24 أكتوبر 2024
التغيير أو إعدام مستقبل المنطقة
يستطيع المتأمل لما يحدث في الدول العربية أن يرى صورتين. الأولى، السطحية التي تظهر أن السعي إلى التغيير أحدث خرابا في بلدان كانت مستقرّة وآمنة. الثانية، المُركبة والأكثر تعقيدا من التصوير السطحي الذي يخدم السلطات المعادية للتغيير. وعلى الرغم من أن الأحداث التي شهدتها المنطقة في السنوات الأخيرة كانت نتاج تطورات وعوامل موضوعية، إلا أنه، بعد الاندفاعة الأولى للاحتجاجات التي اجتاحت عدة بلدان عربية، أخذ المصنوع يدخل على الموضوعي ويؤثر فيه، يقوم بعمليةٍ تخريبيةٍ لتصوير ما جرى بوصفه طريقا للخراب، وليس طريقا للخلاص من الأنظمة المستبدّة وظلمها، وطريقا لحصول الشعوب على حريتها واختيار حكامها.
منذ زمن بعيد، تحتاج المنطقة العربية إلى تغيرات عميقة، تطاول كل مستويات الحياة في الدولة العربية، وكان يمكن للنخب الحاكمة أن تكون مبادرةً، وترى وجهة التاريخ، وتتكيف معها، وتُقدم على خياراتٍ أخرى، غير الاستمرار في الطغيان، مثل التنمية وتطوير التعليم والصحة، بوصفها العوامل الأساسية لتطوير البنية البشرية التي باتت في العالم، منذ سنوات طويلة، عماد أي تنمية، فالتنمية هي التنمية البشرية، وليست تنمية الموارد. نجحت دول في تنميتها، وهي لا تملك أي موارد سوى البشر، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وإجمالي جنوب شرق آسيا. لكن هذا لم يكن خيار الاستبداد في بلداننا الذي اعتبرها مزارع خاصة به. ويعتبر الحاكم المستبد نفسه يتفضّل على شعبه عندما يقبل حكمه، بوصفه فريد عصره، واستثناءً فوق البشر.
منذ عقود تحتاج المنطقة إلى متغيرات عميقة، لم يتم الإقدام عليها، ما جعل بلدانها تعيش حالة احتقان واستنقاع طويلة، راكمت كما هائلا من المشكلات، وأصبحت قابلةً للانفجار. لكن التاريخ شاء أن تنفجر نهاية العام 2010، انطلاقا من تونس. وسرعان ما أصابت عدوى الثورات بلدانا عربية، مثل مصر واليمن وليبيا وسورية، وهو ما دل على التعطش العربي العام إلى الحرية، وإلى التغيير العميق. لكن السلطات القائمة لم تتخلَ عن سلطاتها، ولا أرادت تقديم التنازلات لشعوبها، وتمسّكت بالحكم حتى النهاية، وقاومت التغيير بكل الإمكانات، وبكل وسائل القمع، وبكل أدوات التأثير على المجتمع الذي اخترقته بأدواتٍ قذرة طوال سنوات، من أجل ردع شعوبها عن خيار التغيير، الذي اعتبرته مجرّد مؤامرة خارجية. لم تقاوم السلطات في البلدان التي انفجر فيها الربيع العربي فحسب، بل وقاومته الدول الأخرى بشكل وقائي، خوفا من أن تصيبها العدوى أيضا، وتنضم بلدانها للثورات، وتم العمل، وبشكل مكثف، من السلطات الاستبدادية، ومن دول اعتبرت نفسها مؤيدة للربيع العربي، على تصوير الاحتجاجات الشعبية وصفة للخراب. هل نجح أعداء التغيير في ذلك؟ الجواب: نعم ولا.
نعم، نجح سعي أعداء التغيير في دفع قطاعاتٍ راهنت على الربيع العربي باعتباره منجزا سريعا، يغيّر السلطات في المنطقة، وينطلق سريعا خلف عالم سبقنا منذ زمن. كان الحلم بالنسبة إلى قطاعات واسعة قد أصبح في متناول اليد، ولا أحد يستطيع أن يسلبها إياه. لذلك، عندما دخل الربيع العربي في تعقيدات الصراع، ودخلت عليه عوامل إقليمية ودولية، وتحوّل من إنجاز ذي خط بياني متصاعد، إلى تحولاتٍ تسير في اتجاهات مختلفة ومتفاوتة ومعقدة، فيها كثير من التخريب المصطنع بيد أعداء التغيير وأدوات الأنظمة الرسمية وغير الرسمية. كل هذا دفع قطاعات عديدة إلى اليأس من التغيير، وكأن ما تم القيام به هو إخراج النخبة الحاكمة (الدولة العميقة) من الباب وإدخالها من النافذة، نموذج مصر التي أعاد فيها النظام الجديد بناء نفسه بأدوات نظام حسني مبارك.
والجواب، لا أيضا، لأن بوابة التغيير انفتحت، ولم يعد من الممكن إعادة البشر إلى ما وراء تلك الأبواب التي احتجزهم فيه الاستبداد عقودا في أوضاع بائسة، وأجبرهم على أن يحتفلوا بهذا البؤس، بوصفه منجزا استثنائيا. والخراب الذي وصلت إليه الدول العربية قبل الوصول إلى الربيع العربي بات ممرا إجباريا للتغيير، فالتغيير ليس مطلبا شعبيا فحسب، بل هو ضرورة موضوعية وتاريخية، لخروج هذه البلدان من حالة الاختناق واحتباس المستقبل التي تسببت بها نخبة رديئة وفاسدة ومجرمة. لم يختر المحتجون الخراب عندما طالبوا بالتغيير، وقالوا لا لانتهاك أبسط حقوقهم. من اختار الخراب هي الأنظمة الحاكمة، قبل خروج المحتجين على أوضاعهم. هي نبوءة، هم تنبأوا بها، وحققوها بأدواتهم المجرمة والقذرة. عندما يراكم زين العابدين بن علي وعلي عبد الله صالح وحسني مبارك ومعمر القذافي وبشار الأسد وغيرهم المليارات من بلدانهم الفقيرة، نتساءل أي وحشيةٍ يعيشها النظام الحاكم وحاشيته، وأي مستقبلٍ لهذه البلدان في ظل هذه الوحشية التي سعت إلى توريث الحكم إلى أبنائها لتستمر في النهب؟ وعندما تمت إطاحتها، لم تقبل هذه النماذج الإطاحة وعيش حياتها في الظل، بل وظفت كل
إمكاناتها وثرواتها من أجل إيقاع مزيد من الخراب ببلدانها (صالح استمر بالتخريب حتى قضى على يد الحوثيين). وهناك نموذج بشار الأسد الذي قرّر أن يدمر البلد قبل خروجه من السلطة، عندما رفع شعار "الأسد أو نحرق البلد"، وهو لم يتورع عن حرق البلد والبقاء حاكما على أطلالها بحماية الإيرانيين والروس.
يشير مؤيدو الأنظمة الساقطة، ومؤيدو الأنظمة الباقية، إلى الأوضاع في ليبيا وسورية واليمن، ويتساءلون: هل هذا الربيع العربي الذي جلب الخراب، هو ما تريدونه؟ وكأن الأنظمة المستبدة بريئةٌ مما جرى ويجري، ولم تكن لهم اليد الطولى في دفع الأوضاع إلى هذا الاحتدام الدموي في هذه البلدان، وصولا إلى ما نحن فيه. ما أريد قوله إن الأنظمة التي ادّعت أنها دعمت الربيع العربي، كانت فاعلا أساسيا في إدامة الصراع وخلط الأوراق، وكانت كتلة أساسية من القوى المعادية للتغيير. ولذلك وقعت الثورات العربية في تقاطع مصالح بين من يُفترض أنهم داعموها والأنظمة التي ثاروا عليها، وسعى الطرفان إلى إفشال تجربة الربيع العربي، وتصويرها نموذجا لجلب الخراب. لذلك، لا خيار سوى التغيير العميق، وسوى ذلك، تأبيد الخراب.
منذ زمن بعيد، تحتاج المنطقة العربية إلى تغيرات عميقة، تطاول كل مستويات الحياة في الدولة العربية، وكان يمكن للنخب الحاكمة أن تكون مبادرةً، وترى وجهة التاريخ، وتتكيف معها، وتُقدم على خياراتٍ أخرى، غير الاستمرار في الطغيان، مثل التنمية وتطوير التعليم والصحة، بوصفها العوامل الأساسية لتطوير البنية البشرية التي باتت في العالم، منذ سنوات طويلة، عماد أي تنمية، فالتنمية هي التنمية البشرية، وليست تنمية الموارد. نجحت دول في تنميتها، وهي لا تملك أي موارد سوى البشر، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وإجمالي جنوب شرق آسيا. لكن هذا لم يكن خيار الاستبداد في بلداننا الذي اعتبرها مزارع خاصة به. ويعتبر الحاكم المستبد نفسه يتفضّل على شعبه عندما يقبل حكمه، بوصفه فريد عصره، واستثناءً فوق البشر.
منذ عقود تحتاج المنطقة إلى متغيرات عميقة، لم يتم الإقدام عليها، ما جعل بلدانها تعيش حالة احتقان واستنقاع طويلة، راكمت كما هائلا من المشكلات، وأصبحت قابلةً للانفجار. لكن التاريخ شاء أن تنفجر نهاية العام 2010، انطلاقا من تونس. وسرعان ما أصابت عدوى الثورات بلدانا عربية، مثل مصر واليمن وليبيا وسورية، وهو ما دل على التعطش العربي العام إلى الحرية، وإلى التغيير العميق. لكن السلطات القائمة لم تتخلَ عن سلطاتها، ولا أرادت تقديم التنازلات لشعوبها، وتمسّكت بالحكم حتى النهاية، وقاومت التغيير بكل الإمكانات، وبكل وسائل القمع، وبكل أدوات التأثير على المجتمع الذي اخترقته بأدواتٍ قذرة طوال سنوات، من أجل ردع شعوبها عن خيار التغيير، الذي اعتبرته مجرّد مؤامرة خارجية. لم تقاوم السلطات في البلدان التي انفجر فيها الربيع العربي فحسب، بل وقاومته الدول الأخرى بشكل وقائي، خوفا من أن تصيبها العدوى أيضا، وتنضم بلدانها للثورات، وتم العمل، وبشكل مكثف، من السلطات الاستبدادية، ومن دول اعتبرت نفسها مؤيدة للربيع العربي، على تصوير الاحتجاجات الشعبية وصفة للخراب. هل نجح أعداء التغيير في ذلك؟ الجواب: نعم ولا.
نعم، نجح سعي أعداء التغيير في دفع قطاعاتٍ راهنت على الربيع العربي باعتباره منجزا سريعا، يغيّر السلطات في المنطقة، وينطلق سريعا خلف عالم سبقنا منذ زمن. كان الحلم بالنسبة إلى قطاعات واسعة قد أصبح في متناول اليد، ولا أحد يستطيع أن يسلبها إياه. لذلك، عندما دخل الربيع العربي في تعقيدات الصراع، ودخلت عليه عوامل إقليمية ودولية، وتحوّل من إنجاز ذي خط بياني متصاعد، إلى تحولاتٍ تسير في اتجاهات مختلفة ومتفاوتة ومعقدة، فيها كثير من التخريب المصطنع بيد أعداء التغيير وأدوات الأنظمة الرسمية وغير الرسمية. كل هذا دفع قطاعات عديدة إلى اليأس من التغيير، وكأن ما تم القيام به هو إخراج النخبة الحاكمة (الدولة العميقة) من الباب وإدخالها من النافذة، نموذج مصر التي أعاد فيها النظام الجديد بناء نفسه بأدوات نظام حسني مبارك.
والجواب، لا أيضا، لأن بوابة التغيير انفتحت، ولم يعد من الممكن إعادة البشر إلى ما وراء تلك الأبواب التي احتجزهم فيه الاستبداد عقودا في أوضاع بائسة، وأجبرهم على أن يحتفلوا بهذا البؤس، بوصفه منجزا استثنائيا. والخراب الذي وصلت إليه الدول العربية قبل الوصول إلى الربيع العربي بات ممرا إجباريا للتغيير، فالتغيير ليس مطلبا شعبيا فحسب، بل هو ضرورة موضوعية وتاريخية، لخروج هذه البلدان من حالة الاختناق واحتباس المستقبل التي تسببت بها نخبة رديئة وفاسدة ومجرمة. لم يختر المحتجون الخراب عندما طالبوا بالتغيير، وقالوا لا لانتهاك أبسط حقوقهم. من اختار الخراب هي الأنظمة الحاكمة، قبل خروج المحتجين على أوضاعهم. هي نبوءة، هم تنبأوا بها، وحققوها بأدواتهم المجرمة والقذرة. عندما يراكم زين العابدين بن علي وعلي عبد الله صالح وحسني مبارك ومعمر القذافي وبشار الأسد وغيرهم المليارات من بلدانهم الفقيرة، نتساءل أي وحشيةٍ يعيشها النظام الحاكم وحاشيته، وأي مستقبلٍ لهذه البلدان في ظل هذه الوحشية التي سعت إلى توريث الحكم إلى أبنائها لتستمر في النهب؟ وعندما تمت إطاحتها، لم تقبل هذه النماذج الإطاحة وعيش حياتها في الظل، بل وظفت كل
يشير مؤيدو الأنظمة الساقطة، ومؤيدو الأنظمة الباقية، إلى الأوضاع في ليبيا وسورية واليمن، ويتساءلون: هل هذا الربيع العربي الذي جلب الخراب، هو ما تريدونه؟ وكأن الأنظمة المستبدة بريئةٌ مما جرى ويجري، ولم تكن لهم اليد الطولى في دفع الأوضاع إلى هذا الاحتدام الدموي في هذه البلدان، وصولا إلى ما نحن فيه. ما أريد قوله إن الأنظمة التي ادّعت أنها دعمت الربيع العربي، كانت فاعلا أساسيا في إدامة الصراع وخلط الأوراق، وكانت كتلة أساسية من القوى المعادية للتغيير. ولذلك وقعت الثورات العربية في تقاطع مصالح بين من يُفترض أنهم داعموها والأنظمة التي ثاروا عليها، وسعى الطرفان إلى إفشال تجربة الربيع العربي، وتصويرها نموذجا لجلب الخراب. لذلك، لا خيار سوى التغيير العميق، وسوى ذلك، تأبيد الخراب.