الجباية في سينما الواقع
حدث في مطلع القرن الماضي أن ناظر الزراعة لدى أحد الإقطاعيين استدعى موظفاً التحق حديثاً بالعمل، وطلب منه كتابة كشف بالمصروفات، سيقدّم إلى صاحب المزرعة. تضمنت أوجه الصرف مبلغاً كبيراً لتكاليف تربية خروف صغير، فسخر الموظف الخبيث من عدم حصافة المسؤول في طريقة تسجيل المبلغ، ونصحه بتفنيد التكلفة الكلية إلى مجموعة بنود جزئية مفصلة بدقة تشمل أتفه المتطلبات اليومية للخروف. مثلاً: "مقص لقص شعر الخروف، بمبلغ كذا، جردل وخرطوم مياه ومنشفة لنظافة الخروف واستحمامه، بقيمة كذا". كان ذلك أحد أشهر المشاهد في السينما المصرية، أبدع فيه نجيب الريحاني، وهو يصوّر كيف يمكن تقسيم مسميات بنود الصرف ومراحله وتوسيعهما، والتحجّج بهذه التسميات في زيادة مخصصات الموازنة، أو تغطية نفقات غير مبررة.
يكاد ما تمارسه الدولة المصرية حالياً مع أفراد الشعب يُطابق سلوك ذاك الناظر، محدود الفكر، ضيق الأفق. إذ تفرض الحكومة سلسلة متوالية من الضرائب والرسوم والاستقطاعات، بشكل بدائي غشيم أقرب إلى الجباية، فلا يراعي الواقع الاجتماعي، ولا يهتم بإقناع أولئك الفقراء أو حتى خداعهم، وهم يستيقظون كل طلعة شمس على ضريبة مستحدثة، أو خصم من قوت يومهم.
رفعت الحكومة المصرية، قبل أشهر، آخر شريحة من الدعم عن أسعار المحروقات، وتبع ذلك ارتفاع أسعار المواصلات ووسائل النقل والسلع الغذائية. وقبل أن يتكيّف المصريون مع تلك الهجمة السعرية، داهمتهم أزمة كورونا فتوقفت كل الأنشطة. وبدلاً من تخفيف عبء الأزمة عن المواطنين، قرّرت الحكومة خصم نصف بالمائة من رواتب كل العاملين في الدولة والقطاع العام ودخولهم. ولم يشمل الخصم القطاع الخاص، لسبب بسيط، لأن غالبية العاملين فيه لا يتحصلون على رواتب أصلاً، إذ منحوا إجازاتٍ إجباريةً غير مدفوعة الأجر.
وقبل أن تجتاز مصر مرحلة الذروة في انتشار كورونا، زيدت أسعار الكهرباء تنفيذاً لأجندة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. ويبدأ تحصيل قيمة الزيادة مع فواتير استهلاك شهر يوليو/ تموز الجاري، بالتزامن مع رفع قيمة ضريبة قديمة جداً، مفروضة منذ عقود على أي سيارة مجهزة لتركيب جهاز استقبال إذاعي "راديو". وإذا بقيمة الضريبة بعد الزيادة تبلغ خمسين ضعف ما كانت عليه. ومن يومين فقط، صدر تشريع جديد لتقنين مهنة "السائس" الذي يساعد المواطنين في صف السيارات في الشوارع والمناطق المزدحمة. ووجه التقنين الوحيد الذي استحدثه القانون هو فرض الحصول على ترخيص لمزاولة المهنة مقابل رسوم.
تلك عيّنة فقط من حزمة تشريعات وقرارات صدرت في مصر خلال الأشهر الماضية، لا همّ لها سوى تحصيل أكبر قدر من أموال المواطنين. الهدف المباشر والصريح من ذلك المنطق الجبائي تغطية عجز الموازنة العامة وسداد الديون المحمّلة بفوائد كبيرة. لكن المغزى الكامن في سياسة الجباية هو تصدير المواطن المصري وحده في مواجهة كل المشكلات الاقتصادية والمعيشية الناجمة عن سياسات قصيرة النظر وسلسلة قروض مكلفة لم توجّه إلى بناء اقتصاد إنتاجي. حتى في حالات الجباية العقابية، كما يحدث في مخالفات البناء وفساد المحليات الذي تبلغ قيمته مليارات، يتعرّض المواطن المصري لعقوبات مشدّدة وعمياء، فلسفتها تحصيل الأموال، وليس تصحيح الأخطاء. وبينما يجد المواطن نفسه مخيّراً بين الدفع أو الحبس، لا يُحاسب أي مسؤول أو موظف رسمي سهّل الخطأ أو شارك فيه.
وبعد أن تراكمت القروض الخارجية، وصارت الفوائد المحمّلة عليها عبئاً بذاتها، صار المواطن البسيط المغلوب على أمره المصدر السهل لاستدرار الأموال، غير أن أموال الخارج تستلزم إقناع الجهات المانحة، ولو على طريقة نجيب الريحاني. أما في الداخل، فالتحصيل بالأمر والجبر. ولا سبيل أمام المواطن للاعتراض أو التساؤل عمّا سيعود عليه في النهاية، بعد أن بات يدفع ثمن أي شيء وكل شيء، بل ويدفع مقابل لا شيء.