الخروج إلى الانتفاضة الثالثة

ثابت العمور

avata
ثابت العمور
29 ابريل 2018
9AD9FE5C-3281-4FA8-8A42-AA8FD07CAB41
+ الخط -
شكلت مسيرة العودة التي انطلقت في قطاع غزة في ذكرى يوم الأرض 30 مارس/ آذار، حدثاً بالغ الأهمية، بل باتت حالة تدحض كل الروايات والقراءات والنظريات المتعلقة بالسلوك الإنساني، إذ فرضت نفسها كحالة نضالية إنسانية استثنائية، والاستثناء لا يتعلق بالفعل والسلوك النضالي لكنه يتعلق بالبيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تبلورت وتشكلت فيها مسيرة العودة وثقلها في قطاع غزة، وبالتالي لا يمكن عزل هذا الشكل النضالي عن بيئته الحاضنة في القطاع الذي ذهبت كل الفرضيات بأنه قد بات خارج المعادلة، وإذا بمسيرة العودة تعيده إلى خريطة الحدث وإدارة المشهد بتفاصيل لا تختلف كثيرا عن بدايات الانتفاضة الأولى عام 1987.
غزة التي ظن أرييل شارون أن الانسحاب منها سيُخرجها من الفعل النضالي والحضور المقاوم، وظن جهابذة التخطيط الإسرائيلي أن إغراقها في الانقسام وحصارها وعقابها وتردي ظروفها المعيشية وردعها بثلاث حروب سيفضيان إلى ترويضها وإلهائها وإشغالها بالتفاصيل اليومية المتعلقة بالكهرباء والمعابر والبضائع والرواتب والتقاعد وبالمستقبل القريب المتعلق بالحياة اليومية لأكثر من مليوني فلسطيني يعيشون على أرض لا تتعدى مساحتها 360 كيلومتراً مربعاً. تخرج لتعلن انتفاضة ثالثة ولتعيد القضية الفلسطينية إلى قلب الحدث وليتحول مليونا فلسطيني إلى فدائيين ومن قضية حصار وإعمار وإغاثة إلى ملحمة نضال وبطولة وتضحية وإقدام. هذا القطاع الذي لا يتعدى طوله 40 كيلومترا وعرضه لا يزيد عن 12 كيلومترا يخرج اليوم للتصدي لكل التحديات وبكل اللغات والأدوات تصرخ لن تمروا ولن تمر صفقة القرن.
لم يكن عباقرة الاستشراف يتوقعون أن تنهض غزة لتعلن مسيرة العودة بهذه الطريقة وهذه الأدوات وهذا الفعل الذي خلط كل الحسابات، غزة منقسمة هذه حقيقة، وهي محاصرة، معاقبة، لكنها لا تقبل أن تكون في منتصف الطريق ولن تقبل بأن تكون أقل نضالا من نضالها في الانتفاضة الأولى والثانية، وها هي تعلن انطلاق شرارة الانتفاضة الثالثة من تحت ركام ثلاث حروب وبعض الدمار.
الخروج الشعبي لمسيرة العودة عكس كل التوقعات المبنية على المعطيات، إذ إن المسيرات تجاوزت الانقسام والحصار، خرج الناس على اختلاف انتماءاتهم الفصائلية إلى جانب المرأة والطفل والشاب والمسن والمتعلم والمثقف والصحافي والعامل، فبدت غزة ومسيراتها الممتدة كلوحة فلسطينية واحدة، معبرة عن حالة وحدوية نضالية ملتحمة في ملحمة نضالية كاملة.
ولقد انعكست حالة الإبداع النضالي بأدوات متعددة، وبالخيام ذات الدلالة المرتبطة بحق العودة، وانتقلت إلى إحراق الكاوشوك كرسالة تذكر بالانتفاضة الأولى التي كان أبرز معالمها إحراق الإطارات وإلقاء الحجارة، حتى دخل مصطلح الانتفاضة كل اللغات، ونجحت القوى الشعبية المدنية بتوثيق الإجرام الإسرائيلي وأحرجت الرواية الإسرائيلية وفاقت التغطية الإعلامية كل التوقعات حتى بات مصطلح مسيرة العودة الأكثر والأبرز تداولا على كل المنصات، لم يكن الأمر مجرد مسيرة، بدا كفعل يتنافى مع عقلية أن الحصار قد نال من الإبداع.
عبرت غزة من خلال اجتراح مسيرة العودة عن حالة تواصل ثوري ونضالي وجغرافي ووطني ووحدوي بين أجزاء الوطن، فلا يمكن فصل مسيرة العودة أو عزلها عن المقاومة الشعبية الممتدة والمستمرة في الضفة الغربية والقدس والداخل الفلسطيني، فمن خلال التصدي للجدار العازل ومسيرات نعلين، مرورا بإفشال وضع البوابات الإلكترونية في القدس، ووصولا لإضراب الأسرى عن الطعام كحالة نضالية، وليس انتهاء بالتصدي والتحدي الذي أبدته عهد التميمي، هذه المظاهر كلها لا يمكن عزلها عن مسيرة العودة في قطاع غزة بل هي جزء يكملها وشكل نضالي ممتد لها.
غزة هي رأس الحربة وهي كتلة سياسية وبشرية ونضالية قادرة على القراءة والتنبؤ والفعل، غزة بخروجها لمسيرة العودة بهذا الشكل النضالي الممتد منذ الانتفاضة الأولى عام 1987 والممتد الآن من القدس والضفة إلى غزة، عكست وقائع جديدة ومفاجأة، كانت إسرائيل تظن أن حالة العسكرة والفصائلية والإعداد والتجهيز ستُقدَّم على الفعل الشعبي النضالي السلمي فإذا بغزة تخلط الحسابات وتتقدم صوب المشهد مرة أخرى ولم يمنع السلاح تقدم النضال الشعبي، ومثلما أفشلت المخططات عام 1953 وعام 1967 وعام 1987 وعام 2000 وعام 2005 عادت الآن لتقول إنها قادرة وحاضرة وفاعلة.
انطلاق مسيرة العودة في غزة عكس حالة نضالية متراكمة وناضجة وأعلن مرحلة جديدة في تاريخ النضال الفلسطيني، تجاوزت الانقسام والحصار وكل محاولات الترويض، بل تجاوزت حتى الفعل العسكري الفصائلي الذي عاد خطوة للوراء استجابة للفعل الشعبي الجمعي الذي تخوضه الجماهير، ولا تعني المعادلة هنا حالة جدال أو حالة توظيف كما يروج بعضهم، العلاقة هنا تكاملية، فالجماهير هي رافد الأجنحة العسكرية المقاومة؛ ولا يمكن عزل فعل أحدهما عن الآخر، وتراجع أداة لصالح أخرى لا يعني التعارض بينهما. هذه هي غزة تكمل جزءاً آخر من الصورة التي بدأت في الضفة. لكن لوقع غزة وفعلها حسابات أخرى.
تجلت تبعات مسيرة العودة في القراءة الإسرائيلية التي عبّر عنها يوحنا نتسوريف في مقال كتبه بعنوان "بين الانتفاضة الأولى ومسيرة العودة" في نظرة يوم 17 إبريل/نيسان الماضي عن غزة.. إذ يقول: (عمليا، أثبت قطاع غزة في أحداث مسيرة العودة ما كان معروفا منذ الانتفاضة الأولى. فقد كان القطاع هو الذي أثار الانتفاضة، بخروج الشيوخ، النساء والأطفال إلى الشوارع وإعطاء تعبير حقيقي عن قوة البعد الجماهيري. كما كان القطاع الأول في الكفاح...). يبدو أنه بدأ هنا فصل جديد في أنماط الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، حيث يتصدى الجمهور الفلسطيني للحسم.
إن مسيرة العودة في غزة فعل شعبي نضالي لا وصاية عليه، وهو ملحمة نضالية دحضت كل الحسابات التي تقول بأنه لم يعد بإمكان غزة أن تقود النضال وأن تكون رأس الحربة، وإن دلالات استمرارها بهذه الإحداثيات والفاعلية تعني أن غزة تعود لتقود الانتفاضة وقادرة على قلب كل المعادلات والتوازنات والمخططات، غزة تناضل بطريقتها وعلى طريقتها، غزة تقول إن 70 عاما من عمر النكبة لا تعني سقوط حق العودة، وإن 30 عاما من التسوية لا تعني إسقاط المقاومة بكل أشكالها، غزة التي تناساها العرب باتت محط اهتمام واتصال وضغط ووساطة من اجل إيقاف مسيراتها وفعالياتها، غزة التي تتحضر اليوم لتنجز صفقة تبادل أخرى للأسرى.
غزة التي تقول للعدو تجهز بما أوتيت وبما تستطيع قبل 15 مايو/أيار المقبل، وكأنها تقطع الطريق على الاتصالات والمحاولات العربية والتوعد الإسرائيلي الذي يريد ثنيها عن الاستمرار. غزة باجتراح مسيرة العودة عادت للمشهد وأعادت القضية الفلسطينية لتصبح الحدث الأول والأبرز والأهم واستقطبت عيون العالم في كل بقاع الأرض بعدما ظن بعضهم أن مشكلتها في الراتب والإغاثة والإعمار وتحسين الظروف المعيشية، خرجت في أصعب الأوضاع لتقول إنها لا تنحني ولا تتراجع.
غزة التي قالت التقارير الدولية إنها لن تعود صالحة للحياة مع عام 2020 تعود الآن وتتمرد وتقود مسيرة العودة، تعيد القدس والثورة والقضية والثوابت للواجهة تتصدى وتتحدى كل الصفقات تسقط، صفقة القرن وصفقة الترويض، لتعلن أنها تتحضر لصفقة الأسرى لصفقة الأحرار. وخلاصة القول إنه لا يمكن رؤية غزة خارج حالة النضال والثورة والمقاومة والاشتباك مع الاحتلال، لن تتوقف حدود الفعل عند غزة فقط، ولا يمكن اختصار المشهد في غزة فقط، فواحدة من المهام المنوطة بغزة ومسيرتها نقل المعركة والمواجهة إلى الضفة وإلى كل مناطق فلسطين.
مثلما أخطأت الحسابات والقراءات التي ظنت أن غزة باتت خارج المعادلة، ستفشل أيضا إذا ظنت أن الأمر سيتوقف عند حدود غزة فقط.
غزة التي تقود مسيرة العودة الآن لن تتوقف، ولن تكتفي ستذهب لتقود الانتفاضة الثالثة في الأيام القادمة لتصبح انتفاضة في كل فلسطين، وكأنها تعيد انتفاضة عام 87 بكل التفاصيل بفارق أنها بدأت في المرة الأولى شعبية ثم تعسكرت، بينما تراجعت العسكرة الآن لصالح الفعل الشعبي النضالي، هذه معادلة أفلحت غزة في إبداعها عندما اجترحت مسيرة العودة.

ذات صلة

الصورة
من رحلة الفلسطيني خليل النواجعة اليومية (العربي الجديد)

مجتمع

يقطع المعلم الفلسطيني خليل النواجعة (58 سنة) يومياً نحو 5 كيلومترات على حماره، من منزله بمنطقة تجمع الجوّايا في بلدة الكرمل إلى مدرسة التوانة في مسافر يطا.
الصورة
فلسطينيون ينزحون من بيت لاهيا جراء القصف الإسرائيلي 17 نوفمبر 2024 (Getty)

سياسة

يتجه الاحتلال الإسرائيلي لتعزيز سيطرته العسكرية على قطاع غزة المحاصر، وسط مؤشرات ملموسة إلى بدء تطبيقه الحكم العسكري، فضلاً عن التأسيس لتطلعات المستوطنين.
الصورة
بنيامين نتنياهو مع أرييه درعي في الكنيست بالقدس 24 يوليو 2023 (رونالدو شيميدت/فرانس برس)

سياسة

نشرت سرايا القدس مقطعاً مصوراً لأحد المحتجزين الإسرائيليين، وجه من خلاله رسالة إلى عضو الكنيست الإسرائيلي زعيم حركة شاس المتطرفة أرييه درعي
الصورة
فك الاشتباك جندي إسرائيلي عند حاجز في القنيطرة، 11 أغسطس 2020 (جلاء مرعي/فرانس برس)

سياسة

تمضي إسرائيل في التوغل والتحصينات في المنطقة منزوعة السلاح بين الأراضي السورية ومرتفعات الجولان المحتلة، في انتهاك لاتفاقية فك الاشتباك الموقعة عام 1974.
المساهمون