الجبل الشاهق ذاته

22 ابريل 2019

(منقذ سعيد)

+ الخط -
من فرط حماقته وضحالة خياله، يتوهم الإنسان المسكين المثير للشفقة والرثاء أنه يتمتع بمزايا خارقة، وقوة عظمى، وجبروت تبيح له التصدّي لتحدياتٍ لهذه الحياة، ولكثير من حقائقها القبيحة الصادمة، متمكّنا من تحقيق العجائب والمعجزات، ناسياً أنه مجرّد كائن هش ضعيف، محكوم بقاؤه فيها بمدة صلاحية محدودة، ستظل، من وجهة نظره، غير كافية لسد ظمأ العيش في روحه المتعطشه لمزيدٍ من كل شيء، مدة صلاحية مقرّر لها سلفا تاريخ انتهاء محظورٌ تجاوزُه، ولن يبلغ، بأي حال، الرغبة في البقاء المتجذّرة في كيانه، فترة مقدّر لها الزوال، مهما بدت طويلةً ومملةً وخاليةً من التوق، حيث تتشابه الأيام، وتتكرر بشكل رتيب، يبعث على الخيبة والأسى، اليوم مثل الأمس، والغد لا يحمل أي مفاجأة من أي نوع.
غير أنه، ولسببٍ غير مفهوم، يتشبث بها بكل ما أوتي من قدرةٍ على الوهم، محاولاً تجاهل وتناسي أنها حياة دنيا بالمعنى الحرفي للكلمة. ومهما زعمنا تمييزاً وتحققاً، فإن في المساحة المتاحة لحراكنا بحرية وانطلاق محدودة، لا يملك أي منا تجاوز الخط المرسوم أو التمادي في اليقين والثقة بالغد المحسوم أصلا، غير أنه، وبسبب العناد المتأصل في تركيبته النفسية، والقدرة على الإنكار، وتجاهل الحقيقة الساطعة، وترجمة فورية لغريزة البقاء التي تتحكّم في كل سلوكياته، فإنه لا يملّ من تكرار المحاولة، شأن سيزيف الأحمق العنيد المحتال الذي تمكّن من خداع إله الموت في المثيولوجيا اليونانية، فحلت عليه العقوبة العبقرية الماكرة التي من شأنها تبديد كل أوهام الخلود التي تنتاب البشر في لحظات طيشهم، فاستحق سيزيف عقوبة الإحساس بالتعب واللاجدوى الأبديين، من دون أن يحظى بالراحة، وبنعمة الاستسلام للمصير الحتمي، ولو لبرهة وجيزة، من دون أن يفقد الأمل تماما، ما يؤدي إلى مزيد من الإنهاك والتوق إلى لحظة ختامٍ لن تأتي، ليظل عالقا أبديا في متاهة الصعود والهبوط العدمية اللانهائية.
وفي كل مرة، يجد سيزيف نفسة صاعدا الجبل الشاهق ذاته، متحملا عبء الصخرة الثقيلة التي يرزح جسده الضئيل تحت ثقلها، محمولة على ظهره المحني، يتصبّب عرقا، وهو يدرك أن مصير الصخرة التدحرج ثانية إلى القاع، حيث عليه أن يصعد بها من جديد، فيما الآلهة تلهو ساخرة من غباء ذلك المخلوق الضئيل، من دون أن تعاني من تأنيب الضمير، أو أن تطرح سؤالاً حول ما فعله سيزيف، باستثناء الرغبة في البقاء، ليستحق هذه العقوبة اللعنة. وهذا بالضبط ما تقودنا الحياة إلى فعله في سيناريوهات مختلفة، تؤدي دائما إلى الغرض نفسه، وتخدم الفكرة ذاتها. أحيانا تجود علينا الحياة بسخاء كبير، تمنحنا لحظاتٍ عابرة من الفرح واليقين، تستدرجنا بدهاء إلى فخّ اليقين والأمل، فيغمرنا إحساسٌ بالتفوق والقدرة، ونصدّق أنفسنا، ونؤمن بها، ونثق بأننا قادرون على التنافس والمزاحمة بشراسة، لتحقيق ما نعتقد أننا نستحقه. نخوض المغامرة باندفاعٍ كبير، نشتبك في علاقاتٍ معقدة. نحب ونكره، نشتاق، نتعلق، نهجر، نحلم، نخطط، نفرح بالأحبة والأصدقاء الذين يباركون خطواتنا، ونأخذ الحذر من الأعداء الذين يزدادون طرديا مع مقدار النجاح الذي يحققه الواحد منا. نسعى إلى إغاظتهم ببذل مزيد من الجهد، فيما يحاولون النّيل من عزيمتنا، انسجاماً مع سواد أرواحهم الحاقدة الصغيرة. تمضي الحياة بعيدا في لعبتها الماكرة، وتلهو بنا وتسخر، كما رددت الست من كلمات جورج جرداق، في رائعتها "هذه ليلتي".
أما الإنسان الأحمق المسكين والمثير للشفقة، فإنه مجبرٌ لا محالة على المواصلة في كل الأحوال، مراوحاً بين لحظات المنح والمنع والأمل والقنوط والانتصار والانكسار، وبالمضي في درب الأفراح حيناً، وبدرب الآلام أحياناً كثيرة، مواصلاً اللهاث في رحلته السيزيفية المضنية، باعتبارها هبة ومنحة وفرصة ثمينة، نادرة غير قابلة للتكرار، مردّداً: هذه لحظتي، وسوف أعوّل عليها، وأحياها بكل الجوارح.. مصدّقاً أنني مؤهل لمواجهتها، وتحمل تبعاتها الباهظة، في مقابل إحساس بفرح حقيقي خاطف، غير أنه يعادل عمراً بأكمله.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.