الخارجية التونسية وليبيا.. ارتباك الأداء
تظل تونس من أكثر الدول تأثراً بما يجري في المشهد الليبي، بالنظر إلى الترابط الوثيق بين البلدين، اجتماعياً واقتصادياً، وقد لعبت تونس دوراً مركزياً بعد نجاح ثورتها مباشرة في دعم الثورة الليبية، وكان لها حضور واضح في دعم الثوار، واستقبال اللاجئين، وقد أصبحت العلاقات أكثر متانة، في أثناء حكمي الترويكا في تونس والمؤتمر الوطني في ليبيا، بالنظر إلى أن كلتا الثورتين، التونسية والليبية، كانت تستمد القوة والاستمرارية من الطرف الآخر. ومعروف أن العلاقات بين البلدين ظلت مزدهرة على المستويات الاجتماعية والاقتصادية، بالنظر إلى العدد المهم من التونسيين الذي يستفيد من التعامل التجاري والاقتصادي مع نظرائهم والليبيين بالإضافة إلى العدد الكبير من مواطني ليبيا ممن يجعلون تونس وجهتهم المحبذة للعلاج، أو السياحة، ما يكشف أهمية العلاقات بين الطرفين اللذين تجمعهما حدود مشتركة تفوق الخمسمائة كيلومتر.
وإذا كانت السياسة الخارجية لتونس زمن حكم بن علي قامت على الارتباط الوثيق بخيارات نظام معمر القذافي إلى الحد الذي جعل الأخير يخرج إلى الناس، في خطاب شهير، إثر الثورة التونسية، مندداً بإطاحة بن علي، قائلاً "لا يوجد أحسن من الزين أبداً في هذه الفترة، بل أتمناه ليس إلى عام 2014، بل أن يبقى إلى مدى الحياة". وبعد سقوط القذافي، وتولي المؤتمر الوطني حكم ليبيا، تدعمت العلاقات بين النظامين الجديدين، خصوصاً في أثناء حكم الترويكا، وقد تجلى موقف تونس واضحاً في تصريحات الرئيس الأسبق، المنصف المرزوقي، في إدانته الانقلاب الفاشل الذي قام به خليفة حفتر، واعتبره من الثورة المضادة. غير أنه، ومنذ وصول حكومة الحبيب الصيد إلى السلطة، بدا الارتباك واضحاً في أداء وزارة الخارجية التونسية تجاه ما يجري في الجارة ليبيا، وبدا واضحاً أن وزير الخارجية الجديد، منجي حمدي، المعروف بمناهضته توجهات حكومة الترويكا السابقة وسياسات الرئيس المرزوقي، والذي كان قبل وصوله إلى الوزارة من المؤيدين للانقلاب المصري، يتخذ مواقف مضطربة إزاء ما يجري في ليبيا، ما تجلى في تصريح الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية التونسية، يوم 17 فبراير/شباط الجاري، أن "تونس تتفهم طلب مصر التدخل العسكري في ليبيا، وستتعامل مع أي قرار أممي عند صدوره"، وهو موقف فُهم منه انحياز للموقف المصري، قبل أن يتم تعديل هذا التوجه بتصريح من رئيس الحكومة، الحبيب الصيد، إثر مجلس وزاري ترأسه الرئيس الباجي قايد السبسي، حيث أكد "أنّ تونس تُعارض أي تدخل عسكري في ليبيا، وتدعمُ كلّ الحلول السياسية الرامية إلى حلّ الأزمة بين الأطراف المّتصارعة في ليبيا". ويبدو أن الخلاف بين الموقفين يكشف عن الاختلاف بين توجهات وزير الخارجية الذي يسعى إلى انتهاج سياسة الأحلاف والدخول ضمن قائمة الدول المناوئة للثورات العربية، وإطاحة الحكومات التي يعتبرها قريبة من الإسلام السياسي، أو تسمح له بالنشاط، وبين سياسات الباجي قايد السبسي الذي يفضل انتهاج سياسة هادئة، بعيداً عن دعم أحد الأطراف المتنازعة، خصوصاً في ظل الموقف الواضح للجارة القوية الجزائر التي تؤكد أن لا حل للأزمة الليبية، إلا في الحوار السياسي بين الفرقاء.
وعلى الرغم من أن السياسة الخارجية تدار بالاشتراك بين رئيس الجمهورية ووزير الخارجية، يبدو أن موقف قايد السبسي، الأكثر حكمة وعقلانية، سيكون المرجح لتوجهات تونس الخارجية في المرحلة المقبلة، غير أن مواقف وزير الخارجية المتباينة ستزيد من حالة الارتباك والتردد في موقف تونس من الأزمة الليبية. وفي السياق نفسه، جاء تصريح وزير الخارجية عن اعتراف تونس بحكومتين شرعيتين في طرابلس وطبرق محاولة لمسك العصا من الوسط، في موقف غائم، ستكون له آثاره على العلاقات بين تونس وليبيا، حيث يحاول بعضهم في تونس تجاهل أهمية حكومة المؤتمر الوطني التي تسيطر على غالبية الأراضي الليبية، وخصوصاً المنطقة الغربية المجاورة لتونس، وهي التي تراقب الحدود الممتدة بين البلدين، ما يعني أنه ليس للعلاقة مع حكومة طبرق أدنى أهمية في مسألة الجوار التونسي الليبي، باعتبار أن الشريط الجغرافي الذي تديره حكومة عبدالله الثني في أقصى الشرق الليبي لا يمثل أدنى أهمية للجوار التونسي.
العلاقات التونسية الليبية ينبغي أن تخرج عن دائرة الإرباك السياسي ومنطق التجاذبات والحسابات الداخلية التونسية، أو المواقف المزاجية الفردية، لأنه، وبغض النظر عن طبيعة الأنظمة القائمة في البلدين، هناك ثوابت سياسية ينبغي الحفاظ عليها، بناء على متانة الروابط الاجتماعية والاقتصادية، وانطلاقاً من مبدأ حسن الجوار، من دون التورط في منطق الأحلاف أو محاولات الانحياز إلى أطراف دون أخرى، ويظل الثابت الأهم مصلحة الشعبين، التونسي والليبي.