لطالما تميّزت بغداد بتزيين ساحاتها بالأعمال الفنية والجداريّات التي تروي تاريخ العراق الحديث من خلال الفنّ الجميل المعبّر. لكنها وبخلاف المدن العريقة في العالم التي تستقرّ فيها أعمالها الفنية مئات السنين لتكون من علاماتها الفارقة،
تعرّضت لتشويه وسرقة متعمدين. ولعلّ عام الغزو الأميركي لبلاد الرافدين 2003، شهد بداية تدهورٍ كبيرٍ في وضع تلك الأعمال الفنية التي صمّمها ونفذّها فنانون عراقيون وأجانب.
ما أن تخطر في البال تلك الأعمال، حتّى يرن اسم شيخ نحاتي العراق، محمّد غني حكمت (1929-2011)، الذي صمم ونفذ طائفة من أجمل تلك الأعمال المميّزة التي كانت تزيّن بغداد. عاش محمّد غني حكمت ليرى، من دون أن يروي، كيف تحوّل فنّه الإبداعي إلى نحاس مصهور. وهذا الفتك بالفنّ أثّر كثيرًا فيه. يقول أصدقاؤه والمقربون منه إن الحسرة على منجزاته الفنية كانت سبب وفاته.
فقد كان في شارع حيفا في بغداد تمثال امرأة سمّاها حكمت "الكرخية"، تمت سرقته في وضح النهار أمام عيون الجنود الأميركيين الذين لم يكن يفصلهم عن "الكرخية" أكثر من ثلاثين مترًا. حدث هذا عام 2003. وذهب حكمت بنفسه وسأل الجنود والضابط الأميركي عن "الكرخية" فكان جوابهم : "هذا ليس عملنا". أمّا العمل الأقرب إلى قلب حكمت فلم يكن إلا تمثال المتنبي : "صحيح أني أعشق أعمالي كلّها، لكني أحسّ أن تمثال المتنبي هو خلاصتها، وهو يعني لي الكثير". ولم يكن مصيره السرقة، بل ما هو أسوأ. يقول الإعلامي مجيد السامرائي : "لقد كسروا رقبة المتنبي. قالوا إنهم سيجرون أعمال صيانة على التمثال، فأرسلوا رافعةً وعمالاً اعتادوا أن يتعاملوا مع صناديق البضائع وقطع الحديد، ولم يعرفوا أن "البضاعة" التي يحملونها أثمن من كلّ بضائع الدنيا".
تمثال "كهرمانة" الذي استلهمه حكمت من ألف ليلة وليلة، حيث الجارية الحسناء تصبّ الماء في أربعين من الجرار على مفترق الكرّادة، فقد ظلّ في مكانه، إلا أن بعض جراره كُسرت وأعيد طلاؤها بلون ذهبي رخيص، فما عادت كهرمانة التي يعرفها الكراديون وكلّ البغداديين والعراقيين، الذين كانوا يحيونها حين يمرّون بها في طريقهم إلى سوق الكرادة وشوارعها الجميلة. وصار العراقيون، اليوم، يقلبون ألمهم، متندرين بنكتة تقول، إن كهرمانة تعبت من صبّ الزيت لكثرة اللصوص، إشارة إلى الفساد المستشري في البلد، ويرسمون لها صورًا كاريكاتورية، وهي تقف فوق آلاف الجرار أو حتى الجماجم في رمزية استبدلت الاستمتاع بالفن بالألم عليه وعلى أيامه الضائعة.
درس محمّد غني حكمت في إيطاليا (حصل على دبلوم النحت من أكاديمية الفنون الجميلة روما، 1959. وعلى الاختصاص في صب البرونز من فلورنسا 1961). وفتن بجمالها، وله في روما بوّابة كنيسة مستلهمة من درب الآلام"، وحين عاد إلى بغداد، حيث عمل وأبدع، كان مشغله في منطقة المنصور مصممًا وفقًا للطريقة الإيطالية، فقد صمّمه صديقه الهنغاري، هنري زوفو بودا، ونفّذه، فكان أوّل مشغل بمواصفات مخصوصة في بغداد ذاك الزمان (1964).
الكلام عن إيطاليا يحيل إلى الفنّان الإيطالي "بياترو كانونيكا" أهم فناني عصره، الذي اشتهر في بغداد من خلال تمثال "السعدون". كان التمثال في أصله مصنوعًا من البرونز، مرتفعًا على قاعدة رخامية، مرتديًا زيًا إفرنجيًا وعلى رأسه السدارة الفيصلية. يحمل في يد أوراقًا، ويده الأخرى مطلقة. ترى ماذا كان سيفعل الفنّان الإيطالي سيء الحظ، لو عاش ليرى التمثال، وهو يتحوّل إلى سبيكة رخيصة؟ ربما كان سينتحر، ولا سيما وأن بلاده كانت سببًا في هذه الكارثة. فقد سبق تمثال السعدون في درب الفناء، تمثالان من صنع كانونيكا؛ واحد للملك فيصل الأوّل وآخر للجنرال مود، اللذين حطمهما أنصار ثورة الجمهوريين عام 1958.
تمثال السعدون من أقدم تماثيل بغداد. وقد تنقّل في أرجائها أكثر من مرّة؛ كانت المّرة الأولى عام 1933 في ساحة التحرير عند بداية جسر الجمهورية من جانب الرصافة، بعد ذلك انتقل إلى شارع عرف باسمه "شارع السعدون، تخليدًا لذكراه. بيد أنه لم يمكث طويلًا هناك، وبسبب مخالفته مع موقع الجسر، فقد انتقل للمرّة الثالثة، في عام 1972 إلى ساحة النصر، وذلك بعد البدء في مشروع نفق ساحة التحرير، فقد اتُفق على أن تمثال السعدون لا يتناسب مع فضاءات المشروع وطبيعته التصميمية حسب تقديرات العاملين. ليس تنقّل التمثال هو المشكلة، الكارثة أن نسخة البرونز سرقت في أوّل أيام الاحتلال الأميركي، وتمّ استبدالها بأخرى من الفايبر غلاس، وبعد ذلك استبدل للمرّة الثالثة بنسخة من النحاس، والنتيجة أن شيئًا لم يبق من بصمات النحات الإيطالي.
وربما يمكن القول، إن مصير تمثال السعدون "الجديد" أفضل حالًا من مصير تمثال الشاعر الشهير، معروف عبد الغني الرصافي 1877-1945، الذي يتوسط جانب الرصافة في بغداد. فقد أنجزه وصممّه عام 1970، النحات الكبير، إسماعيل فتاح الترك (1934-2004)، لكن التمثال غدا مكبًا لنفايات السوق المجاورة لموضعه، وبعد مناشدات عديدة من أهالي الحي للبلدية، صارت تلك الأخيرة، ترفع النفايات من دون أن تتخذ أية خطوة أخرى لمنع تصرّف مشين كهذا.
وقد يكون من الممكن ربط وضع تماثيل بغداد بالاحتلال الأميركي، حال نظرنا إلى نصب شهير واقع في المنطقة الخضراء في بغداد، حيث لا أحد يعلم مصيرها ووضعها. ومن بين تلك الأعمال الفنية نصب الجندي المجهول الذي صممّه خالد الرحال (1926 - 1986) وهو أحد أعضاء جماعة بغداد للفن الحديث، ونفذّه ثلاثة مهندسين، عبد الله إحسان كامل والمعماري الشهيررفعت الجادرجي وإحسان شيرزاد. أقيم هذا النصب، بعد ثورة الرابع عشر من يوليو/تموز 1958، وكان موقعه ساحة الفردوس. رفعت السلطات العراقية هذا النصب البسيط حين أنشأت نصبًا فخمًا في منطقة التشريع عام 1983 ويوجد تحته متحفٌ يضمّ الكثير من مقتنيات ورموز من الحرب العراقية الإيرانية (1980 - 1988) كما يضمّ رفات مصممه خالد الرحال.
الجديد السيء
ليس الترميم السيء أو السرقة أو الإهمال وحدها ما يصيب شواهد الإبداع العراقي الشهيرة، فقد تمّت، مثلًا، إزالة "جدارية التأميم" التي صممّها الفنان، نزار الهنداوي، من طريق مطار بغداد الدولي، وحلّت بدلًا منها رسوم عائلة "الصدر" الدينية الحاكمة. يقول أحد الشباب العراقيين القاطنين قرب "الجدارية الجديدة" : "مع أن الجدارية قريبة من دارنا، إلا أني لم أشاهدها بعد التغيير لأني ببساطة لا أطيق النظر إليها، فمشايخ الدين لا يحتاجون جداريات تستعرض صورهم".
لم يكن "الجديد" إذن من النتاج الفني، إن صحت التسمية، مرضيًا لذائقة العراقيين، بل كان مدعاةً للغضب وللتندّر الذي لا يخلو من المرارة.
فالتماثيل والأنصاب الجديدة لا تخطر على بال، شكلًا أو مضمونًا، فهي مصنوعة في الغالب من مادة الفايبر غلاس الصغيرة، أما أشكالها فساذجة: أسود تشبه الدمى البلاستيكية، أو إبريق شاي يفتقر إلى أدنى جمالية، ويمتلئ بالفجاجة.
يقول مسؤول في وزارة الثقافة العراقية لملحق الثقافة، وقد طلب عدم ذكر اسمه منعًا لإثارة غضب الوزير: "هذا ليس فنًا، بل مقاولات تهدف إلى تشويه صورة حضارة العراق. اُنظر إلى تمثال الجواهري، كيف استهانوا به، واُنظر إلى نصب لا يشبه إلا ثمرة الباذنجان، وحولها دمى مضحكة لخيول مدن الألعاب، وإلى تماثيل أسود وشخصيات كلّها مصنوعة من مادة الفايبرغلاس الرخيصة، لكن أُنفق عليها ملايين الدولارات. ربما لو زرعوا المكان بالنخيل والورود لكان ذلك أجدى وأجمل من هذه التماثيل التي ليست إلا تلويثًا للذائقة العراقية الأصيلة، وتربيةً للأجيال الناشئة على فنّ مشوش مشوّه".
ويعلق الشاعر العراقي، ثائر الحديثي: "لا جدوى من الإطالة في الحديث عن كارثة حلّت بالفن العراقي، ويكفي أن أقول: إن نصبًا لـ "إبريق الشاي" الذي أقيم أخيرًا، يعني أننا نروج لثقافة جديدة هي ثقافة الشاي والمقاهي. وإني لأحمد الله تعالى أن لا سطوة لأحد على الشعر وإلا كنا كتبنا قصائد فايبرغلاس وبلاستيك وباذنجان".
تكثر الجدالات في عراق ما بعد 2003، لكنّ العراقيين يبدون متفقين على أن مستوى الفن قد تدهور كثيرًا بعد الاحتلال. وربما هو أمر "مفهوم"، فالبلاد تغرق بدماء أبنائها، والمسؤولون تعسكروا إلى حدّ أن وزير الثقافة، كان لسنوات عدة هو نفسه وزير الدفاع. وهو ما أدّى إلى جعل الفن ترفًا غير مستساغ، إذ إن معظم الأنصاب والتماثيل تعود لحقبة يناصبها حكّام البلد العداء، وكأنها هي التي حاربتهم. كيف لا؟ وفي كلّ نصب ذكرى تؤلم أو رمز يشير إلى مظلومية عبروا بها الحدود وارتقوا سدّة الحكم؟
مات شيخ النحاتين، محمّد غني حكمت، حسرةً على منجزاته وتحوّل الفنّ إلى نحاس مصهور، وانتصر الفايبرغلاس على الحجر والبرونز.
(كاتب عراقي)
تعرّضت لتشويه وسرقة متعمدين. ولعلّ عام الغزو الأميركي لبلاد الرافدين 2003، شهد بداية تدهورٍ كبيرٍ في وضع تلك الأعمال الفنية التي صمّمها ونفذّها فنانون عراقيون وأجانب.
ما أن تخطر في البال تلك الأعمال، حتّى يرن اسم شيخ نحاتي العراق، محمّد غني حكمت (1929-2011)، الذي صمم ونفذ طائفة من أجمل تلك الأعمال المميّزة التي كانت تزيّن بغداد. عاش محمّد غني حكمت ليرى، من دون أن يروي، كيف تحوّل فنّه الإبداعي إلى نحاس مصهور. وهذا الفتك بالفنّ أثّر كثيرًا فيه. يقول أصدقاؤه والمقربون منه إن الحسرة على منجزاته الفنية كانت سبب وفاته.
فقد كان في شارع حيفا في بغداد تمثال امرأة سمّاها حكمت "الكرخية"، تمت سرقته في وضح النهار أمام عيون الجنود الأميركيين الذين لم يكن يفصلهم عن "الكرخية" أكثر من ثلاثين مترًا. حدث هذا عام 2003. وذهب حكمت بنفسه وسأل الجنود والضابط الأميركي عن "الكرخية" فكان جوابهم : "هذا ليس عملنا". أمّا العمل الأقرب إلى قلب حكمت فلم يكن إلا تمثال المتنبي : "صحيح أني أعشق أعمالي كلّها، لكني أحسّ أن تمثال المتنبي هو خلاصتها، وهو يعني لي الكثير". ولم يكن مصيره السرقة، بل ما هو أسوأ. يقول الإعلامي مجيد السامرائي : "لقد كسروا رقبة المتنبي. قالوا إنهم سيجرون أعمال صيانة على التمثال، فأرسلوا رافعةً وعمالاً اعتادوا أن يتعاملوا مع صناديق البضائع وقطع الحديد، ولم يعرفوا أن "البضاعة" التي يحملونها أثمن من كلّ بضائع الدنيا".
تمثال "كهرمانة" الذي استلهمه حكمت من ألف ليلة وليلة، حيث الجارية الحسناء تصبّ الماء في أربعين من الجرار على مفترق الكرّادة، فقد ظلّ في مكانه، إلا أن بعض جراره كُسرت وأعيد طلاؤها بلون ذهبي رخيص، فما عادت كهرمانة التي يعرفها الكراديون وكلّ البغداديين والعراقيين، الذين كانوا يحيونها حين يمرّون بها في طريقهم إلى سوق الكرادة وشوارعها الجميلة. وصار العراقيون، اليوم، يقلبون ألمهم، متندرين بنكتة تقول، إن كهرمانة تعبت من صبّ الزيت لكثرة اللصوص، إشارة إلى الفساد المستشري في البلد، ويرسمون لها صورًا كاريكاتورية، وهي تقف فوق آلاف الجرار أو حتى الجماجم في رمزية استبدلت الاستمتاع بالفن بالألم عليه وعلى أيامه الضائعة.
درس محمّد غني حكمت في إيطاليا (حصل على دبلوم النحت من أكاديمية الفنون الجميلة روما، 1959. وعلى الاختصاص في صب البرونز من فلورنسا 1961). وفتن بجمالها، وله في روما بوّابة كنيسة مستلهمة من درب الآلام"، وحين عاد إلى بغداد، حيث عمل وأبدع، كان مشغله في منطقة المنصور مصممًا وفقًا للطريقة الإيطالية، فقد صمّمه صديقه الهنغاري، هنري زوفو بودا، ونفّذه، فكان أوّل مشغل بمواصفات مخصوصة في بغداد ذاك الزمان (1964).
الكلام عن إيطاليا يحيل إلى الفنّان الإيطالي "بياترو كانونيكا" أهم فناني عصره، الذي اشتهر في بغداد من خلال تمثال "السعدون". كان التمثال في أصله مصنوعًا من البرونز، مرتفعًا على قاعدة رخامية، مرتديًا زيًا إفرنجيًا وعلى رأسه السدارة الفيصلية. يحمل في يد أوراقًا، ويده الأخرى مطلقة. ترى ماذا كان سيفعل الفنّان الإيطالي سيء الحظ، لو عاش ليرى التمثال، وهو يتحوّل إلى سبيكة رخيصة؟ ربما كان سينتحر، ولا سيما وأن بلاده كانت سببًا في هذه الكارثة. فقد سبق تمثال السعدون في درب الفناء، تمثالان من صنع كانونيكا؛ واحد للملك فيصل الأوّل وآخر للجنرال مود، اللذين حطمهما أنصار ثورة الجمهوريين عام 1958.
تمثال السعدون من أقدم تماثيل بغداد. وقد تنقّل في أرجائها أكثر من مرّة؛ كانت المّرة الأولى عام 1933 في ساحة التحرير عند بداية جسر الجمهورية من جانب الرصافة، بعد ذلك انتقل إلى شارع عرف باسمه "شارع السعدون، تخليدًا لذكراه. بيد أنه لم يمكث طويلًا هناك، وبسبب مخالفته مع موقع الجسر، فقد انتقل للمرّة الثالثة، في عام 1972 إلى ساحة النصر، وذلك بعد البدء في مشروع نفق ساحة التحرير، فقد اتُفق على أن تمثال السعدون لا يتناسب مع فضاءات المشروع وطبيعته التصميمية حسب تقديرات العاملين. ليس تنقّل التمثال هو المشكلة، الكارثة أن نسخة البرونز سرقت في أوّل أيام الاحتلال الأميركي، وتمّ استبدالها بأخرى من الفايبر غلاس، وبعد ذلك استبدل للمرّة الثالثة بنسخة من النحاس، والنتيجة أن شيئًا لم يبق من بصمات النحات الإيطالي.
وربما يمكن القول، إن مصير تمثال السعدون "الجديد" أفضل حالًا من مصير تمثال الشاعر الشهير، معروف عبد الغني الرصافي 1877-1945، الذي يتوسط جانب الرصافة في بغداد. فقد أنجزه وصممّه عام 1970، النحات الكبير، إسماعيل فتاح الترك (1934-2004)، لكن التمثال غدا مكبًا لنفايات السوق المجاورة لموضعه، وبعد مناشدات عديدة من أهالي الحي للبلدية، صارت تلك الأخيرة، ترفع النفايات من دون أن تتخذ أية خطوة أخرى لمنع تصرّف مشين كهذا.
وقد يكون من الممكن ربط وضع تماثيل بغداد بالاحتلال الأميركي، حال نظرنا إلى نصب شهير واقع في المنطقة الخضراء في بغداد، حيث لا أحد يعلم مصيرها ووضعها. ومن بين تلك الأعمال الفنية نصب الجندي المجهول الذي صممّه خالد الرحال (1926 - 1986) وهو أحد أعضاء جماعة بغداد للفن الحديث، ونفذّه ثلاثة مهندسين، عبد الله إحسان كامل والمعماري الشهيررفعت الجادرجي وإحسان شيرزاد. أقيم هذا النصب، بعد ثورة الرابع عشر من يوليو/تموز 1958، وكان موقعه ساحة الفردوس. رفعت السلطات العراقية هذا النصب البسيط حين أنشأت نصبًا فخمًا في منطقة التشريع عام 1983 ويوجد تحته متحفٌ يضمّ الكثير من مقتنيات ورموز من الحرب العراقية الإيرانية (1980 - 1988) كما يضمّ رفات مصممه خالد الرحال.
الجديد السيء
ليس الترميم السيء أو السرقة أو الإهمال وحدها ما يصيب شواهد الإبداع العراقي الشهيرة، فقد تمّت، مثلًا، إزالة "جدارية التأميم" التي صممّها الفنان، نزار الهنداوي، من طريق مطار بغداد الدولي، وحلّت بدلًا منها رسوم عائلة "الصدر" الدينية الحاكمة. يقول أحد الشباب العراقيين القاطنين قرب "الجدارية الجديدة" : "مع أن الجدارية قريبة من دارنا، إلا أني لم أشاهدها بعد التغيير لأني ببساطة لا أطيق النظر إليها، فمشايخ الدين لا يحتاجون جداريات تستعرض صورهم".
لم يكن "الجديد" إذن من النتاج الفني، إن صحت التسمية، مرضيًا لذائقة العراقيين، بل كان مدعاةً للغضب وللتندّر الذي لا يخلو من المرارة.
فالتماثيل والأنصاب الجديدة لا تخطر على بال، شكلًا أو مضمونًا، فهي مصنوعة في الغالب من مادة الفايبر غلاس الصغيرة، أما أشكالها فساذجة: أسود تشبه الدمى البلاستيكية، أو إبريق شاي يفتقر إلى أدنى جمالية، ويمتلئ بالفجاجة.
يقول مسؤول في وزارة الثقافة العراقية لملحق الثقافة، وقد طلب عدم ذكر اسمه منعًا لإثارة غضب الوزير: "هذا ليس فنًا، بل مقاولات تهدف إلى تشويه صورة حضارة العراق. اُنظر إلى تمثال الجواهري، كيف استهانوا به، واُنظر إلى نصب لا يشبه إلا ثمرة الباذنجان، وحولها دمى مضحكة لخيول مدن الألعاب، وإلى تماثيل أسود وشخصيات كلّها مصنوعة من مادة الفايبرغلاس الرخيصة، لكن أُنفق عليها ملايين الدولارات. ربما لو زرعوا المكان بالنخيل والورود لكان ذلك أجدى وأجمل من هذه التماثيل التي ليست إلا تلويثًا للذائقة العراقية الأصيلة، وتربيةً للأجيال الناشئة على فنّ مشوش مشوّه".
ويعلق الشاعر العراقي، ثائر الحديثي: "لا جدوى من الإطالة في الحديث عن كارثة حلّت بالفن العراقي، ويكفي أن أقول: إن نصبًا لـ "إبريق الشاي" الذي أقيم أخيرًا، يعني أننا نروج لثقافة جديدة هي ثقافة الشاي والمقاهي. وإني لأحمد الله تعالى أن لا سطوة لأحد على الشعر وإلا كنا كتبنا قصائد فايبرغلاس وبلاستيك وباذنجان".
تكثر الجدالات في عراق ما بعد 2003، لكنّ العراقيين يبدون متفقين على أن مستوى الفن قد تدهور كثيرًا بعد الاحتلال. وربما هو أمر "مفهوم"، فالبلاد تغرق بدماء أبنائها، والمسؤولون تعسكروا إلى حدّ أن وزير الثقافة، كان لسنوات عدة هو نفسه وزير الدفاع. وهو ما أدّى إلى جعل الفن ترفًا غير مستساغ، إذ إن معظم الأنصاب والتماثيل تعود لحقبة يناصبها حكّام البلد العداء، وكأنها هي التي حاربتهم. كيف لا؟ وفي كلّ نصب ذكرى تؤلم أو رمز يشير إلى مظلومية عبروا بها الحدود وارتقوا سدّة الحكم؟
مات شيخ النحاتين، محمّد غني حكمت، حسرةً على منجزاته وتحوّل الفنّ إلى نحاس مصهور، وانتصر الفايبرغلاس على الحجر والبرونز.
(كاتب عراقي)