24 أكتوبر 2024
الدولة قاتلاً.. خاشقجي نموذجاً للضحية
"هذه أول مرة في حياتي اضطر فيها لتقطيع الأجزاء على الأرض. فحتى إذا كنتَ جزّاراً، عليك تعليق الذبيحة للقيام بهذا الأمر". ليست هذه الفقرة مشهداً من فيلم رعب أميركي، يقولها القاتل فيه، وإنما يقولها الطبيب الشرعي السعودي والعضو في فريق القتل، صلاح الطبيقي، والذي قطّع جثة الصحافي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول، حسب تقرير جين كورن "بي بي سي" تحت عنوان "مقتل جمال خاشقجي: التسجيلات السرية.."، واستندت فيه إلى شخصياتٍ استمعت إلى التسجيلات المتعلقة بالجريمة، وتقطيع جثة جمال وإخفائها، والتي لم يظهر لها أي أثر منذ عام، وادعاء السلطات السعودية أنها تحاكم الجناة الذين قاموا بجريمتهم من دون علم ولي العهد، محمد بن سلمان.
الخفّة التي تعامل بها الفريق المكلف بقتل الرجل، ووصفهم خاشقجي بالذبيحة قبل وصوله إلى القنصلية، يعنيان أنه لم يُتخذ قرار بقتل الرجل فحسب، بل وبأبشع طريقة ممكنة بتقطيعه أيضاً، بإرسال طبيب للقيام بمهمة الجزار في القنصلية. لا يقوم هؤلاء بجريمتهم لمصلحتهم مجرمين أفرادا، بل بوصفهم رجال سلطةٍ عمومية، مكلفين بمهمةٍ من سلطةٍ ينتمون إليها، ويخضعون لأوامرها، أي أنهم مجرمون وأداة لصاحب قرار أكبر منهم، بمعنى أن من اتخذ قرار القتل يتحمّل المسؤولية بشكل أكبر من أدوات التنفيذ التي استخدمها، وبالتالي تقع جريمتهم في إطار السؤال العمومي عن علاقة السلطة صاحبة القرار بمواطنيها، وكيفية فهم هذه السلطة علاقتها بـ"مواطنيها".
واحدة من مهمات الدولة الحديثة هي "احتكار العنف"، ضمن عقد اجتماعي يؤسّس لممارسة
العنف من أجل الصالح العام، أي أن احتكار العنف عمومي، بمعنى أنه يُمارس لتحقيق غاياتٍ عموميةٍ، مثل الدفاع عن البلد في مواجهة الاعتداءات الخارجية، أو ممارسة العنف على المواطنين الخارجين عن القانون، تنفيذاً للقانون بوصفه دفاعا عن حقوق عموم المجتمع، وليس تنفيذاً للمصالح الذاتية. بذلك لا يمارس القانون وفق أهواء الحاكم أو الممسكين بالسلطة، إنما وفق قواعد وإجراءاتٍ يفرضها القانون على السلطات ذاتها في أثناء أدائها مهماتها بوصفها محتكرةً للعنف. لذلك تفصل الدولة الحديثة بين أدوات العنف وأجهزتها، مثل الجيش والشرطة، والقرار المحرّك لهذه الأدوات والأجهزة. في دول القانون، لا يتخذ قادة الجيش قرار الحرب والسلم، فهؤلاء أداة تنفيذية للمستوى السياسي، صاحب قرار الحرب والسلم في الدولة، والجيش أداة عنفٍ بيد هذا المستوى، وهو غير قادرٍ على العمل وحده، بحكم القواعد القانونية المفروضة عليه. وكذلك الحال في جهاز الشرطة، الذي هو جهاز تنفيذي لضبط المواطنين داخلياً، فالشرطة لا تحجز حرية المواطن بقرارٍ من الشرطة ذاتها، إنما الشرطة أداة تنفيذية للقضاء الذي يقرّر حجز حرية المواطن الذي يُشتبه أنه قام بعمل جرمي أو إطلاق سراحه ليراءته، ولا تتدخل الشرطة بهذه الأحكام، إنما وفق أحكام القانون التي تضبط هذا الفعل بتجريمه أو اعتباره مباحاً.
مع هذا الكلام، نبدو ابتعدنا عن موضوعنا، ولكن في الحقيقة، ابتعدنا واقتربنا في الوقت ذاته. ابتعدنا، بمعنى أن هذا الفصل للسلطات، والقانون بوصفه مرجعيةً للجميع، بما فيها الحاكم والدولة
بوصفها محتكرا عموميا للعنف، تتناقض على طول الخط، مع جريمة القتل البشعة بحق خاشفجي. ولكن من جانب آخر، اقتربنا، لأن الجريمة، بحد ذاتها، تُظهر طبيعة النظام السياسي السعودي على حقيقته يعيش في القرون الوسطى، حيث السلطة تحرّكها أهواءٌ شخصية لأمير طائش. ومن المفارقات أن هذا السلوك يأتي من شخصيةٍ راهن الغرب عليها بوصفها إصلاحية تحديثية للسعودية. هكذا يتم تسويق ولي العهد، حتى بعد الجريمة في القنصلية في إسطنبول. لأن هذه الجريمة سياسية، فهي بحاجة إلى قرار سياسي، وبحكم طبيعة النظام السياسي السعودي الذي لا يسمح لأيٍّ من المساعدين الاجتهاد، فهؤلاء المنفذون بحاجة دائماً إلى موافقة سيدهم في مثل هذه القضايا، فلا نائب رئيس الاستخبارات السعودي، أحمد العسيري، ولا مستشار ولي العهد، سعود القحطاني، يستطيعان اتخاذ قرار تشكيل مجموعة من 15 شخصاً لتصفية خاشقجي بهذه الطريقة، وهؤلاء من حاولت السلطات السعودية تحميلهم مسؤولية القتل، بادّعاء أنهم تصرّفوا وحدهم في القضية من دون معرفة ولي العهد. فأي عارفٍ ببنية السلطات في المنطقة يعرف تماماً أن قراراً أقل من هذا بكثير لا يمكن اتخاذه وتنفيذه من دون موافقة الرجل الأول في السلطة، وليس هناك أصحاب قرار باستثنائه، وأي صاحب صلاحيات يجب أن يكون من الأسرة المالكة.
كان خاشقجي حتى الأمس القريب مقرّباً من السلطة الحاكمة في السعودية، اختلف معها، ذهب إلى قنصلية بلاده في إسطنبول للحصول على أوراق من أجل زواجه، معتبراً نفسه ما زال مواطناً سعودياً، على الرغم من الخلاف مع ولي العهد، حتى أن الرجل لم يعتبر نفسه معارضاً للنظام، إنما صاحب وجهة نظر في بعض القضايا. لكن الحاكم لم يرَ المعادلة كما يراها خاشقجي، فولي العهد يعتبر السعودية مزرعة يملكها، فاعتبر خاشقجي شاة ضالّة تحاول كسر وحدة القطيع الملتف حول الراعي، فما كان من الراعي، إلا أن قرّر ذبحها بأبشع طريقة ممكنة، فكانت الجريمة التي تجسّد عقلية الحاكم السعودي بأفظع صورة.
واحدة من مهمات الدولة الحديثة هي "احتكار العنف"، ضمن عقد اجتماعي يؤسّس لممارسة
مع هذا الكلام، نبدو ابتعدنا عن موضوعنا، ولكن في الحقيقة، ابتعدنا واقتربنا في الوقت ذاته. ابتعدنا، بمعنى أن هذا الفصل للسلطات، والقانون بوصفه مرجعيةً للجميع، بما فيها الحاكم والدولة
كان خاشقجي حتى الأمس القريب مقرّباً من السلطة الحاكمة في السعودية، اختلف معها، ذهب إلى قنصلية بلاده في إسطنبول للحصول على أوراق من أجل زواجه، معتبراً نفسه ما زال مواطناً سعودياً، على الرغم من الخلاف مع ولي العهد، حتى أن الرجل لم يعتبر نفسه معارضاً للنظام، إنما صاحب وجهة نظر في بعض القضايا. لكن الحاكم لم يرَ المعادلة كما يراها خاشقجي، فولي العهد يعتبر السعودية مزرعة يملكها، فاعتبر خاشقجي شاة ضالّة تحاول كسر وحدة القطيع الملتف حول الراعي، فما كان من الراعي، إلا أن قرّر ذبحها بأبشع طريقة ممكنة، فكانت الجريمة التي تجسّد عقلية الحاكم السعودي بأفظع صورة.