لماذا يترك المتحاورون المهمة الأصعب ويلجؤون إلى أسهل وصفات الحل؟! يتحدث الوسيط الدولي في ليبيا عن مصطلح "حكومة وحدة وطنية"؛ فكيف ستتجسد هذه "الوحدة" ما لم تكن هناك ثوابت مشتركة بين الكتل والأقطاب التي ستمثلها هذه الحكومة؟ ولماذا لا يكون لفريق المتحاورين رؤيتهم الخاصة لقضايا وأجندة الحوار، وفق منظور وطني يدرك الأبعاد الحقيقية للأزمة، بعيداً عن طريقة "إدارة الصراع" التي تنتهي إلى تعويم عناصر الأزمة وتوطينها؟ ولماذا الاندفاع وراء رؤية السيد برناردينو ليون، ممثل الأمم المتحدة، وسفراء الدول الكبرى، والتي تختصر الأزمة الليبية في مسألة تشكيل "الحكومة" دون محاولة إيجاد أرضية مشتركة من الثوابت؟
الحوار وفق منظور وطني يقتضي صناعة ثوابت حول القضايا محل الخلاف، أو على الأقل إيجاد آليات توافقية لإدارة الخلاف بعيداً عن منطق القوة، ومن ثم يمكن أن تتحوّل هذه الثوابت إلى رؤية لمشروع سياسي ناجح تنتج عنه سلطة فاعلة. أمّا فكرة التسوية وتقاسم السلطة من دون وجود أرضية من الثوابت، فستؤدي إلى ترسيخ حالة عدم الاستقرار السياسي، ولن ينتج عن هذه التسوية أي مشروع سياسي، بقدر ما قد تشرعن لمرحلة أخرى من الصراع والتربّص، وحالة من حالات الدولة الفاشلة التي لا تمتلك القدرة على النهوض بأعبائها ورعاية مصالح مواطنيها، بقدر ما تكون مطيّة للقوى الخارجية للهيمنة والسيطرة من خلالها على موارد البلد وقراره السياسي.
ما غاب عن العمل السياسي الليبي طوال سنوات المرحلة الانتقالية، هو إدراك أبعاد "أزمة الدولة الوطنية" والمخاطر التي تهددها، ومن ثم إدراجها في سياق "الحل". وهذه المخاطر تتمثّل أولاً في قضية الإرهاب الذي يهدد قيام الدولة الوطنية وأهمية الوقوف على أرضية مشتركة لمكافحته. والقضية الأخرى هي كيفية إدارة الموارد الطبيعية في ليبيا. وأخيراً هي قضية التعصب والتغوّل الجهوي والقبلي وحروب الثأر والحزازات بين المدن والقرى ومصير مشروع العدالة الانتقالية.. وهذه القضايا مجتمعة تشكل أساس الخارطة الأمنية والمفهوم الأمني الذي يتوجب أن يرتكز عليه الكيان السياسي الليبي الجامع.
المخاطر التي تهدد استقرار هذا الكيان ماثلة للعيان في مشهد الصراع، ومن خلالها قد ينفذ المتحاورون إلى بوادر الحل إذا تحلّوا بالشجاعة اللازمة لمواجهتها، وستكون المسؤولية مضاعفة على عاتقهم إذا خلت أجندتهم من هذه القضايا، وانساقوا لمبدأ التسوية وفق رؤية الوسيط الدولي بعقلية إخفاء بذور الأزمة الوطنية وترحيلها إلى جسم الحكومة المرتقبة التي لن تبتعد كثيراً عن فكرة المحاصصة المناطقية والجهوية، مهما اجتهد المتحاورون والوسطاء في تجنب هذه المعضلة. وسيكون القرار الحكومي الرسمي موضعاً للنزاع بين الأطراف الممثلة للحكومة نفسها، التي ستكون عرضة للاستقطاب، ولن يكون لها أداء نوعي يتجاوز ما عجزت عنه الحكومات الانتقالية السابقة، فأسباب فشل تلك الحكومات سيظل قائماً، ولا يمكن استعادة سـيادة الدولة إلا بتحييد المخاطر التي تهدد حاضر ومستقبل الدولة الوطنية ومعالجة المخاوف، وتقديم الضمانات لكل الأطراف.
العنصر الأهم الذي يتضمن رافداً حقيقياً لإحياء الأمل في مشروع الدولة الوطنية في ليبيا، هو رد الاعتبار للحراك المدني ضمن المشهد السياسي، وتجسيد إرادة الشعب الليبي، عن طريق طرح فكرة الاستفتاء حول القضايا الكبرى، لقطع الطريق على التدخلات والإملاءات الخارجية وتحييد فكرة المغالبة والحسم بقوة السلاح. والبداية تكون بإيقاف الإعلان الدستوري الذي فقد قيمته الفعلية بانهيار المسار السياسي، ولم يعد سوى إطار لتقنين حالة الفوضى، وإقرار المرجعية التاريخية للدولة الليبية المعاصرة وميثاق نشأتها وشرط استقلالها، وطرح فكرة الاستفتاء ضمن إطار وشرعية دستور الاستقلال، برعاية الأمم المتحدة، كنافذة للخروج من هذا المأزق التاريخي، ولتفادي احتمالات انفراط عقد الدولة الذي أصبح أقرب من أي وقت مضى.
هي بالفعل أزمة رؤية ومشروع، وأزمة قيادة برزت في كل مفاصل المرحلة الانتقالية بعد انتفاضة فبراير. ولكن رغم هذا الفراغ، على ساسة الحوار أن يدركوا جيداً النقطة التي وصلت إليها أزمة الدولة الوطنية في ليبيا والتي تعني أزمة 6 ملايين مواطن ليبي، مهددين في معاشهم وأمنهم ومستقبل أبنائهم، مما يضاعف المسؤولية على الجميع، ممن يشاركون في الحوار، أو من هم في وضع الترقّب والانتظار.