تنتصب "المسيرة" للنحات حسن خاطر منذ العام 1987 في ساحة بلدة "مجدل شمس" في الجولان السوري المحتل، وتجسّد سلطان باشا الأطرش محاطاً بشخصيات المثقف والمجاهد والأم المفجوعة والشهيد. تحيل هذه المنحوتة إلى أعمال نصبية أخرى تناولت موضوعة الحرب في تاريخ الفن، ولا سيما الاشتراكية منها.
وإن كانت المدرسة التي ينتمي إليها خاطر كلاسيكية تماماً، وإن كان موقع أعماله ثابتاً في الفضاء الطلق للبلدة/المدينة، لكن المواضيع التي تطرّق إليها هو وجيله هي المواضيع ذاتها التي ما زالت تشغل فناني الجولان الأصغر سناً اليوم الذين تعرض أعمالهم وتتنقل على جدران وفي أروقة المعارض في مدن مختلفة. ربما لن نكون مخطئين إن اعتبرنا أن ثيمتي الهوية والعنف غالبتان على الفن في الجولان، وباجتماعهما تلتئم الهوية الفردية بالجمعية في العمل الفني.
حين قام الجولانيون بما عرف بـ"انتفاضة الهوية" عام 1982، حققوا مكسباً عملياً بأن سمحت سلطات الاحتلال للراغبين في إكمال تعليمهم أن يذهبوا إلى دمشق. كثيرون تدفقوا إلى الجامعة، وتلقى الفنانون بشكل خاص تعليمهم في كلية الفنون الجميلة هناك. وللمرة الأولى بات بإمكان جيل ولد وعاش محاصراً في الجولان أن يعيش في دمشق وأن يعرفها.
يصف الفنان أكرم الحلبي (33 عاماً) في نص كتبه نهاية العام 2011 حالة التهيؤ للقاء الوطن المتخيل، على النحو الآتي: "دهنت و حفرت وقشّرت كل الكتابات العبرية عن أشيائي فلم يبقَ سوى عبوات غير معروفة قررت أن أعرّفها عند وصولي إلى دمشق... حشوتها في حقائب السفر". لا نعرف ما مصير مهمة إعادة تعريف الأشياء التي قام بها الحلبي، لكننا ما زلنا نشاهد في أعماله الفنية وجوهاً مقشرة الملامح مطموسة الهوية.
الحلبي المقيم في فيينا، والذي شارك مؤخراً في معرض "IMAGETEXTE 3" في باريس إلى جانب فنانين آخرين، يشتغل على الصورة الفوتوغرافية التشكيلية، إن جاز التعبير، مركباً عليها مفردات لغوية تعريفية. إذ لا يمكن اعتبار الفضل في العمل الفني الذي أمامنا لعدسة الكاميرا ولا للتقنيات الفنية وحدها. فما يقوم به الحلبي هو تشكيل الصورة، مثلما فعل في مجموعة "الفوتومونتاج" التي أعاد فيها إنتاج صور المجازر التي وقعت في سوريا في السنوات الثلاث الأخيرة، ليضع بذلك تعريفه البصري للعنف.
"تلّة الصيحات" لـ أكرم الحلبي |
وقد تكون تجربة النحاتة رندا مدّاح (31 عاماً) إحدى أهم التجارب السورية القادمة من الجولان. ومدّاح التي اختبرت بدورها الحياة والدراسة في دمشق ثم عادت منها بشكل نهائي إلى مسقط رأسها، تقول: "رسمت دمشق خطوطاً عريضة لكل ما أنتجته بعد عودتي إلى الجولان في 2006". ومن أبرز أعمالها "مسرح الدمى" الذي انتهت منه عام 2008 وعُرض في غاليري "المحطة" في رام الله.
ويقترب هذا التجهيز من مفهوم المسرح، فالخلفية جدارية "نحت نافر" ذات مقاييس كبيرة مكتظة بالبشر/الدمى ذات الملامح غير الواضحة أو الممحوة. أما الأجساد ففي وضعيات طائرة أو معلقة أو ملقاة، تبدو وكأن لا حياة فيها، تحاول أن تكون كوميدية لكنها تظهر تراجيدية وهي تحاول فعل ذلك.
على خشبة المسرح المتخيل، حيث يحضر العمل الذي جمع النحت بالتجهيز والرسم، ثمة دمى منحوتة، منها ما هو متدلٍّ من السقف ومنها ما هو متروك على الأرض. وكلها دمى تحمل وجوهاً مشوهة أو مليئة بالندوب.
تابعت مدّاح هذه التجربة في عملها الذي حمل عنوان "بلا بشارة" وجاء بعد الحرب على غزة. ومرة أخرى تجتمع كائنات في فضاء ضيق أشبه بسيرك أبطاله مسوخ. وبينما وجدت الفنانة في الجسد/الدمية "موتيفاً" استخدمته في معظم أعمالها، رأت مجايلتها التشكيلية شذى الصفدي (32 عاما) في الغراب والجنازة مفردتان تناسبان ما تريد قوله في جلّ لوحاتها. قدمت الصفدي عام 2012 "وعود"، وهو تجهيز يحاكي فكرة المجزرة. قامت الفنانة بحفر آثار أجساد على الزجاج المرن، بينما كانت الإضاءة المسلطة على هذه الآثار ترسم ظلالها الشبحية على جدران المعرض. عن العمل تقول الصفدي: "كان من الممكن أن تحلّق تلك الروح دون أن يراها أحد، لكن هول المجزرة وتخبط الروح بالفزع جعلها تترك أثراً".
"وعود" لـ شذى الصفدي |
وعلى صعيد الغرافيك وتصميم الملصق السياسي، برزت تجربة علاء خنجر، أحد مؤسسي مجموعة "الشعب السوري عارف طريقه" ممن انتشرت أعمالهم على نطاق واسع خلال الثورة. أحد أشهر الملصقات التي صمّمها خنجر يجسّد شاباً على خلفية قانية يضرب طيور الكلام بالـ"النُقَّيفة".
هناك أيضاً تجارب حول الهوية الملتبسة، كمجموعة أعمال الفيديو للفنان فهد الحلبي (43 عاماً) التي تصور، بشكل لا يخلو من السخرية، واقع العمّال العرب في تل أبيب. حملت المجموعة اسم "رجال في الشمس"، راصدةً يوم عمل في حياة عمّال عرب يكدّون في مواقع إنشاء في تل أبيب، فيبنون منشآت ضخمة ومعابد يهودية ويتحدثون العبرية والعربية في آن. وفي وقت الراحة، يرقصون على أغاني نانسي عجرم.
أياً كانت طرق هذه التجارب فإنها تلتقي مع أصحابها عند "فاتح المدرس"، المركز الفني الذي أسسه الفنان التشكيلي وائل طربيه مع آخرين، دفاعاً عن الهوية الثقافية التي تتعرّض للتهميش والتشويه، بحسب بيان المركز. هناك يجتمع فنانو "مجدل شمس" ويعرضون أعمالهم بين الحين والآخر، ويضطلعون على تجارب جديدة ويستعيدون أخرى قديمة، ويلتقون في صداقة فنية يسهّلها المكان والزمان، وتعزّزها الهوية المشتركة والعنف الذي يختبرونه.