أيلول من جديد

09 سبتمبر 2024

(بول غيراغوسيان)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

يعود أيلول الشاحب الكئيب محمّلاً بالحزن كلّه. تأتي الأخبار من غزّة بمزيد من أعداد الضحايا والمصابين، وتبثّ التقارير الإخبارية صورَ المهجّرين والمشرّدين من رجال ونساء أمهات وآباء، ومن تبقّوا من أطفالٍ غفل عنهم الموت إلى حين، يبيتون في العراء أو في خيام مُتهالِكة، جوعى وعطشى، مخذولين بالمطلق. لا أحد في هذا الكون الفاجر الآثم ينظر نحوهم، ولو من باب أضعف الإيمان، وهم يتأهّبون لشتاء قاس جديد سوف يفتك برده بعظامهم الصغيرة المرتجفة، التي أضناها الجوع والشتات والخوف من الآتي الغامض غير المبشّر إلّا بمزيد من الظلم والانتهاك والعدوان والحرمان من بيوتهم الآمنة المُطمئنّة التي تحوّلت ركاماً محضاً، ومدارسهم التي غابوا عنها سنةً دراسيةً كاملةً، تخلّلها قتل وتدمير على مدار الساعة، التي تدور بآلية تثير الحُنْقَ والغيظَ. وقد كان الفضاء الوحيد المتاح أمامهم شوارعَ وأزقّةً مشرّعة لطفولتهم المنهوبة، حتّى التي حرموا منها بتواطؤ عالمٍ مزيَّفٍ يدّعي الأخلاق والإنسانية وينادي لمواطنية بالحرّية والعدالة، وضمان الحقوق والأمن، فيما يمنعها عن سابق إصرار وترصّد عن أهلنا في غزّة المكلومة الجريحة المُغتصَبة.
ماذا نفعل نحن الأفراد إزاء ذلك كلّه؟ ... في واقع الأمر، مهما حاولنا لا نفعل شيئاً يذكر، ويبدو أنّنا وصلنا إلى مرحلةَ التطبيع مع القهر باعتباره من حقائق الحياة. حالةُ عجزٍ مريعةٍ تعيشها الشعوب العربية وقد اعتراها الضجر، وطغى على سوادها اليأس، وفي أحيان مؤسفةٍ عدم الاكتراث، فانصرفت إلى شؤون دنياها، وأقامت المهرجانات، وعقدت الندوات، وأحيت الاحتفالات تحت عنوان حتمية استمرارية الحياة، رغم الظروف كلّها.
وقد رفعت بعض دول الجوار الشعار المشين المُخْزِي "واحنا مالنا؟"، في تنكّر وتنصّل وتخلٍّ سافرٍ لم يسبق له مثيل في تاريخ هذه الأمّة المأسوف على ضميرها الذي راح في سباتٍ عميق. كتب الشعراء القصائد المُندّدة، وغنّى المغنّون الأغنيات الحزينة، ووثّق الروائيون الأحداث الأليمة، وسرد الصحافيون الحكايات الصادمة، وقدّم المسرحيون أعمالاً متعلّقة بالمأساة الغزّية، وواصل السياسيون شجبهم وتنديدهم وإدانتهم المَقتَلة الدائرة، وقدّمت منظّمات الإغاثة ما اتيح لها من مساعداتٍ، واندفع متبرّعون بتقديم ما يقدرون عليه، ونظّمت المظاهرات حيث صدحت الحناجر بالهتاف لصمود المقاومة، وبشتم أميركا "رأس الحيّة"، وبلعن الكيان الذي طغى وتجبّر من دون أيّ رادعٍ حقيقي. ومع مرور الأيام، ما لبثت الأصوات أن خفتت رويداً رويداً، وظلّ صوت التفجيرات المُرعِبة مُستمرّاً مهيمناً، وقد أودى الصوت الرهيب بحياة طفلة غزّية رعباً، فتوقّف قلبها الصغير، ورحلت عن دنيانا قطعةً واحدةً، خلافاً لآلاف من صغار غزّة الذين جُمِعت أشلاؤهم في أكياس بلاستيكيّة، ووُزِنت أرواحهم الصاعدة بالكيلو، بعدما اغتيلت حيواتهم وهم يلوذون بالمستشفياتِ وبالمساجدِ وبالكنائسِ وبمراكزِ إيواء اللاجئين الهاربين من الموت إلى الموت، في مشهدٍ سورياليٍّ عبثيٍّ أسود لا نهاية له كما يبدو.
وحين يُطلِق مواطنٌ عربيٌّ مكترثٌ ومقهورٌ ومقموعٌ أسئلته غير التعجيزيّة: ماذا بعد؟ متّى ينتهي هذا القبح كلّه؟ ومتى تحلّ ساعات الخلاص؟ يسود الصمت الرهيب الذي يجسّد حالةَ اليأس، ومشاعر العجز، وإحساس الذنب الذي يرافق كلَّ صاحب ضميرٍ حيٍّ ضاقت روحه بموقع المتفرّج، وكبّلت إرادته بالواقع السياسي المُخجِل، ولم يعد أيُّ منّا، مهما بلغت إمكاناته البلاغية، قادراً على بثّ الأمل في النفوس المتراجعة، ذلك أنّ الأمل نفسه لقي حتفَه، مغدوراً في أزقّة غزّة، وخلفنا سرى الانتظار القاتل المرير، والمراوحة في اللحظة ذاتها عاجزين عن التقدّم خطوةً واحدةً نحو الأمام، غير قادرين على الالتفات نحو الوراء، حيث يكمن الرعب كلّه، فيما يصرخ أهل غزّة من عمق حزنهم وخذلانهم: "يا وحدنا!"... لنكرّر من عمق عجزنا، وبالأسى الممكن كلّه: يا وحدهم في أيلول من جديد!

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.