وتبرز كتلة أولى من الحراك تصرّ على الاستمرار في التظاهر، وترفض تماماً الإقرار بشرعية تبون، وذلك على خلفية اعتراضها على مجمل المسار الذي أفضى إلى الانتخابات الرئاسية، معتبرةً أنّ صعود الرئيس الجديد إلى سدّة الحكم كان بدعم من الجيش الذي تعدّه قاعدة خلفية للحكم. وتتمترس هذه الكتلة خلف مبرّرات ذات صلة بمسارات مشابهة حصلت في السابق، وأظهرت مآلاتها أنّ السلطة نجحت فعلاً في الانتقال من مرحلة إلى أخرى من دون أن تسلّم الحكم للشعب، والتفّت على المطالب الديمقراطية. وتعتقد هذه الكتلة أنّ التفريط هذه المرة في الحراك الشعبي والشارع والقبول بمخرجات الانتخابات الرئاسية والتعامل مع الرئيس الجديد، ستفوّت على الجزائر والجزائريين فرصة حقيقية لافتكاك مسار انتقال ديمقراطي حقيقي.
ويتبنى هذا التوجّه الناشط الحقوقي، أحد وجوه الحراك الشعبي، عبد الغني بادي، الذي يعتبر أنّ الرئيس الجديد يمثّل "مشروع استمرار لسياسة سلطة الأمر الواقع التي تفرض أجندتها ورؤيتها الأحادية التي تسير في اتجاه واحد، من دون البحث عن طرق أخرى أكثر فعالية لتحقيق، ولو تقارباً بسيطاً". ويعتبر بادي في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "هناك تباعداً بين مطالب الحراك، أو بالأحرى منطقه في الحلّ، وبين منطق السلطة، بعد أن فرض النظام كل الآليات التي كانت مرفوضة شعبياً، على الرغم من زخم الشارع، وهو يتجه نحو فرض سلطة أمر واقع، وأهدافه ستصبّ في تفريق الحراك وتشتيته بدلاً من فتح حوار معه".
ويرى بادي أنّ "الحراك يبحث عن انتقال سياسي حقيقي، فيما ترى السلطة أنها حسمت الأمر بفرض تبون رئيساً". ويتوقّع أن تتجه السلطة إلى "محاولة استدراج الطبقة السياسية، كإجراء حوار حول تعديل دستوري، وانتخابات نيابية بعد حلّ البرلمان، وإطلاق مشاورات حول حكومة جديدة، لجرّ بعض الفواعل السياسية إلى ساحتها، في مقابل العمل على صنع خلافات وتشويش كبير على الحراك للإجهاز عليه".
أكثر من ذلك، تبدي هذه الكتلة موقفاً سلبياً من دعوة تبون خلال تأديته اليمين الدستورية أخيراً، للحراك الشعبي والمكونات السياسية والمدنية إلى الحوار، لطيّ صفحة الخلافات والنزاع السياسي، عندما قال الرئيس: "أجدّد التزامي بمدّ يدي للجميع للحوار في إطار التوافق الوطني وقوانين الجمهورية، للاستجابة للتطلعات العميقة لشعبنا بالتغيير العميق لنظام الحكم وتحقيق دولة الديمقراطية"، معتبراً أنْ "لا خيار لنا إلا وضع اليد في اليد". وطرح تبون حزمة وعود وتعهدات سياسية، لبناء ما وصفها بـ"الجمهورية الجديدة"، وإقرار تعديل دستوري في وقت وجيز من بداية عهدته الرئاسية، يحصّن الجزائر من السقوط في الحكم الفردي، وضمان حرية الإعلام وحقّ التجمّع والتظاهر، فضلاً عن تعديل قانون الانتخابات، وتجريم تدخّل المال الفاسد في العمل السياسي.
بخلاف هذه الكتلة، وداخل النسق الشعبي للحراك أيضاً، تبرز كتلة ثانية ترى أنه يمكن التفاعل مع الرئيس الجديد ضمن ضوابط محددة. وتدفع هذه الكتلة إلى الاستمرار في التظاهر في الشارع كضمانة مركزية للإبقاء على المطالب الديمقراطية حيّة، والضغط أكثر على الرئيس الجديد لطرح أجندة وخطوات واضحة لتحقيقها، على خلفية أنّ الشعب لم يعد يثق بالوعود السياسية التي سبق أن قدمها رؤساء سابقون، ولم تتحقّق على الأرض. وتنخرط في الكتلة الثانية من الحراك الشعبي مجموعة من المكونات السياسية الرئيسة فيه، إذ كانت كتلة من الأحزاب كحركة "مجتمع السلم"، وحركة "البناء الوطني"، و"جبهة العدالة والتنمية"، و"جبهة القوى الاشتراكية"، وحزب "جيل جديد"، قد أبدت مرونة كبيرة في إمكانية التفاعل إيجاباً مع الرئيس الجديد، إذا طُرحَت جدياً خطوات سياسية تفضي إلى شراكة سياسية حقيقية، وتفتح الأفق المشترك نحو مسار ديمقراطي جدي يؤسس لجمهورية جديدة.
في السياق، يعتقد متابعون للشأن السياسي في الجزائر أنّ السوابق السياسية للسلطة، وخصوصاً عدم تحقّق مجمل الوعود التي كان قد أعلنها الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة منذ انتخابه رئيساً عام 1999، بشأن تحقيق العدالة والديمقراطية وحفظ الكرامة، هي التي تدفع كتلة هامة من الجزائريين اليوم، سواءٌ المنتظمون في الحراك أو غيرهم، إلى إرجاء إصدار أي موقف إزاء وعود الرئيس الجديد عبد المجيد تبون.
ويؤكد الباحث الأكاديمي في الشؤون السياسية ميلود ولد الصديق، أنّ "هذه المرحلة تستوجب مزيداً من العقلانية والواقعية في التعامل مع الوضع السياسي". ويقول ولد الصديق في حديث مع "العربي الجديد": "إنّ السلطة بحكم التجارب، ستجنح نحو إيجاد مناخ تحاور، تحاول من خلاله إثبات حسن نيّة وكسب الثقة، والتشديد على أنّ هذا المناخ هو بغرض الاستجابة للمطالب، حتى وإن كان الخطاب الذي ألقاه الرئيس الجديد لم يتطرّق إلى الحوار مثلاً. فضمنياً، إن تشديده على محاربة الفساد وتعديل الدستور وإعادة المكانة للجزائريين، بمثابة خطوط يمكن التوافق عليها. ومع ذلك، فأنا أعتقد أنّ الحراك واستمراريته في هذا الوقت، أمران ضروريان للضغط أكثر، وممارسة الرقابة على مدى جدية السلطة في الاتجاه نحو التغيير المطلوب".
وثمّة من يعتقد أنّ تبون قد لا ينتبه كثيراً إلى الحراك الشعبي، لإدراكه أنّ الأخير عبارة عن مجموعة من المكونات السياسية المتباينة في طروحاتها السياسية ومشاربها الفكرية. وهذا التباين قد يمثّل بالنسبة إلى السلطة الجديدة نقطة تناقض ستستغلها، للتوجه نحو التركيز على قضايا تبدو أكثر أهمية بالنسبة إلى المواطن الجزائري، وتعدّ مركز الثقة التي يمكن استعادتها بفعل قرارات تخصّ الشقّ الاجتماعي والاقتصادي. ويدفع ذلك الكثير من الناشطين والباحثين السياسيين إلى الدعوة إلى تنظيم الشارع، وتأطير الحراك في مجموعات ضغط منتظمة.
ويذهب الباحث في العلوم السياسية، منصور لخضاري، في هذا الإطار، إلى أنه "يتعيّن على الشارع الآن أن يبحث عن آليات لمأسسة المراقبة وتأمين العبور إلى ما يحقّق آماله". ويؤكد في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "الحراك استطاع إحداث قطيعة مع الكثير من الممارسات السابقة، وحجز مكان للشعب في مربع الفعل السياسي". ويعتبر أنّ "ابتعاد الرئيس تبون عن استعمال لقب الفخامة للرئيس، ثمرة لإحدى البذور الرمزية للحراك، ومؤشر من مؤشرات تعامل السلطة مع الشعب على أنه كائن موجود ومعنيّ، في انتظار الارتقاء بتعاملها معه على أنه شريك وذو رأي وقرار".