24 أكتوبر 2024
الثقافي ملحقاً بالسياسي والمثقف تابعاً للسياسي
تعاني الثقافة العربية من عدم تأسيسها سلطتها الخاصة، ما جعل المثقف يحيا وعينه على سلطة السياسي، ويعمل على ربط أي مشروع ثقافي بمشروع سياسي ما، ليعدل من الاختلال المائل بشكل كبير لصالح السياسة، وليجد سلطته من خلال الارتباط بمشروع سياسي، يكون حاملا لمشروع ثقافي، يعتقد المثقف أنه يحمله نيابة عن الأمة. ولعدم حاجة السلطات العربية للمشاريع الثقافية الجدية، وجد المثقف نفسه يعاني من الهامشية، فالثقافة العربية لا تستطيع أن تؤدي دورها، كما تكرّست في العقود الخمسة المنصرمة، من دون أن تتوسل سلطة أخرى تفتح لها باب التأثير. لذلك، انقسم المثقفون، إما إلى باحثين عن موقع في إطار السلطة، أو إلى هامشيين يشعرون دائماً أنهم في موقع أصغر منهم، وهم أكبر منه، وتمترس كل بموقعه، ليبدأ الحرب ضد الآخر.
سؤال الثقافة والسياسة شغل الأوساط الثقافية اليسارية، طوال العقود القليلة المنصرمة، خصوصاً في ظل الحيرة اليسارية في تصنيف الاستبداد السياسي الشمولي الذي ساد دول المنطقة، بعد الانقلابات العسكرية التي اجتاحت بلداناً، مثل مصر وسورية والعراق والجزائر واليمن وليبيا. وهي التي تسببت بإلحاق كل شيء بالسياسة، ليس الثقافة فحسب، بل الاقتصاد والمجتمع والتعليم أيضاً، وقضت على كل هامش حرية تأسس في ظل التجربة الاستعمارية، أهمها، حرية التعبير وتأسيس الأحزاب، فعلى مستوى الحريات، لم يجرِ اعتقال أي شحص على خلفية حرية التعبير في تلك الفترة، وهو ما أطلق عليه ياسين الحافظ تعبير "الديمقراطية الكولونيالية"، بعد خروج الاستعمار من المنطقة ادعت الانقلابات أنها ثورات قامت بديلاً عن الشعب، وبدعم منه وممثلة له، من دون أن تستشيره بأي طريقة.
وما زاد حيرة المثقفين تصنيف الاتحاد السوفيتي بوصفه مركز اليسار العالمي حتى ثمانينات القرن المنصرم، هذه الدول بوصفها تنتمي إلى معسكره. في ظل هذه الأوضاع، كان على المثقف أن يجب على سؤال الثقافة، أي فعالية وأي دور للثقافة في المجتمعات العربية في ظل طغيان السلطة السياسية؟ وكان من الطبيعي أن يرد مثقفون كثيرون سؤال الثقافة إلى سؤال السياسة، بوصف الثقافة ملحقاً بالسياسة، على قاعدة الترابط بين الثقافة والسياسية، وهو ترابط لا فكاك منه في تحليل الأوساط اليسارية الذي ساد منذ الثمانينات. وبذلك، تفقد الثقافة استقلاليتها تماما، وتصبح الثقافة درساً في السياسة بامتياز. لذلك، رأينا مشاريع ومنابر ثقافية، ارتبطت بقوى سياسية، وأصبحت امتداداً لها، حيث أصبحت الديباجة تقول إنه الترابط بين الثقافة والسياسة، الثقافة بوصفها درساً في السياسة، والسياسة تنحرف بدون الثقافة. أعاد هذا التوحيد بين السياسي والثقافي ترتيب الاصطفاف السياسي والثقافي، ليوحد بينهما. فكل اصطفاف سياسي هو ثقافي بالضرورة. ولا يمكن للمثقف صاحب الموقع في المؤسسة الرسمية، إلا أن يكون مخلصاً لصاحب المؤسسة ثقافياً. وحتى عندما يتجاوز المثقف دوره المرسوم في المؤسسة نفسها لاعتباراتٍ مختلفة، فإنه يفصح عمّا تضمره المؤسسة، والتي تعلن عنه عبر هذا المثقف، لأنه لم يحن الوقت، لتعلن هي عنه، فيتم استخدام المثقف بالون اختبار. وبذلك، يتحول إلى ناطق غير مباشر للسلطة السياسية.
مع الاشتراطات الثقافية التي كتب مثقفون يساريون عنها كأساس وخلفية ثقافية للعمل السياسي،
يأخذ العمل السياسي طابعاً أخلاقياً، وهذا ما يخرجه من السياسة، كما مورست تاريخيا، ويدخله في باب علم الأخلاق. وكان من الطبيعي في ظل هذا المفهوم، أن يطالب بعضهم بتغيير القاموس السياسي، ليحلل قضايا مثل الصدق والأمانة والوضوح، بدل أن يحلل قضايا مثل الوطن والنصر والهزيمة والمصالح المتناقضة والتمثيل السياسي في المجتمع والعقد الاجتماعي... إلخ من القضايا التي تهم علم السياسة. وعند الذهاب مع التحليل اليساري للثقافة، وعلاقتها بالسياسة، إلى نهايته، نجد أن الدور الذي يمكن أن تلعبه الثقافة، حسب هذا المنطق، أما إلغاء السياسة نهائيا، وأما إحلال المثقف في السلطة مكان السياسي، لعدم وجود مشروع سياسي من دون مشروع ثقافي، والمثقف هو الأقدر على معرفة ماهية المشروع الثقافي، والتزام المشروع السياسي به، بوصف المشروع الثقافي حامل القيم، والسياسي حامل الرذيلة.
كما ظهرت وجهة نظر أخرى، تتحدث عن معارضة المثقف المطلقة للسلطة، فهو لا يستحق اسمه، إلا من خلال موقعة في معارضة السلطات، أي سلطات بالمعنى المطلق للكلمة. فعلى المثقف الباحث عن دور أن يكون معارضاً في كل الحالات، وأن لا دور للمثقف من دون أن يكون معارضا، حتى لو كان يعمل داخل السلطة، وبوظيفة سياسية وليست ثقافية. عندما يفقد المثقف رضى السياسي، يتحول إلى "المثقف الآخر" المثقف المسؤول، ويمكن بذلك نسيان تاريخه السابق، فهو يولد من لحظة فقدان رضى السياسي عنه.
مع "المثقف الآخر"، الشهيد خصوصاً، يرتفع المديح إلى درجة القداسة، ويصبح ما يقوله، بمرتبة قداسة الشهادة نفسها. ويصبح المثقف المبدع صاحب رؤية واضحة في كل شيء، ويصبح الكلام الذي لا معنى له قمة الوضوح. هكذا، تم تعامل بعض الأوساط اليسارية الفلسطينية مع غسان كنفاني، بوصفه يكتب المقدس من دون تمحيص، ولم يتورّع مثقف فلسطيني في اعتبار كلام ساذج لغسان كنفاني مثل القول "إن البديل الوحيد لقمة الأنظمة هو قمة الجماهير" إن هذا الكلام الذي ينتمي إلى الدوغما يصبح عند المثقف الفلسطيني هو "ما يقوله العقل السليم"، من دون أن يرى في الشهيد إنساناً له وجهة نظر يمكن الاختلاف معها ببساطة، وقبل أن يكون شهيداً، فهو إنسان من لحم ودم، وأنه حتى عندما يتحول إلى شهيد لا يكف عنه كونه كذلك.
ورفع المثقف الشهيد إلى مرتبة المقدس، تمنع على الآخرين تصويره إنساناً عادياً مثلنا. لهذه الاعتبارات، لا يمكن توجيه النقد إلى "مثقفنا" لأن ذلك مسّ بالمقدس. كما أن رفع هذه القدسية إلى مرتبتها العليا تجعل أي كلام عن إنسانية الشهيد شيء قذر يمس بقدسيته. لذلك، كان موقف المثقف نفسه قاسياً في تعليقه على نشر غادة السمان كتاب رسائل غسان كنفاني اليها، فاعتبر هذا مسّاً بقدسية الشهيد، من دون أن يعي أن ذلك يلغي إنسانية غسان، ويضعه فوق البشر، وهو الذي من حقه أن يمارس الأشياء الجميلة، حتى لو كانت صغيرة، وحتى لو شابتها علامات استفهام. وهذا التعامل بحد ذاته مسخ لإنسانية غسان، فالحياة لا تُعاش على نموذج مثالي سابق وقار.
إذا كان من حق الجميع أن يعبر عن موقفه السياسي، فهذا لا يعني أن الموقف السياسي هو موقف ثقافي. لذلك، يجب نقد القائد السياسي في الحقل السياسي، من دون الخلط والتوحيد بين الحقلين السياسي والثقافي. لأن ذلك يجعل الصورة غائمة للغاية. للثقافة خطابها وللسياسة خطابها، وهناك قنوات خلفية كثيرة بينهما، لكنهما ليسا شيئاً واحداً، تقول الثقافة ما يجب عليها قوله، لتعيش اتساقها لحظة أخلاقية وموقعاً معرفياً وحلماً جميلاً. ولكن، يجب ممارسة الثقافي في حقل الثقافة، ليس بمعنى "استبداد الاختصاص" كما يقول بعضهم. ولكن، بمعنى الجدوى من الممارسة الثقافية، لا بالارتباط بسلطةٍ سياسةٍ تكون مدمرة لكل ثقافة.
سؤال الثقافة والسياسة شغل الأوساط الثقافية اليسارية، طوال العقود القليلة المنصرمة، خصوصاً في ظل الحيرة اليسارية في تصنيف الاستبداد السياسي الشمولي الذي ساد دول المنطقة، بعد الانقلابات العسكرية التي اجتاحت بلداناً، مثل مصر وسورية والعراق والجزائر واليمن وليبيا. وهي التي تسببت بإلحاق كل شيء بالسياسة، ليس الثقافة فحسب، بل الاقتصاد والمجتمع والتعليم أيضاً، وقضت على كل هامش حرية تأسس في ظل التجربة الاستعمارية، أهمها، حرية التعبير وتأسيس الأحزاب، فعلى مستوى الحريات، لم يجرِ اعتقال أي شحص على خلفية حرية التعبير في تلك الفترة، وهو ما أطلق عليه ياسين الحافظ تعبير "الديمقراطية الكولونيالية"، بعد خروج الاستعمار من المنطقة ادعت الانقلابات أنها ثورات قامت بديلاً عن الشعب، وبدعم منه وممثلة له، من دون أن تستشيره بأي طريقة.
وما زاد حيرة المثقفين تصنيف الاتحاد السوفيتي بوصفه مركز اليسار العالمي حتى ثمانينات القرن المنصرم، هذه الدول بوصفها تنتمي إلى معسكره. في ظل هذه الأوضاع، كان على المثقف أن يجب على سؤال الثقافة، أي فعالية وأي دور للثقافة في المجتمعات العربية في ظل طغيان السلطة السياسية؟ وكان من الطبيعي أن يرد مثقفون كثيرون سؤال الثقافة إلى سؤال السياسة، بوصف الثقافة ملحقاً بالسياسة، على قاعدة الترابط بين الثقافة والسياسية، وهو ترابط لا فكاك منه في تحليل الأوساط اليسارية الذي ساد منذ الثمانينات. وبذلك، تفقد الثقافة استقلاليتها تماما، وتصبح الثقافة درساً في السياسة بامتياز. لذلك، رأينا مشاريع ومنابر ثقافية، ارتبطت بقوى سياسية، وأصبحت امتداداً لها، حيث أصبحت الديباجة تقول إنه الترابط بين الثقافة والسياسة، الثقافة بوصفها درساً في السياسة، والسياسة تنحرف بدون الثقافة. أعاد هذا التوحيد بين السياسي والثقافي ترتيب الاصطفاف السياسي والثقافي، ليوحد بينهما. فكل اصطفاف سياسي هو ثقافي بالضرورة. ولا يمكن للمثقف صاحب الموقع في المؤسسة الرسمية، إلا أن يكون مخلصاً لصاحب المؤسسة ثقافياً. وحتى عندما يتجاوز المثقف دوره المرسوم في المؤسسة نفسها لاعتباراتٍ مختلفة، فإنه يفصح عمّا تضمره المؤسسة، والتي تعلن عنه عبر هذا المثقف، لأنه لم يحن الوقت، لتعلن هي عنه، فيتم استخدام المثقف بالون اختبار. وبذلك، يتحول إلى ناطق غير مباشر للسلطة السياسية.
مع الاشتراطات الثقافية التي كتب مثقفون يساريون عنها كأساس وخلفية ثقافية للعمل السياسي،
كما ظهرت وجهة نظر أخرى، تتحدث عن معارضة المثقف المطلقة للسلطة، فهو لا يستحق اسمه، إلا من خلال موقعة في معارضة السلطات، أي سلطات بالمعنى المطلق للكلمة. فعلى المثقف الباحث عن دور أن يكون معارضاً في كل الحالات، وأن لا دور للمثقف من دون أن يكون معارضا، حتى لو كان يعمل داخل السلطة، وبوظيفة سياسية وليست ثقافية. عندما يفقد المثقف رضى السياسي، يتحول إلى "المثقف الآخر" المثقف المسؤول، ويمكن بذلك نسيان تاريخه السابق، فهو يولد من لحظة فقدان رضى السياسي عنه.
مع "المثقف الآخر"، الشهيد خصوصاً، يرتفع المديح إلى درجة القداسة، ويصبح ما يقوله، بمرتبة قداسة الشهادة نفسها. ويصبح المثقف المبدع صاحب رؤية واضحة في كل شيء، ويصبح الكلام الذي لا معنى له قمة الوضوح. هكذا، تم تعامل بعض الأوساط اليسارية الفلسطينية مع غسان كنفاني، بوصفه يكتب المقدس من دون تمحيص، ولم يتورّع مثقف فلسطيني في اعتبار كلام ساذج لغسان كنفاني مثل القول "إن البديل الوحيد لقمة الأنظمة هو قمة الجماهير" إن هذا الكلام الذي ينتمي إلى الدوغما يصبح عند المثقف الفلسطيني هو "ما يقوله العقل السليم"، من دون أن يرى في الشهيد إنساناً له وجهة نظر يمكن الاختلاف معها ببساطة، وقبل أن يكون شهيداً، فهو إنسان من لحم ودم، وأنه حتى عندما يتحول إلى شهيد لا يكف عنه كونه كذلك.
ورفع المثقف الشهيد إلى مرتبة المقدس، تمنع على الآخرين تصويره إنساناً عادياً مثلنا. لهذه الاعتبارات، لا يمكن توجيه النقد إلى "مثقفنا" لأن ذلك مسّ بالمقدس. كما أن رفع هذه القدسية إلى مرتبتها العليا تجعل أي كلام عن إنسانية الشهيد شيء قذر يمس بقدسيته. لذلك، كان موقف المثقف نفسه قاسياً في تعليقه على نشر غادة السمان كتاب رسائل غسان كنفاني اليها، فاعتبر هذا مسّاً بقدسية الشهيد، من دون أن يعي أن ذلك يلغي إنسانية غسان، ويضعه فوق البشر، وهو الذي من حقه أن يمارس الأشياء الجميلة، حتى لو كانت صغيرة، وحتى لو شابتها علامات استفهام. وهذا التعامل بحد ذاته مسخ لإنسانية غسان، فالحياة لا تُعاش على نموذج مثالي سابق وقار.
إذا كان من حق الجميع أن يعبر عن موقفه السياسي، فهذا لا يعني أن الموقف السياسي هو موقف ثقافي. لذلك، يجب نقد القائد السياسي في الحقل السياسي، من دون الخلط والتوحيد بين الحقلين السياسي والثقافي. لأن ذلك يجعل الصورة غائمة للغاية. للثقافة خطابها وللسياسة خطابها، وهناك قنوات خلفية كثيرة بينهما، لكنهما ليسا شيئاً واحداً، تقول الثقافة ما يجب عليها قوله، لتعيش اتساقها لحظة أخلاقية وموقعاً معرفياً وحلماً جميلاً. ولكن، يجب ممارسة الثقافي في حقل الثقافة، ليس بمعنى "استبداد الاختصاص" كما يقول بعضهم. ولكن، بمعنى الجدوى من الممارسة الثقافية، لا بالارتباط بسلطةٍ سياسةٍ تكون مدمرة لكل ثقافة.