الحداثة وآلة الزمن

02 مارس 2016

الحداثة تتجلى بآلة الساعة في أحد دلائل وجودها (Getty)

+ الخط -
احتكر بعض العرب مهنة تحديد المواقيت، وهؤلاء كانوا يحدّدون الوقت بمراقبة ظل الشمس وحركته. وكان الأذان مرتبطاً بما يقرّره الموقّتون. واشتهرت عائلاتٌ كثيرة بإتقانها حرفة التوقيت لرفع الأذان كعائلة الميقاتي وعائلة المؤذّن. وكان المتعلمون من الميقاتية يستعملون "المزولة الشمسية"، وهي معروفةٌ منذ عصر الحضارة البابلية، وقلما عرف هؤلاء "الساعة الرملية"، وهي اختراع مصري. أما الساعة الأوروبية فقد ظهرت في القرن الرابع عشر الميلادي، وأرسل ملك فرنسا واحدةً منها إلى السلطان سليمان القانوني في سنة 1547. وبالطبع، كان في الإمكان جلب ساعات كثيرة إلى المدن الرئيسة، كدمشق وحلب واسطنبول والقاهرة وبغداد، ونصبها في الساحات العامة لإعانة الموقّتين والناس على تحديد الأوقات الصحيحة، خصوصاً الشروق والغروب ومواعيد الصلاة. غير أن المفتين ورجال الدين والفقهاء عارضوا هذه الآلة العجيبة ورفضوها، وهو شأنهم في كل عصر، وأمام انبثاق كل جديد، مع أن الأغلاط في تحديد المواقيت كانت لا تُحصى، وكثيراً ما نجم عنها مهالك أو ضياع مصالح، أو إفطار في غير أوانه.
في رسالة كتبها أحد السفراء الأوروبيين لدى السلطان العثماني في سنة 1554 عن إحدى الرحلات، ورد ما يلي: "ما من شيء يميز الوقت في أثناء الليل. في إحدى الليالي، خدع ضوء القمر أدلاءنا الأتراك، فأعطوا إشارة الرحيل قبل شروق الشمس بوقت طويل. هكذا نهضنا بسرعةٍ كي لا نتأخر. جُمعت حقائبنا، وقُذفت الخيم في العربة، وأُسرجت خيولنا وأصبحنا جاهزين للرحيل. وفي أثناء ذلك، أدرك الأتراك خطأهم، فعادوا إلى نومهم". على هذا النحو، كانت الأمور تجري، وهو أمر طبيعي قبل رواج الساعة. والحقيقة أن الحداثة تتجلى، في أحد وجودها، بآلة الساعة التي أمكن، بواسطتها، وضع جدول أعمال ليوم كامل من أربع وعشرين ساعة زمنية. ومن دون تلك الساعة، ما كان في الإمكان أن تعمل قطارات السكك الحديد بدقة كبيرة، والنهضة الأوروبية قامت على المواصلات، وفي مقدمها سكك الحديد. ومن دون جدول الأعمال، كانت شؤون الناس ستغرق في الفوضى والاضطراب، تماماً كما يحدث اليوم في القاهرة؛ فإذا وصل شخص ما متأخراً ساعةً عن الموعد، فهو أمر طبيعي ولا يحتمل الاستنكار. والمعروف أن هذه الآلة التي كانت، في الماضي، عنواناً للرفعة والجاه، انتشرت بالتدريج بين جميع فئات المجتمع، وها هي في طريقها إلى الانقراض، والنزول عن معاصم الأفراد إلى بطون الهواتف الذكية.
مأساة الحداثة في بلادنا العربية أنها تعني، في حدّها الأدنى، العصرنة، وفي حدّها الأعلى، النهضة. والعصرنة هي الأخذ بأساليب الحياة المعاصرة كاستخدام منتجات العلم، وقبل ذلك كله، قبول العلم نفسه الذي أنتج تلك الأدوات. في حين أن السلفيات المتنوعة تعني، في أحيانٍ كثيرة، رَفْضَ العلم الذي أنتج العصرنة وأدواتها، ورفض طرائق الحياة المعاصرة، وترديد الكلام على أن الله سخّر لنا ذلك كله.
المأساة المتدحرجة هي أن الفرد العربي ما برح يعيش في عالمين: عالم الحداثة وعالم ما قبل الحداثة. فهو ينظر إلى الوقت في القرن الحادي والعشرين كما كان أجداده ينظرون إليه في القرن السابع. والحداثة ليست مائدةً ننتقي منها ما نشاء، بل هي كالماء لا يمكن استخدامه بعد فصل الأوكسجين عن الهيدروجين؛ إذ لا يبقى ماءً في أي حال. ولعل من أسباب استعصاء الحداثة، بوصفها نهضةً، في العالم العربي، التعلق المَرَضي بالماضي؛ فالعرب ما فتئوا يفكرون بجماجم الأسلاف ونخاعاتهم، والأموات ما انفكوا يحكمون من قبورهم حياة الأحياء، وهذا هو ديدنهم منذ 1400 سنة: يشتمون أبو جهل و أبو لهب في كل ساعة، ويلعنون معاوية ويزيد في جميع الأوقات. وهيهات إذاً أن نفرِّق ضوء القمر عن شعاع الفجر.
دلالات