خلال فترة وجيزة نفذ قائد أركان الجيش الجزائري، باسم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، سلسلة تغييرات عميقة في قيادة المناطق العسكرية، فتمّت إقالة اللواء شريف عبد الرزاق قائد المنطقة العسكرية الرابعة ومقرها ورقلة، والتي تدخل ضمن نطاقها مسؤولة حماية المنطقة النفطية الممتدة في الصحراء الجزائرية جنوباً. وعبد الرزاق أحد أبرز صقور المؤسسة العسكرية، وعين خلفاً له اللواء حسان علايمية. كما أقيل قائد المنطقة العسكرية الثانية ومقرها وهران، غربي الجزائر، اللواء سعيد باي، ونُصّب اللواء مفتاح صواب خلفاً له. وأقيل قائد المنطقة العسكرية الأولى التي تدخل ضمن نطاقها العاصمة الجزائرية، منطقة الوسط، اللواء حبيب شنتوف ذن، وعين خلفاً له اللواء علي سيدان. كما اختير اللواء محمد عجرود قائداً جديداً للناحية العسكرية السادسة بتمنراست، جنوبي الجزائر.
وإضافة إلى قادة المناطق العسكرية، فقد شملت الإقالات عدداً من القيادات في المقرّ المركزي للجيش، بينهم قائد المديرية المركزية لأمن الجيش، اللواء محمد تيرش، الذي استُبدل باللواء بلميلود عثمان، مدير مركز التحقيقات العسكرية. وطاولت التغييرات المراقب العام بوزارة الدفاع العميد بن عتو بومدين الذي تم تعويضه باللواء حاج زرهوني، والمدير المركزي للمالية اللواء بوجمعة بودوار، ومدير المستخدمين في الجيش مقداد بن زيان. وجاءت هذه الإقالات ضمن سياق متزامن مع سلسلة من التغييرات مست جهازي الدرك وجهاز الأمن العام منذ نهاية شهر يونيو/ حزيران الماضي، بعد إقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة قائد جهاز الدرك اللواء مناد نوبة، وقائد جهاز الأمن العام اللواء عبد الغني هامل، وقائد جهاز الاستخبارات التابعة للشرطة نور الدين راشدي.
وعزا قائد أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح هذه التغييرات إلى "رغبة الجيش في جعل التداول على المناصب تقليداً عسكرياً راسخاً وسنة حميدة، تتيح فرصة تحفيز القدرات البشرية، وتثمين خبراتها الغنية والمتراكمة وتشجيعها على مواصلة بذل المزيد من الجهد على درب خدمة جيشنا، الذي يتجه نحو المزيد من الاستفادة من تجارب واحترافية ومهارة إطاراته". وأشار إلى أن "مقياس الجدارة ومعيار الاستحقاق هما منارة الطريق الأصوب الذي نسلكه دون سواه، نحو تثبيت نهج التداول على الوظائف والمناصب". لكن تبريرات قائد أركان الجيش عن التداول على المناصب لم تكن مقنعة ولم تنه الجدل المتصاعد بشأن خلفيات هذه التغييرات، خصوصاً أن حديث قائد أركان الجيش عن ضرورة التداول في المناصب، يفترض أن تشمله شخصياً، اذ يشغل منصبه منذ 14 سنة، منذ عام 2004، مقارنة مع القيادات التي أقيلت والتي تشغل مناصبها منذ فترة أقل من ذلك بكثير.
قرب موعد الانتخابات الرئاسية والغموض الراهن في أعلى هرم السلطة بشأن القدرة الفعلية للرئيس عبد العزيز بوتفليقة على إدارة شؤون الحكم والترشح لولاية رئاسية خامسة، ودور الجيش في خريطة القرار السياسي بشأن ذلك، أعطت للتغييرات الأخيرة في الجيش بعداً سياسياً، إذ لا تفصل نقاشات المتابعين للشأن السياسي والعسكري في الجزائر بين التغييرات الأخيرة والتمهيد لمخرجات الاستحقاق الرئاسي المقبل المقرر في الربيع المقبل.
الكاتب والمحلل السياسي المهتم بالشأن العسكري، أحسن خلاص، أكد في حديث مع "العربي الجديد"، أن "التغييرات الأخيرة تمت لصالح محيط الرئيس بوتفليقة، ضماناً للمرحلة المقبلة، مهما كانت مخرجات القرار الرئاسي بشأن الترشح لولاية خامسة من عدمه". وأضاف أن "الملاحظ أن التغييرات عززت أكثر محيط بوتفليقة، عكس ما يقال. المناصب الحساسة داخل المؤسسة العسكرية بيد محيط الرئيس، وقايد صالح هو ممثل هذا المحيط لدى المؤسسة، وهذا المحيط لا يفكر في العهدة الخامسة بل في استمرارية هذا المحيط".
وأشار خلاص إلى أن "التغييرات الأخيرة تدخل في سياق التفكير في استمرار قبضة تكتل بوتفليقة بعد ذهابه بشكل أو بآخر. لهذا العهدة الخامسة ليست غاية إذا ما تم ضمان الاستمرارية، لأن الرئيس بوتفليقة يبقي مجرد عنوان". وتحدث عن وجود "شبكة مصالح وتكتل قوي داخل المؤسسات عنوانه بوتفليقة الذي تمكن في ظرف 19 سنة من تشكيل دولة داخل الدولة وليس من السهل الإطاحة به". ولفت إلى أن "قائد أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح، الذي بات الرجل القوي الوحيد في المشهد، إضافة إلى قائد الحرس الجمهوري الفريق علي بن علي، يمثلان الأداة التي يبطش بها محيط الرئيس، رغم أن قايد صالح يمكن أن يخضع هو الآخر لسنة التداول والتشبيب التي تحدث عنها بنفسه أخيراً".
ما أثار الشكوك السياسية والجدل الإعلامي حول التغييرات التي طرأت في الجيش، الطريقة التي تم الإعلان عنها، والتي جاءت مخالفة تماماً للتقاليد المعروفة والمعمول بها في أوضاع كهذه. ولم تصدر الرئاسة الجزائرية عن الرئيس بوتفليقة بصفته وزيراً للدفاع، أي بيان رسمي يتضمن مجمل الإقالات والتعيينات، كما لم تعلن وزارة الدفاع عن ذلك سوى بعد فترة عند قيام قائد الأركان الفريق أحمد قايد صالح بمراسم تسليم السلطة إلى القيادات الجديدة.
ووصف الباحث مبروك كاحي، الذي أعد دراسة عن علاقة الجيش بالسلطة المدنية، هذه الطريقة بأنها "مفاجئة". وقال في حديث مع "العربي الجديد"، إنه "في الغالب تكون هناك تغييرات في الجيش عقب كل استحقاق رئاسي، لكن هذه المرة جاءت مفاجئة ومثيرة للاستغراب وعبر قناة خاصة مقربة من السلطة، وليس عبر بيان رسمي في التلفزيون الرسمي أو الإذاعة أو حتى وكالة الأنباء الجزائرية". وأشار إلى أن "التغييرات لا تخلو من رسالة سياسية، وتغيير قادة النواحي طوفان عسكري برسائل سياسية. وهو عبارة عن رسالة بأن المؤسسة العسكرية تحت السيطرة، ورسالة أخرى بأن المؤسسة العسكرية ستكون حاضرة في استحقاق إبريل/ نيسان 2019".
النقاش السياسي في الجزائر حول التغييرات الأخيرة في الجيش يتخطى الاستحقاق الرئاسي المقبل وبوتفليقة الذي يعاني من وضع صحي صعب ومحيطه الرئاسي إلى رغبة قائد أركان الجيش الذي يسعى للسيطرة على مجمل مقاليد المؤسسة العسكرية وإبعاد بعض القيادات التي قد تكون مواقفها مشوشة تجاه مشروع الولاية الرئاسية الخامسة أو غير مضمونة بشأن ذلك أو تجاه قائد الجيش نفسه وتنافسه على مجالات النفوذ.
لكن الباحث كاحي لا يعتبر أن "القيادات العسكرية التي تمّت إزاحتها من مناصبها قد تكون لها مواقف مناوئة لبوتفليقة أو لقائد أركانه"، مشيراً إلى أن "من تمّت إزاحتهم لا يمكن وصفهم بخصوم الرئيس أو قائد أركان الجيش الفريق قايد صالح، لأنهم أقل رتبة من هذا الأخير وكلهم برتبة لواء. ونحن نعرف جيداً التسلسل الهرمي للرتب بالنسبة للنخبة العسكرية عكس نظيرتها السياسية، والوحيد الذي يتساوى مع قائد أركان الجيش قايد صالح في الرتبة العسكرية كفريق، هو قائد الحرس الجمهوري علي بن علي".
في هذا السياق، لفت كاحي إلى أنه "لا تزال مؤسسة تابعة للجيش لا تقل عن قيادة النواحي لم يمسسها التغيير، وهي بعيدة عن الضوء ووزنها ثقيل، وهي الحرس الجمهوري، إذا علمنا من يترأسها وهو الفريق علي بن علي الذي لا يقل وزناً عن قايد صالح". وينظر قايد صالح إلى بن علي بكونه المنافس الأبرز على منصبه كقائد للأركان. وخلال الأسبوعين الماضيين سرت في الجزائر شائعات عن إمكانية إقالة قايد صالح من منصبه، وهي شائعات اعتبرها متابعون أنها محاولة من جهة ما في الرئاسة لاختبار ردة فعل قائد أركان الجيش أو التمهيد وتحضيره سيكولوجياً لقرار كهذا.
بعض القراءات بشأن التغييرات الأخيرة في الجيش الجزائري ذهبت في اتجاه قد يبدو بالنسبة للكثيرين مستبعداً، يتعلق بمحاولة قايد صالح السيطرة بالكامل على القرار داخل المؤسسة العسكرية، واستبعاد كل الكوادر التي يعتقد أنها قد تنافسه، خصوصاً أن التغييرات مست قيادات عسكرية بارزة في الجيش، كاللواء سعيد باي واللواء شريف عبد الرزاق، الذي أشرف على تحرير منشأة الغاز تيقنتورين، جنوبي الجزائر، من قبضة الإرهابيين في 16 يناير/ كانون الثاني 2013. وإذا كانت بعض التحاليل قد ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك، بشأن إمكانية وجود طموحات شخصية لقائد أركان الجيش في خلافة بوتفليقة في الرئاسة في حال قرر الأخير عدم الترشح لولاية خامسة في إبريل المقبل، فإن ذلك يبدو مستبعداً لاعتبارات محلية وإقليمية عدة، مع محاولة الجيش الجزائري استبعاد نفسه عن الفعل السياسي المعلن والمباشر والاكتفاء بالدور السابق نفسه كفاعل رئيس في المحددات السياسية للبلاد.