الأسد الذي تسبَّب ضعفُه، مع تمسِّكه، في تنامي قوة "داعش" وجبهة النصرة، وما شابههما، إلى تلك الجماعات التي تطول معها الحرب، حرباً طويلة على الإرهاب.
وأما الداخل الأميركي، وهو ما يهمُّه أكثر، فأوباما مطمئنٌّ له؛ كون الحسابات الداخلية، ولا سيما الاقتصادية، هي الأكثر تأثيراً، إن لم تكن استحواذاً، وما دام أن سورية – في نظر عموم الأميركان، لا تبدو في صميم تلك المُحرِّكات، بل ما دامت المنطقة العربية تراجَع تأثيرُها، والاحتياج النفطي إليها، فإن نظرية الانكفاء عن الشرق الأوسط، وأزماته المعقدة، ستَلقى قبولا أكبر، ومِنْ أجدَد المؤشِّرات، وأوضحها على قياس الرأي العام، أو المزاج العام، في أميركا، صعود ترامب الذي لا يُخفي عنصريته وفاشيَّته، والذي يرى أن الأميركان لا يمكنهم الاستمرار بالقيام بدور شرطي العالم.
فحتى ما يُسمَّى الصراع العربي الإسرائيلي، وفي الصُّلْب منه القضيَّةُ الفلسطينية، لم يجد أوباما (وهو الذي أبدى اهتماماً لافتاً نحوها) لم يجد حرَجاً في نفْض يديه منها، والإعلان أن الظروف، وتحديداً ظروف الفلسطينيين والإسرائيليين، غير ناضجة لأيِّ تحرُّك جديد، لاستئناف المفاوضات المتوقفة بينهما، منذ نحو عامين، بل حتى التوصُّل الأميركي إلى قناعةٍ بأن حل الدولتين بات أبعد من أيِّ وقتٍ مضى، من دون أن تفعل واشنطن شيئاً لوقف اضمحلال هذا الحل، ومن دون أن تتبنَّى حلاً بديلا، أو رؤية.
والصحيح أنَّ أوباما غالبا يَسُوق هذه المغالطات في وجه من يذكِّره بصدقيَّته المخرومة، وقد ندَّد مراراً ببشار الأسد، وأعلن افتقاد الأخير لشرعية، وطالبه بالرحيل، وفي وجه من يذكّره بخطِّه الأحمر، المتمثِّل في استخدام الأسد الأسلحة الكيماوية.
مفاعيل الحرب الدائرة على سورية أكبر بكثير من مفاعيل التحرُّك لحلِّها، حتى أن تحرُّكات أميركا و"المجتمع الدولي" أقلّ من التعامل مع الأزمة الإنسانية المتفاقمة. هذا يؤكِّد أن "حقوق الإنسان" لا تُفَعّل، أميركيا، إلا وقت اللزوم، وأنَّ الأمم المتحدة، هذه الهيئة العالمية التي يُفترض أنها تمثِّل الأمم والدول في سعيها إلى تحقيق السلام، وحماية المدنيِّين من أهوال الحروب والنزاعات، باتت تُختزَل في أميركا وروسيا، وهي لا تفعل ما يوقف هذه الجرائم التي ترقى إلى وصف جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية.
تفقد أميركا مسوِّغات القيادة العالمية، إنسانياً وأخلاقياً، وهي تبدي اضطراباً عميقاً، وتتسبَّب في
يستند أوباما إلى عقيدة سياسية واقعية (وهو المعجب بهنري كيسنجر وواقعيَّته)، فاقترابُه من إيران، وكذلك تجنّبه الخيارات العسكرية في سورية، بتأثيرٍ من تلك العقيدة التي تقترب ممَّا فصّله المفكّر الأميركي الاستراتيجي، جورج كينان، الذي أسّس لسياسة الاحتواء، وبناها على التفريق الأساسي بين المصالح الحيوية والهامشية. فللحرب ما يبرّرها، عندما تتعرّض المصلحة الحيوية للتهديد، على أن تبقى الحرب دوماً استراتيجية الملاذ الأخير. وأما المصالح الهامشيَّة فيكون السعي إليها بطرقٍ أخرى، كالدبلوماسية، والحوافز الاقتصادية والعقوبات، واستخدام المؤسسات المتعددة الأطراف والدولية. ويبدو أن مأساة الشعب السوري التي فاضت إلى دول جوار، وإلى العالم، ليست حتى ضمن الاهتمامات الهامشيَّة.
وأوباما بواقعيَّته تلك، ورغبته في تخفيض النفقات والخسائر، وبإدراكه المزاج الشعبيّ الأميركي، إنما يعاكس عقيدة بوش الابن والمحافظين الجدُد، الصِّدامية والقائمة على الحروب الاستباقية، والميل إلى التفرُّد، والتحلُّل من الاتفاقات أو التحالفات الدولية. لكن أوباما، بالتأكيد، يسعى إلى الأهداف الأميركية نفسها باستبقاء القيادة الأميركية للعالم، ومنه منطقة الشرق الأوسط، ولكن بحروب بالوكالة، وعلى حساب القوى الإقليمية.
أما أن أميركا تمارس دوراً خطيراً على المديين، القريب والطويل، فإنها تترك المنطقة تجنح نحو التقسيم، على أسسٍ طائفيةٍ، (سنة وشيعة) وعرقية (كرد وعرب) أو (كرد وأتراك)، علماً أن ظروف المنطقة، حاليا، وقدرة أميركا على الإمساك بخيوط هذه التشكُّلات، أو التحلّلات، مغايرة للظروف والمعطيات التي كانت عشيَّة اتفاقية سايكس بيكو؛ فالأزمات في المنطقة شديدة التداخل، مع ثورة الاتصالات، ومع تخلخُل بنى الدول المركزية، من دون مؤشِّراتٍ على نضج كيانات بديلة، قادرة التبلور، أو قادرة على الصمود والحياة.
وهنا، والآن، معطى جديد، هو صعود (الحركات الجهادية) العابرة للحدود، وغير المعترِفة بالتقسيمات الحالية، فضلاً عن اعترافها، أو احتوائها بالحدود المفترضة، على أسس طائفية، أو عرقية. فإلى أيِّ مدىً يمكن لسورية، والإقليم، التعايش مع هذا الاستخفاف الأميركي؟ وإلى أيِّ مدى يمكن لأميركا أن تبقى مصرّةً على أنها الأجدر بزعامة العالم؟
دلالات
مقالات أخرى
01 أكتوبر 2024
15 سبتمبر 2024
27 اغسطس 2024