27 يناير 2020
الجزائر: "حراك 22 فبراير"... إلى أين؟
بث التلفزيون الجزائري يوم 2 إبريل/ نيسان، صورا لعبد العزيز بوتفليقة وهو يسلم رسالة استقالته من رئاسة الجمهورية لرئيس المجلس الدستوري عبد العزيز بلعيز. كانت صورا مؤسفة لرجل مريض ونهاية مأساوية لرجل أراد الخلود في السلطة. أياما قبل استقالته، وبعد اشتداد المعارضة الشعبية له التي انطلقت بمظاهرات في خراطة بولاية بجاية يوم 16 فبراير/ شباط 2019، تخلى عنه أولئك الوصوليون الذين أحاطوا به، وكانوا لسنوات يسبحون بحمده.
بنهايته هذه، نهاية هذا الرجل الذي أراد الانفراد بالحكم والخلود على الكرسي فقام بإفراغ محيطه أولا والجزائر ثانيا من كل من الكفاءات وكل من يمكن أن يقول له "لا"، تحول بوتفليقة لعبرة لكل من يصل للكرسي ولكل مسؤول مهما كانت درجته يريد الخلود في السلطة وذلك بنشر الزبونية والقضاء على المعارضة.
مرت عشرة أسابيع منذ بداية ما يسميه بعضهم حراكا ويسميه آخرون ممن هم أكثر تفاؤلا ثورة، بمسيرات أسبوعية عبر ربوع الجزائر منذ 22 فبراير كل يوم جمعة صنع فيها الجزائريون صورا جميلة. صور جميلة بحجمها وبسلميتها وبطرافة الشعارات التي رفعت فيها.
فبعد أن اعتقد الجميع أن الشعب الجزائري قد استقال من الاهتمام بما يعنيه من أمور بلده، فاجأ هذا الشعب الجميع بخروجه للشارع وعودته للنضال السلمي حيث خرج الجزائريون بالملايين في مختلف الولايات.
ولكي يتحقق ما خرج وما يخرج من أجله الملايين من الجزائريين أسبوعيا ألا وهو: الديمقراطية والحرية لا بد لهذا التطور الكمي في الاهتمام بالسياسة أن يتبعه تطور كيفي.
كل حراك اجتماعي يولد ثم يموت. فيمكن أن يقتله القمع، أو طول الوقت من دون تحقيق نتائج، كما يمكن له أن يقتل نفسه بنفسه وذلك بعدم تسقيف مطالبه وبالتالي المطالبة دائما بالمزيد، أو بتحويل صراعه من صراع عمودي إلى صراع أفقي يتناحر فيه المواطنون بينهم، أو حين ينصب بعضهم نفسه مالكا لذلك الحراك ويقرر من ينتمي لذلك الحراك ومن يجب طرده وما هي المواضيع التي يجب التطرق إليها والمواضيع التي لا يجب الحديث عنها. والتاريخ مليء بأمثلة لثورات لم تنجح في تحقيق ما قامت من أجله.
لكي يحقق أي حراك شعبي أهدافه يجب من جهة تحويل تلك الشعارات التي يرفعها المواطنون إلى برامج مرفقة بخريطة طريق لتجسيدها ومن جهة أخرى نشر الوعي في صفوف أولئك الذين يقومون به، الوعي بشقيه النظري والتطبيقي. وللوصول لذلك يجب أن يساهم الجميع كل حسب إمكانياته وكل حسب مستواه.
فبعد كل هذه الآمال التي يعلقها الجزائريون على حراكهم من أجل تحقيق انتقال ديمقراطي والوصول لتلك الجزائر التي يريدون، بعد أن ثاروا ضد ذلك النظام الذي قمعهم ونهب ثروات بلدهم وأهانهم محليا ودوليا، لا يمكن اليوم الرجوع إلى الوراء. فالرجوع اليوم للوراء من دون تحقيق أهداف الجزائريين وما خرجوا من أجله يعني تخييب آمالهم وتحطيم معنوياتهم مما سيخلق عندهم عزوفا عن السياسة من جديد وانتشارا لليأس بينهم أكثر من السابق، إلا إذا تمكنوا من تحويل ما تحقق من مكاسب منذ بداية الحراك كاستقالة بوتفليقة وسقوط جزء من رموز النظام إلى انتصار.
هل المشكل حاليا في الدستور، وبالتالي يجب تغييره، أو في جزء منه، وبالتالي يجب تعديله أو في تطبيق الدستور، وبالتالي يجب خلق آليات تضمن احترام ذلك الدستور؟
أيا كانت الإجابة إلا أنه في كل حال لا يمكن دمقرطة دولة في بضعة أشهر. فالانتقال الديمقراطي من نظام كالنظام الجزائري الذي استغل ريع البترول وجعل مؤسسات الدولة تنفرد بالسلطة وحدها، فلا الأحزاب السياسية ولا الجمعيات ولا الصحافة تملك وزنا وتشكل سلطة مضادة. ففعليا من كان يمتلك ويتقاسم السلطة في الجزائر قبل 22 فبراير هو الجيش ورئاسة الجمهورية بأجهزتها التابعة لها من أحزاب الموالاة، النقابات والجمعيات الوطنية، وعدد من رجال الأعمال.
حتى ولو عاش الجزائريون لسنوات منغلقين على أنفسهم -فالريع البترولي لم يجعل الدولة تهمل السياحة وحسب، بل تصعّب حتى تنقل الأجانب للجزائر-، إلا أنه لا يمكن فهم ما يحدث اليوم في الجزائر من دون ربطه بسياق ما يحيط بها وما يحدث في العالم، ولفهم ما يحدث في الجزائر يجب أيضا فهم ما حدث في التجارب السابقة من ثورات مماثله للانتقال الديمقراطي في العالم.
لا يمكن الخروج مما نحن فيه بأقل أضرار ممكنة وإيجاد حلول لمشاكلنا من دون تشخيص للوضع الحالي في شتى المجالات بداية من الاقتصاد، القطاع الذي غاب الحديث عنه طيلة هذه الفترة بالرغم من أن القطيعة مع هذا النظام تبدأ بالقطيعة مع الاقتصاد الريعي الذي يعد عموده الفقري إذ خلق بفضله زبونيه وفسادا على المستويين الوطني والدولي. فالنظام ليس مجرد أسماء وأشخاص، سواء كانوا ظاهرين أم لا، يمكن تغييره بتغيير هذه الأسماء بل ممارسات تتم في السلطة وخارجها تسمح بوصول وبقاء أولئك الأشخاص في السلطة بطريقة غير ديمقراطية واستغلالهم لتلك السلطة لمصالحهم لا لمصلحة الشعب.
اليوم على كل تلك النخبة التي وقعت البيانات وخرجت في مسيرات ونظمت وقفات عبرت فيها عن "مساندتها للشعب ومطالبه" أن تمر الآن لتجسيد التزاماتها على أرض الواقع. ولعل من يمكنه لعب دور رئيسي هي الجامعة، المنتخبون المحليون، الأحزاب والجمعيات والنقابات، والإعلام.
من يملك المعلومة، والتنظيم، والوجود على المستوى الوطني للقيام بمهمة فتح النقاشات وتسهيل مبادرات الحوار في المجتمع، حوار يشارك فيه جميع الجزائريين بمختلف توجهاتهم، سواء كانوا داخل الوطن أو خارجه، ويتطرق لمختلف المجالات من اقتصاد، سياسة، قانون، مجتمع... هي الجامعة، كي تأتي بعدها المجالس المنتخبة من حيث تغطيتها لكامل التراب الوطني، والأحزاب والنقابات والجمعيات ومختلف التنظيمات. فحتى لو كانت هذه التنظيمات ضعيفة بعد عشرية سوداء قتل فيها أو هُجّر خيرة أبناء البلد وبسبب القمع ولأسباب داخلية خاصة بها، إلا أنها لا تزال تملك تلك الروح النضالية وتجربة في التنظيم والتعبئة وتحويل كل تلك المقترحات والملاحظات لبرامج سياسية.
الإعلام من جهته، حتى لو تمكّن النظام ولسنوات من استتباعه وذلك بتوزيع الريع من إشهار على الإعلام الخاص منه أو تحويل الإعلام العام من وظيفته الرئيسية وهي توفير الخدمة العمومية إلى ناطق باسم الحكومة ومدافع عن توجهاتها وخياراتها، عليه اليوم العمل على التحرر من تلك التبعية وذلك بلعب دوره رقيباً على مختلف السلطات وناقلاً للحقيقة وحاملاً لانشغالات المواطن ومدافعاً عن العدالة، وليس مدافعاً عن طرف في السلطة ضد آخر ومروجاً للأخبار الكاذبة والشائعات. وحينما يرى المواطن أن الإعلام يدافع عنه وعن مصالحه، فإنه سيدافع عن حرية الصحافة وحق الصحافي في الوصول للمعلومة، وعن صحافة عمومية توفر خدمة عمومية.
وفي الأخير بقي القول إن الجزائر تعيش مرحلة تاريخية، وإذا أتت ثورة نوفمبر 1954 بالاستقلال، وإذا خرجت الجزائر بعد أحداث أكتوبر 1988 بالتعددية الحزبية والإعلامية فيجب أن نخرج مما يحدث اليوم بالتعددية الفكرية وبعودة الروح النضالية والكفاح السياسي إلى الجزائري.
بنهايته هذه، نهاية هذا الرجل الذي أراد الانفراد بالحكم والخلود على الكرسي فقام بإفراغ محيطه أولا والجزائر ثانيا من كل من الكفاءات وكل من يمكن أن يقول له "لا"، تحول بوتفليقة لعبرة لكل من يصل للكرسي ولكل مسؤول مهما كانت درجته يريد الخلود في السلطة وذلك بنشر الزبونية والقضاء على المعارضة.
مرت عشرة أسابيع منذ بداية ما يسميه بعضهم حراكا ويسميه آخرون ممن هم أكثر تفاؤلا ثورة، بمسيرات أسبوعية عبر ربوع الجزائر منذ 22 فبراير كل يوم جمعة صنع فيها الجزائريون صورا جميلة. صور جميلة بحجمها وبسلميتها وبطرافة الشعارات التي رفعت فيها.
فبعد أن اعتقد الجميع أن الشعب الجزائري قد استقال من الاهتمام بما يعنيه من أمور بلده، فاجأ هذا الشعب الجميع بخروجه للشارع وعودته للنضال السلمي حيث خرج الجزائريون بالملايين في مختلف الولايات.
ولكي يتحقق ما خرج وما يخرج من أجله الملايين من الجزائريين أسبوعيا ألا وهو: الديمقراطية والحرية لا بد لهذا التطور الكمي في الاهتمام بالسياسة أن يتبعه تطور كيفي.
كل حراك اجتماعي يولد ثم يموت. فيمكن أن يقتله القمع، أو طول الوقت من دون تحقيق نتائج، كما يمكن له أن يقتل نفسه بنفسه وذلك بعدم تسقيف مطالبه وبالتالي المطالبة دائما بالمزيد، أو بتحويل صراعه من صراع عمودي إلى صراع أفقي يتناحر فيه المواطنون بينهم، أو حين ينصب بعضهم نفسه مالكا لذلك الحراك ويقرر من ينتمي لذلك الحراك ومن يجب طرده وما هي المواضيع التي يجب التطرق إليها والمواضيع التي لا يجب الحديث عنها. والتاريخ مليء بأمثلة لثورات لم تنجح في تحقيق ما قامت من أجله.
لكي يحقق أي حراك شعبي أهدافه يجب من جهة تحويل تلك الشعارات التي يرفعها المواطنون إلى برامج مرفقة بخريطة طريق لتجسيدها ومن جهة أخرى نشر الوعي في صفوف أولئك الذين يقومون به، الوعي بشقيه النظري والتطبيقي. وللوصول لذلك يجب أن يساهم الجميع كل حسب إمكانياته وكل حسب مستواه.
فبعد كل هذه الآمال التي يعلقها الجزائريون على حراكهم من أجل تحقيق انتقال ديمقراطي والوصول لتلك الجزائر التي يريدون، بعد أن ثاروا ضد ذلك النظام الذي قمعهم ونهب ثروات بلدهم وأهانهم محليا ودوليا، لا يمكن اليوم الرجوع إلى الوراء. فالرجوع اليوم للوراء من دون تحقيق أهداف الجزائريين وما خرجوا من أجله يعني تخييب آمالهم وتحطيم معنوياتهم مما سيخلق عندهم عزوفا عن السياسة من جديد وانتشارا لليأس بينهم أكثر من السابق، إلا إذا تمكنوا من تحويل ما تحقق من مكاسب منذ بداية الحراك كاستقالة بوتفليقة وسقوط جزء من رموز النظام إلى انتصار.
هل المشكل حاليا في الدستور، وبالتالي يجب تغييره، أو في جزء منه، وبالتالي يجب تعديله أو في تطبيق الدستور، وبالتالي يجب خلق آليات تضمن احترام ذلك الدستور؟
أيا كانت الإجابة إلا أنه في كل حال لا يمكن دمقرطة دولة في بضعة أشهر. فالانتقال الديمقراطي من نظام كالنظام الجزائري الذي استغل ريع البترول وجعل مؤسسات الدولة تنفرد بالسلطة وحدها، فلا الأحزاب السياسية ولا الجمعيات ولا الصحافة تملك وزنا وتشكل سلطة مضادة. ففعليا من كان يمتلك ويتقاسم السلطة في الجزائر قبل 22 فبراير هو الجيش ورئاسة الجمهورية بأجهزتها التابعة لها من أحزاب الموالاة، النقابات والجمعيات الوطنية، وعدد من رجال الأعمال.
حتى ولو عاش الجزائريون لسنوات منغلقين على أنفسهم -فالريع البترولي لم يجعل الدولة تهمل السياحة وحسب، بل تصعّب حتى تنقل الأجانب للجزائر-، إلا أنه لا يمكن فهم ما يحدث اليوم في الجزائر من دون ربطه بسياق ما يحيط بها وما يحدث في العالم، ولفهم ما يحدث في الجزائر يجب أيضا فهم ما حدث في التجارب السابقة من ثورات مماثله للانتقال الديمقراطي في العالم.
لا يمكن الخروج مما نحن فيه بأقل أضرار ممكنة وإيجاد حلول لمشاكلنا من دون تشخيص للوضع الحالي في شتى المجالات بداية من الاقتصاد، القطاع الذي غاب الحديث عنه طيلة هذه الفترة بالرغم من أن القطيعة مع هذا النظام تبدأ بالقطيعة مع الاقتصاد الريعي الذي يعد عموده الفقري إذ خلق بفضله زبونيه وفسادا على المستويين الوطني والدولي. فالنظام ليس مجرد أسماء وأشخاص، سواء كانوا ظاهرين أم لا، يمكن تغييره بتغيير هذه الأسماء بل ممارسات تتم في السلطة وخارجها تسمح بوصول وبقاء أولئك الأشخاص في السلطة بطريقة غير ديمقراطية واستغلالهم لتلك السلطة لمصالحهم لا لمصلحة الشعب.
اليوم على كل تلك النخبة التي وقعت البيانات وخرجت في مسيرات ونظمت وقفات عبرت فيها عن "مساندتها للشعب ومطالبه" أن تمر الآن لتجسيد التزاماتها على أرض الواقع. ولعل من يمكنه لعب دور رئيسي هي الجامعة، المنتخبون المحليون، الأحزاب والجمعيات والنقابات، والإعلام.
من يملك المعلومة، والتنظيم، والوجود على المستوى الوطني للقيام بمهمة فتح النقاشات وتسهيل مبادرات الحوار في المجتمع، حوار يشارك فيه جميع الجزائريين بمختلف توجهاتهم، سواء كانوا داخل الوطن أو خارجه، ويتطرق لمختلف المجالات من اقتصاد، سياسة، قانون، مجتمع... هي الجامعة، كي تأتي بعدها المجالس المنتخبة من حيث تغطيتها لكامل التراب الوطني، والأحزاب والنقابات والجمعيات ومختلف التنظيمات. فحتى لو كانت هذه التنظيمات ضعيفة بعد عشرية سوداء قتل فيها أو هُجّر خيرة أبناء البلد وبسبب القمع ولأسباب داخلية خاصة بها، إلا أنها لا تزال تملك تلك الروح النضالية وتجربة في التنظيم والتعبئة وتحويل كل تلك المقترحات والملاحظات لبرامج سياسية.
الإعلام من جهته، حتى لو تمكّن النظام ولسنوات من استتباعه وذلك بتوزيع الريع من إشهار على الإعلام الخاص منه أو تحويل الإعلام العام من وظيفته الرئيسية وهي توفير الخدمة العمومية إلى ناطق باسم الحكومة ومدافع عن توجهاتها وخياراتها، عليه اليوم العمل على التحرر من تلك التبعية وذلك بلعب دوره رقيباً على مختلف السلطات وناقلاً للحقيقة وحاملاً لانشغالات المواطن ومدافعاً عن العدالة، وليس مدافعاً عن طرف في السلطة ضد آخر ومروجاً للأخبار الكاذبة والشائعات. وحينما يرى المواطن أن الإعلام يدافع عنه وعن مصالحه، فإنه سيدافع عن حرية الصحافة وحق الصحافي في الوصول للمعلومة، وعن صحافة عمومية توفر خدمة عمومية.
وفي الأخير بقي القول إن الجزائر تعيش مرحلة تاريخية، وإذا أتت ثورة نوفمبر 1954 بالاستقلال، وإذا خرجت الجزائر بعد أحداث أكتوبر 1988 بالتعددية الحزبية والإعلامية فيجب أن نخرج مما يحدث اليوم بالتعددية الفكرية وبعودة الروح النضالية والكفاح السياسي إلى الجزائري.