الحلم الروسي
يسيطر الخطاب الديني على الساسة الروس الذين يقدمون أنفسهم حماة للمذهب الأرثوذكسي في العالم، وربما يحاولون إحياء مفاهيم القياصرة وأحلامهم بالوصول للمياه الدافئة من خلال الطائفة الأرثوذكسية في الشرق والبلقان. ولكن، في ظل تطور المشهد السياسي في منطقة الشرق الأوسط، وسيطرة شبح الإرهاب الديني على المنطقة، وظهور الرايات السوداء، وانتشار ثقافة قطع الرؤوس، سُمح للروس بتقديم أنفسهم حامية فعلية للأقليات التي تؤمن لهم موطئ قدم في الشرق، وتنفيذ حلم القياصرة التاريخي، وخصوصاً بعد فشل سياستهم في الدول العربية، ودعمهم دكتاتوريات المنطقة المنتفضة بوجه حكامها، وعدائهم المطلق للإسلام السياسي، خوفاً من انتقال عدوى الانتفاضة إلى مناطق روسيا الإسلامية، متهمة هذه الحركات بأنها صناعة أميركية وغربية، في الوقت التي تربطها علاقة مميّزة مع إيران التي تلتقي معها في دعمها للنظامين السوري والعراقي.
فإذا كان التودّد الروسي حالياً نحو شعوب البلقان، من خلال طرح الحماية المذهبية لهذه الشعوب السلافية، وتقديم مساعدات مالية لهم، في ظل الانكماش التي تعاني منه أوروبا، فالوضع في الشرق يختلف لجهة العلاقة مع الأرثوذكس، فإذا كان القائمون على الطائفة الأرثوذكسية في سورية يرحبون بالحماية الروسية، نتيجة علاقتهم الوطيدة مع النظام السوري، وعلى الرغم من الإخفاق الروسي الواضح لجهة الإفراج عن الراهبين السوريين من الاحتجاز، والتي تثير شبهات كثيرة لعملية اختفائهم، لكن الوضع يختلف مع المرجعية الأرثوذكسية والمسيحية في لبنان، ومع الكنسية نفسها وراعيها، فالطائفة بعيدة جداً عن ذلك.
لذا، لم نر الود بين الطائفة بشخص مطرانها، الياس عودة، الذي لم تربطه أي علاقة مع الروس، سياسياً أو روحياً، ومع بطريرك موسكو، والعائلات الأرثوذكسية العريقة، بسبب تموضعها السياسي، والتي لم تشملهم زيارات الموفد الشخصي للرئيس فلاديمير بوتين، ميخائيل بوغدانوف، في أثناء زيارته الماراثونية إلى لبنان، لأن الروس يشكلون تحالفاً سياسياً مع إيران ونظام الأسد وحزب الله.
لكن السؤال الذي لم تُجِب عليه موسكو حتى اليوم، على الرغم من أنها تحاول أن تقدم نفسها حامية وراعية للأرثوذكس، وفي الوقت التي هي على خلاف مع ثلاث دول أرثوذكسية، ومع كنائسها وفي حالة حرب معها (أوكرانيا وجورجيا ومولدوفيا).
تقوم الاستراتجية الروسية الجديدة على المصالح الاقتصادية التي تتطلّب إعادة رسم الخارطة السياسة العالمية، من خلال إعادة النفوذ بين العملاقين الروسي ـ الأميركي. لذلك، تعمل الدبلوماسية الروسية جاهدة على استعادة نفوذ روسيا القيصرية، من خلال دغدغة الشعور القومي الروسي الداعم لهذا التوجه.
ومع انهيار الاتحاد السوفييتي، تخلت روسيا الجديدة عن أصدقائها ومناطق نفوذها الحيوية. لكن، مع وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى السلطة وهو الطامح لاستعادة النفوذ والهيبة المفقودة، يحاول، من خلال الخطاب الروسي الجديد، إحياء حلم الإمبراطورية الذي لا يزال يراود كل روسي، فكيف إذا كان حلم القيصر الأحمر؟ فالإمبراطورية لا تقوم إلا على مفهوم قومي وديني، والإمبراطورية كانت حامية المذهب والكنيسة الأرثوذكسية التي رفع لواءها القيصر بطرس الأكبر. فالكنيسة الروسية التي سادها الانقسام، طوال الحكم الشيوعي سابقاً، وحّدها بوتين، وبات الخطاب السياسي لا يخلو من دور الكنيسة، وأضحى الرئيس يحكم من خلال ثالوث: المال والكنيسة والاستخبارات.
وأن يخترع فكرة تلائم جديدها، بعد ثلاثة عقود على هذا الانهيار، ومخاضه المتعثر. فكانت تلك الأيديولوجية العجيبة المعجونة بعهدين متناقضين، هما مزيج مسطّح ومفرَّغ من الحمية "السوفييتية" والتبجيل "القيصري الأرثوذكسي". وبناءً على ذلك، نرى الخطاب السياسي الروسي قائماً على الشعارات الثلاث: السوفييتية والقيصرية والأرثوذكسية.
ويبقى السؤال: ماذا بإمكان روسيا أن تقدم لسكان هذه المنطقة ودولها، لكي تمثل فيها نفوذاً جيو ـ سياسياً؟ والمعروف أن الروس يأخذون ولا يعطون. فالمنطقة يوجد فيها أكثر من لاعب، والملاعب ليست فارغة بانتظار الروس، لكن المشكلة بحال تغيّرت قواعد اللعبة كيف سيتعامل الروس مع الشعوب العربية التي تحرق أعلامها في الساحات، بعد أن كانت الأعلام الأميركية هي التي تحرق.
فإذا رضيت الطائفة الدرزية في لبنان بحماية روسيا للأقليات ولها، نتيجة تدهور أحوال المنطقة، وبسبب العلاقة التاريخية معهم، ومع زعيمهم وليد جنبلاط، فهل يقبل أرثوذكس لبنان بهذه الحماية، والابتعاد عن السنّة والموارنة؟ وهل يحقق بوتين ما لم يحققه بطرس الأكبر؟
لكن، يبدو أن القيصر الأحمر، في حالة حرب سيطرة حقيقية ومهجوسة بينه وبين الغربَين، الأميركي والأوروبي، إنما يسعى بذلك إلى إقناع مواطنيه بعظمة موقعه المنتفخ بالغرور القومي الأجوف، وهل سيكون ذلك تكراراً لتجارب سابقة فاشلة؟..