ولأنّ النظام يرفض كل تفكير مشترك أو تدبير توافقي، ناح بوجهه حينها عن كل مقترحات الحلّ التي طرحتها المعارضة بزخمها التاريخي، واختار فرض مسار انتخابي عام 1995، حلّ عبره مشكلته المركزية (الشرعية)، لكنه لم يحلّ أزمة البلد التي تعقدت أمنياً عام 1997، وسياسياً صيف 1998 باستقالة الرئيس اليمين زروال. في عام 1999، اختار النظام وضع الحلّ بمفرده كذلك، وعمد لإقرار تسويات قانونية للأزمة الأمنية، ونقل البلد إلى مرحلة جديدة من الحكم الفردي، وقادت النرجسية رأس النظام عبد العزيز بوتفليقة إلى صياغة إصلاحات، مسّت عمق القضايا المجتمعية، بشكل منفرد أيضاً، من دون البحث عن أي توافقات مع المجتمع السياسي والمنظمات المدنية.
خلال عقدين، كان النظام يمعن في الإصلاح، ثمّ إصلاح الإصلاح، والتلاعب بالزمن السياسي، واللعب على التناقضات السياسية والمراهنة على صدام التيارات، قبل أن ينكشف هذا المسار إلى كارثة سياسية، وتخريب اجتماعي، وتسليم اقتصاد البلد إلى الأوليغارشيا. لم تقم المؤسسة العسكرية بأي تنبيه من مخاطر هذا التوجه على الرغم من أنّ نتائجه كانت متوقعة منهجياً وعلمياً. كذلك لم يكن بمقدور المجتمع السياسي والمدني توقيف هذا الخراب والتدمير الممنهج، وكان من الضروري إطلاق حركة شعبية وحدوية في 22 فبراير/ شباط الماضي لوقف المشروع الكارثي.
كان يفترض أن تؤسس هذه الحركة الوحدوية لمرحلة جديدة مختلفة تماماً، والتعاطي بصدقية أكبر مع المشكلات العميقة والمؤسسة لأزمات البلد (غياب الديمقراطية). وكان يفترض أن يؤدي انكشاف حجم التواطؤ والخيانة التاريخية للنظام برجاله ومؤسساته إلى الانسحاب، وإتاحة الزمن والمساحات الكافية للمنتظم السياسي والقوى الحية لصياغة أرضية تفاهمات وعناوين جديدة من التوافق السياسي المؤدّي إلى حلّ جذري لمشكلة الديمقراطية.
وحدها الخيانة المطبوعة على جبين النظام لكل حركة وحدوية ولحظة إجماع وطني، وفهمه القاصر للديمقراطية واختصارها في السياق الانتخابي، دفعته مجدداً إلى الانفراد بترتيبات الحلّ ومخرجات الأزمة، وفرض مسارات متعثرة من الحوار والتشكيل الصوري لهيئة انتخابات، من دون استبعاد مظاهر التضييق والملاحقات البوليسية، وغلق المجال السياسي، وعسكرة الإعلامي فضلاً عن التهديد المستمر للمجتمع.
درس أكتوبر ما زال صالحاً، ودروس الأزمات التي تلت ذلك أيضاً؛ كلما انفرد النظام بصياغة مخرجات الحل، واستخدام الدعاية والقوة والإجبار والفزاعات لإقناع الجزائريين بأنه التدبير المثالي والخيار الوحيد، كان يفتح طريقاً قصيراً نحو أزمة أخرى في الأفق.