لو خرج علينا أحد الأشخاص قبل عام واحد، وربما أقل، وقال لك إن سعر الدولار سيتجاوز حاجز التسعة جنيهات في سوق الصرافة المصرية لاتهمه البعض بإثارة الشائعات المغرضة وتقويض جهود الحكومة الرامية لتحسين بيئة الاستثمار وجذب استثمارات أجنبية ضخمة.
ولو قال لك أحدهم إن الدولار سيتجاوز سعره العشرة جنيهات مصرية لاتهمه بعضهم بالجنون وربما بالخيانة العظمى، لأنك بتوقعاتك تلك تتسبب في إحداث قلاقل شديدة داخل سوق الصرف، وبالتالي إرباك مناخ الاستثمار وزعزعة الاقتصاد القومي، والأهم من ذلك تشويه صورة مصر في الخارج.
ولو خرجت علينا مؤسسة مالية عالمية كبرى، مثل جي بي مورغان تشيس الأميركية أو سوسيتيه جنرال، وتوقعت خفض قيمة الجنيه المصري بنسبة 35% خلال العام الجاري 2016 لشن عليها كثيرون هجوماً شديداً واتهموها بالعمل لصالح أعداء الوطن، وربما تلقي أموال ورشىً من جهات خارجية مغرضة لا تريد الخير لهذا الوطن، علماً بأن التهمة الأخيرة باتت جاهزة وتتكرر يومياً داخل وسائل الإعلام المحلية وعلى ألسنة كبار المذيعين.
أما الآن، فلو قال لك أحدهم إن الدولار سيتجاوز سعره 12 جنيهاً، وربما 15 جنيهاً قبل نهاية العام، فربما لن تشعر بالدهشة بعد أن تجاوز سعره 11 جنيهاً اليوم الثلاثاء، ربما تكتفي بفتح فاهك على آخره، أو تضرب يداً على أخرى، وربما تكتفي بالقول "لا حول ولا قوة إلا بالله.. ربنا يستر على البلد.. ربنا يكون في عون الفقراء والغلابة الذين يكتوون بلهيب الأسعار والتضخم".
هذه الأيام زار الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند القاهرة ومعه عدد كبير من رؤساء الشركات الاستثمارية والمالية والنفطية الفرنسية، وبدلاً من أن يتهاوى سعر صرف الدولار مقابل الجنيه المصري على خلفية تأثيرات الزيارة التي وصفتها الحكومة ووسائل الإعلام بالإيجابية، أو على الأقل تضعف قيمته وقوته بعض الشيء، نجد أن سعره تجاوز حاجز الـ 10.75 جنيهات في السوق السوداء لأول مرة في تاريخ العملة المصرية.
وقبل زيارة هولاند، زار ملك السعودية سلمان بن عبد العزيز القاهرة ومعه صفقات واستثمارات وقروض تفوق قيمتها 41.65 مليار دولار حسب أرقام الحكومة المصرية المعلنة، ورغم ذلك يرتفع سعر الدولار إلى 10.3 جنيهات بفارق 1.42 جنيهاً عن سعره الرسمي في البنوك وشركات الصرافة. وخلال أيام يزور وفد من رجال الأعمال الألمان العاصمة المصرية، ولا نعرف كم يصل سعر الدولار خلال هذه الزيارة.
إذن ما الذي يحدث بالضبط؟ ولماذا لم تنعكس هذه الزيارات المهمة و"التاريخية" على أوضاع العملة المصرية مقابل الدولار، وكذا على مؤشرات الاقتصاد القومي؟
أليس من الغريب أن تتهاوى قيمة الجنيه المصري أمام الدولار الأميركي في الوقت الذي تعلن فيه الحكومة ليل نهار عن تدفق الاستثمارات العربية والأجنبية والقروض على البلاد، وعن تأسيس عشرات المشروعات
العملاقة والشركات الضخمة؟
حسب أبسط النظريات الاقتصادية، فإن ضخ أي سيولة دولارية داخل سوق ما يترتب عليها تحسن المركز التنافسي للعملة المحلية وزيادة قيمتها أمام العملات الأجنبية الأخرى، لكن ما يحدث في مصر هو العكس تماماً.
فالحكومة تعلن يومياً عن جذب استثمارات بملايين الدولارات، وتعلن في كل مؤتمر اقتصادي أو خلال زيارة رئيس عربي أو أجنبي البلاد عن إبرام اتفاقات لتأسيس مشروعات ومذكرات تفاهم وصفقات بمليارات الدولارات، ومع ذلك يواصل الدولار ارتفاعه أمام الجنيه وسط زيادة ملحوظة على حيازة العملة الأميركية من قبل المستثمرين والمدخرين والتجار على حد سواء.
هذا بالطبع يمثل لغزاً، ليس فقط لرجل الشارع العادي الذي لا يشعر مطلقاً بانعكاس هذه المليارات من الدولارات المتدفقة على أوضاعه المعيشية، وإنما لرجل الاقتصاد الذي يتابع بدهشة تراجع المؤشرات الاقتصادية خاصة المتعلقة بزيادة الدين العام المحلي وعجز الموازنة العامة رغم كل هذه التدفقات المالية والرأسمالية.
لكن ما تفسير هذا اللغز؟
هناك عدة تفسيرات يمكن طرحها في هذا الشأن، الأول هو أن ما تعلنه الحكومة المصرية على الرأي العام من أرقام تتعلق بجذب مشروعات واستثمارات غير صحيح بالمرة، وأن ما يتم إعلانه لا يخرج عن كونه مجرد دعاية لا أكثر، لأنه لو صحت أرقام الحكومة فإن تأسيس مشروعات جديدة يعني أن المستثمرين الأجانب يضخون سيولة دولارية في السوق المحلي، وهو ما يزيد المعروض من النقد الأجنبي على حساب الطلب، وهنا يتحسن سعر الجنيه، لا سعر الدولار كما يحدث حالياً.
والتفسير الثاني هو أن هناك أموالاً واستثمارات أجنبية يتم ضخها بالفعل داخل مصر، لكن الخسائر الفادحة التي تكبدتها قطاعات اقتصادية مدرّة للنقد الأجنبي مثل السياحة والصادرات والاستثمارات الأجنبية وتراجع إيرادات قناة السويس وتحويلات المصريين العاملين بالخارج تبتلع مثل هذه الأموال، وهنا لا تظهر تأثيرات للاستثمارات الأجنبية.
أما التفسير الثالث فهو أن موجة حيازة الدولار، أو ما يطلق عليها الدولرة والتخلص من الجنيه لحساب العملة الأميركية، من قبل المضاربين والمدخرين والتجار والمستثمرين في مصر لا تزال مستمرة ولم تتراجع حدتها، وبالتالي فإن هناك طلباً مستمراً على الدولار يمتص أي أموال يتم ضخها بالنقد الأجنبي في السوق.
شخصياً أميل للتفسير الأول وهو أن الاستثمارات الأجنبية تتدفق على مصر على الورق فقط، وأن الحكومة لا تصدق نفسها حينما تعلن تدفق المليارات على البلاد، ومن الطبيعي ألا يصدقها رجل الشارع.
لكن، ما تأثيرات ارتفاع الدولار لهذه المستويات القياسية أمام الجنيه المصري على الاقتصاد المصري والمواطن والأسعار وأدوات الاستثمار الأخرى؟
هناك بالطبع تداعيات خطيرة لهذا الارتفاع منها على سبيل المثال:
1- ارتفاع أسعار السلع والخدمات، حيث أن مصر تستورد 70% من احتياجاتها، خاصة الغذائية التي لا يمكن الاستغناء عنها وكذا المواد الخام والسلع الوسيطة.
2- تآكل القدرة الشرائية للمواطنين.
3- تراجع قيمة رواتب الموظفين بسبب التضخم.
4- زيادة الدين الخارجي لمصر.
5- زيادة أسعار العقارات لزيادة الضغط عليها من قبل أصحاب الأموال الراغبين في الحفاظ على أموالهم، وهو ما يعقد مشكلة الإسكان في البلاد.
6- تعرض مودعي البنوك لخسائر لحصولهم على فائدة سلبية عن مدخراتهم تقل عن معدل التضخم وارتفاع الأسعار.
7- زيادة معدلات "الدولرة" داخل المجتمع، وارتفاع معدلات التخلص من الجنيه المصري من قبل المدخرين الراغبين في حيازة الدولار وعملات أخرى.
8- ارتفاع أسعار الذهب والسبائك لزيادة الإقبال عليه.
9- تعرض حائزي شهادات الاستثمار لخسائر ومنها شهادات قناة السويس.
10- انتعاش السوق السوداء للعملة وربما تراجع الودائع الدولارية بالبنوك.
11- حدوث ضغوط إضافية على احتياطي البلاد من النقد الأجنبي.
12- تأخر جذب استثمارات أجنبية للبلاد بسبب اضطرابات سوق الصرف.
13- خروج أموال أجنبية من مصر بحجة تفادي التعرض لمزيد من الخسائر.
14- زيادة عجز الموازنة العامة للدولة لزيادة تكاليف استيراد السلع الضرورية.
15- تراجع تحويلات المصريين في الخارج وزيادة اكتناز الدولار.