نيّالو اللي لاقى واحدة يحبّها وتحبّو ويبقوا رغم الوضع الإقليمي.
منذ عشر سنوات، أعلن الملحن والمغنّي اللبناني زياد سحاب أن الوضع الإقليمي في بلاد العرب "ما بيسمح إنه نبقى سوا"، ومن 2007 حتى 2017، جرت في النهر مياه كثيرة، حدثت الانتفاضات العربية، في كل من تونس ومصر وسورية وليبيا واليمن، والاحتجاجات العارمة في أغلب الدول العربيّة، وبمتابعة دوائر الأصدقاء والدوائر الأوسع على وسائل التواصل الاجتماعي، يبدو أنه أصبح "مستحيل نبقى سوا"!.
خلال السنوات التالية على عام 2011، كانت هناك حالة من النشوة في الأجواء، وأمل في المستقبل، صرنا نسمع عن علاقات حُب وزواج تحدث كثيرًا؛ المتزوجون أخذوا قرارًا بالإنجاب، حتّى العام 2013 ربّما، كانت هناك زيجات تحدث في القاهرة على الأقل، مدفوعة بإحساس نهاية العالم، أن نلحق شيئًا من السعادة، فنحن لا نعرف ما الذي سيحدث بعد ذلك.
في دوائر المهتّمين بالشأن العام، أو المُتابعين للتغييرات التي تحدث سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا في نمط الحياة اليومية للرجال والنساء في العالم العربي، أصبحت هناك أنماط مُتكررة من علاقات الحُب، أو الإعجاب؛ فمبدئيًا صرنا نسمع أكثر عن الطلاق، في أوساط المتزوجين منذ أعوام طويلة من نفس الفئة، في أوقات كثيرة النساء هن من يطلبن الطلاق أولًا، هذا غير الزيجات قصيرة العمر، التي حدثت في 2011 و2012 وانتهت بالطلاق بعد سنوات قليلة.
بالنسبة للعلاقات نفسها، فالهشاشة سيّدة الموقف، المشاهدات تقول إنه أصبح من الصعب الدخول في علاقات تتمتّع بقدر من المشاعر، هناك محاولات للاقتراب أو الاستمتاع بالصحبة، لكنها لا تتوّج بالنجاح -النجاح هنا يعني الاستمرار لبضعة شهور- غالبًا ما يكون اتخاذ الخطوة أصلًا محفوفًا بالمخاطر والبطء وعدم الوضوح، من الجنسين، الشكاوى من الوحدة تملأ الفيسبوك ودوائر الأصدقاء، من دون أن يتخذ أحدهم خطوة تجاه انهائها، لأن هذه الخطوة فشلت سابقًا، وليس هناك استعداد أو طاقة لمزيد من الرفض أو الألم، مفضّلين الاستكانة إلى الوضع القائم، والآخرين فضّلوا استخدام تطبيق "صراحة" ونقل الحياة الحقيقية إلى الواقع الافتراضي.
على الجانب الآخر من النهر، لمن لا يعملون في أشياء تتعلّق بالشأن العام، لكن على الأقل نعرف أنهم يقرؤون بعض الأخبار على فيسبوك، بدأت تظهر أنماط جديدة تمامًا، هناك الأخ الذي لا يريد أن يتزوّج ما دامت أخته موجودة، يريد أن يخرج معها ويسعدها ويهاديها، ويحبّها "في الله"، وأن تقتصر حياته على ذلك، بالطبع يبدو هذا صادمًا لمجتمع يتنصّل من الحديث عن الجنس، لكنه يمثل له كُل شيء، والأكثر وضوحًا، هوَ نموذج الأخت التي تلتقط صورًا لها مع أخيها مع مصوّر محترف – جلسة تصوير مدفوعة – في أوضاع تشبه الأحبّة في شهر العسل، وتتمنّى أن يظل أخوها هو نموذج الرجل في حياتها، وأنها لا تحتاج للحب ما دام الأخ موجودًا بكل دعمه وتدليله.
ظل هذا السؤال في رأسي شهورًا، حتى بدأت في عمل موائد مستديرة من الأصدقاء والصديقات، سألت الرجال ما الذي تغيّر منذ 2011؟ وسألت النساء لماذا أصبحت العلاقات أصعب؟
بدأت السيدات حديثها بأنه لم يعد يشكل الاعتماد المادي على الرجل مشكلة أو عائقًا، أصبحن يرين أن حياتهن المستقلة المُتحققة أهم، وأنه طالما العلاقة العاطفية نفسها لا ترضيها في مؤسسة الزواج، فيمكنها طلب الطلاق بحرية أكبر، لقد شعرن بكيانهن بعد الثورات العربية، و لم يكن ظاهرات قبلها، وكن يبذلن كل المجهود في علاقاتهن وزيجاتهن، بلا مجهود موازي من الرجال، وهذا الوضع يجب تصحيحه الآن، قالت إحداهن في وضوح: "النساء تطوّرن وتحررن بعد الثورة، يعرفن قيمة أنفسهن ويردن أن يصبحن كيانًا مستقلًا وناجحًا، الرجال لم يتطوّروا بعد لمواكبة هذا التحقق، لا زالوا في الوضع القديم، مما خلق هذه الفجوة".
على الصعيد الآخر، الرجال أقرّوا أنهم لا يفكرون في إنجاح العلاقة أو المبادرة بإنجاحها كما تفكّر النساء، لكنهم أبدوا إعجابًا بالنموذج اللبناني. عانى لبنان من حرب أهلية مستعرة من 1975 إلى 1990، وحرب 2006 من يوليو إلى أغسطس، هذا غير المناوشات الدائمة في المنتصف، وبرغم ذلك كانوا يستمتعون بالحياة كما يجب، بالحب والجنس والرقص، وكُل ما من شأنه أن يساعد على مقاومة حالة الحصار، رغم أنه يمكن تفسير هذه الحالة أنها مقاومة اليائس في مواجهة احتمال الموت اليومي، إلا أنها حافظت على بعض السلام النفسي في أسوأ الأحوال.
وبتصفّح الإنترنت، نجد أن "شبكة العلوم النفسيّة العربية" تقول إن من ضمن ما يعانيه الناجون من الصدمات الحادة الطويلة أو المُتكررة: صعوبات في العلاقات مع الآخرين مع ميول انعزالية، واختلال في العلاقات الحميمية، وسوء ظن وانعدام ثقة في الآخرين بشكل مستمر.
ذهبت إلى استشاري الطب النفسي، نبيل القط، لأطلب تفسيرات لكُل ما سبق، فبدأ بإحالة الأمر إلى مثال ممتاز: "العلاقات المستقرة والمنتظمة مثل الزواج والحب تنتمي للحداثة وبالتالي تلك النُظُم الأخلاقية والعلاقاتيّة، شيء مكتسب لدى الإنسان، وعندما يحدث اضطرابات شديدة، أو ضغط شديد، إذا شبهنا المخ ببرنامج للكومبيوتر يقع في عقل الإنسان، فإنه يصيبه -بشكل مجازي- فيروس تمثله الصدمة الشديدة، فتتغيّر معطياته ومخرجاته وتضطرب، يصبح هناك فوضى وارتباك داخلي، يحوّل المخ إلى جهاز غير قادر على التعامل مع الواقع ومنها العلاقات كما في السابق، ويصبح الواقع مشكلة في حد ذاته".
الاضطراب هنا يعني أن معنى العلاقة يتشوّه، ويصبح عبثي وغامض، والقيم تضطرب، فتصبح الكرامة والحرية والمتعة والإحساس التقليدي بالأمان داخل العلاقة معاني آخرى غير محددة، الأدوار المستقرة في العلاقة تتغير وتتلخبط وأحيانًا لتتحوّل إلى أدوار متناقضة، فتأخذ المرأة المبادرة بدلًا من الرجل مثلًا، أو تصبح مسؤولة عن الشعور بالأمان في العلاقة بشكل كامل، وهذا الاضطراب، يجعل المستقبل غامضًا، فالهدف من العلاقة كذلك، لا يعرف الإنسان ما الذي سيفعله تحديدًا في حياته، وهل إذا ارتبط بشخص سيستطيع التعامل مع ظروف الحياة؟
هذا النظام "العلاقاتي" حديث إذن نسبيًا في مخ الإنسان، وعند حدوث صدمة شديدة، تجعل الإنسان يعود إلى منظومة علاقاته الأقدم والأعمق في تكوينه البيونفسي، العائلة، علاقة الأخوة، الصداقة، الأقارب، وليس الحبيب الذي يعتبر شيئًا مجهولًا وبعيدًا؛ مما يذكرنا بانتشار نمط الإخوة اللذين يتصرفون كأحبّة على وسائل التواصل الاجتماعي.
هنا استشهد القط بـ آلان سكور Allan Schore الباحث والمتخصص بعلم النفس العصبي، ونظريّته عن العلاقة بالآخر Object relation theory، وهي أن المخ البشري يتطوّر عن طريق العلاقة مع الآخر، وهذه العلاقات مع الآخرين هي التي تشكّل المخ ولها دور هام منذ الميلاد وحتّى الموت، وبهذا فعندما يكون المخ في حالة ضغط شديد، يحتاج الإنسان إلى علاقة قديمة ومستقرّة وبها تفاصيل عاطفية للاعتماد عليها، ومنها علاقته بأفراد العائلة.
الآن هو وقت المقارنة بين الرجال والنساء، وإذا كانوا يتأثرون بنفس القدر بالضغط السياسي والاقتصادي؟
يستكمل القط كلامه قائلًا إن الأزمة تؤثر على الجميع، ولكن بحسب نقاط الضعف لدى كل شخص، فهناك من يشعر أنه غير متحقق في العمل، أو أن صحته ليست على ما يرام، فتضخّم الأزمة هذا الشعور، وعلى مستوى نظري فالنساء يستطعن التفكير في مهام متعددة وإنجازها بالمقارنة بالرجال الذين يفكرون في شيء واحد وإنجازه في المرة الواحدة، أما على مستوى جندري، فالنساء مهمومات أكثر بالتعافي من الآثار الناتجة عن الأزمة، نادرًا ما يجيء رجل إلى العيادة بزوجته، العكس يحدث دائمًا.
يمكن أن نضيف هنا أن هناك رغبة شديدة بين الشباب في البلدان التي تعاني من أوضاع سياسية غير مستقرة للهروب إلى الخارج، فالإرتباط إذن قد يعطل هذه الخطط أو يضفي ظلالاً عليها، والرجال بالطبع يفكرون في السفر أكثر من النساء.
أما عن تطبيق مثل "صراحة" يضيف القط: "هو بحث عن علاقة بلا عبء ومسؤولية العلاقة، بحث عن الحميمية من شخص لا نعرفه، وغالبًا لن نصل إليه، حميمية افتراضية بدون واقعيتها ومسؤولياتها المعنوية والجسدية، وبالتالي ننسى الواقع وشكله وترتيباته ومسؤولياته وأبجديات التواجد فيه."
في أيام كهذه، تهتم الإحصائيات بالوقت الذي نقضيه على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، لكن هناك جانب آخر مهم، وأن هذا التواجد الزائد عليها، يعتبر تعويض عن الواقع، وبالتالي يعطّل ويقلل المهارات الاجتماعية بشكل مباشر ويعيق التواصل مع الواقع، محولًا الأشياء الحقيقية إلى افتراضية، فمن السهل التواصل كتابيًا، إنما الصعب تنفيذ الكلام المكتوب في الواقع.
يقولون إن تحديد المشكلة والاعتراف بها، هو نصف الطريق إلى الحل، ما الحل إذن؟ نحن نحاول أن نخلق أنشطة بديلة طوال الوقت، نهتم بالتحقق المهني، وأن نكون أكثر انفتاحًا عندما يتعلق الأمر بمشاعرنا، لكن هناك جانب آخر تقتضيه الظروف. يقول القط: "إننا في حاجة إلى نمط استقرار مختلف حتّى نبدأ التعافي، الستينيات كانت مرحلة رومانسية لأن نمط القهر كان معروفًا ومستقرًا، إنما الآن لا يوجد نسق واحد واضح المعالم، وهذا سؤال سياسي وظرف عام، وليس للعواطف".
يتابع: "إنما فيما يتعلق بالتعايش، فنحن في حاجة إلى التعامل ببطء شديد، لإن البرنامج الذي يعمل به المخ لم يعد موجودًا، ويعاد بناؤه الآن، ما نحتاجه هو العودة إلى العلاقات الصلبة والعميقة، الإخوة والأخوات والأهل والأصدقاء، يجب أن نتحرّك في مساحات آمنة ومعروفة مسبقًا، أما فيما يتعلّق بالعلاقات العاطفية، فيجب بذل مجهود فيها، بشكل عام، نعيد علاقتنا بالناس والشارع، التواصل التقليدي البسيط، في محاولة لإعادة صياغة العلاقة بالآخر بعيدًا عن الخوف".
يضيف: "إذا أعجبنا شخص، لنحاول أن ندخل في علاقة وإن كانت بلا أفق أو استمرارية أو وضوح رؤية، لنعتبره نوع من التمرين الواقعي للمخ على وجود أناس قريبين وحميميين ومستمرين، فهذا جزء من بناء القدرات الرئيسية مرة أخرى للدخول في علاقات عاطفية، تحمّل الآخر وتعلّم التعامل معه."
الأمر ليس سهلًا، والتجربة الشخصيّة لكل فرد تختلف وسط الجمع، لكننا هنا الآن ولا علاج لذلك كما يقول بيكيت، فلنحاول على الأقل أن نستمتع بوجودنا وبصحبتنا للآخرين، أن نبدأ مجددًا كُل حُب وكُل مرة بأمل خاص بها، في محاولة للمقاومة، كأنه نوع من التمسك باللحظات التي تجعلنا نتفائل في مناخ يدفع للتشاؤم، بعيدًا عن غيوم الوضع الإقليمي.
يقول أنسي الحاج:
"إنّه الجوّ المشحون. لا تخافي. هناك على الدوام جوّ مشحون. لا تخافي. سلي الغيوم العابرة، سلي الأيّام العابرة، سليني، لا تخافي. اسرقي! الآن وقتها! اسرقي! هذه اللحظات المسروقة هي أجمل منكِ وأغلى ما ستعطيكِ إيّاه الحياة".