01 نوفمبر 2024
الديمقراطية ونوستالجيا الاستبداد في تونس
معادلة صعبة ومفارقة جديدة أفرزتها التجربة السياسية التونسية الناشئة ما بعد سنة 2011، اتسمت باللجوء إلى العنف لحماية الديمقراطية، واستنادا إلى مبادئها وفلسفتها، من فاعلين مجتمعيين وسياسيين، في غياب كامل للدولة التي تُعتبر التعبير السياسي للمجتمع. هو نوع من العنف الثوري الذي يستبطن أصحابُه اعتقادا مفاده بأن ذلك العنف هو وليد النظرية الثورية التي يؤمنون بجدواها، ويبرّرونه بظهور أحزابٍ سياسيةٍ، لا تستمد شرعيتها ومبرّرات وجودها من الدستور التونسي المختوم من المجلس الوطني التأسيسي في 27 جانفي (يناير/ كانون الثاني) 2014، والذي ينص، في توطئته، على أن ما حدث في تونس ثورة مكتملة الأركان، وإنما تستند في تبرير وجودها إلى مرحلة الاستبداد في زمن الحزب الواحد والزعيم الأوحد ومركب الدولة – الحزب، المنظومة التي هيمنت على تونس، نصف قرن أو يزيد، باسم الاستقلال وبناء الدولة ووحدة "الأمة" ومصلحة الوطن العليا.
يعد الحزب الدستوري الحر أحد أبرز ممثلي هذا التيار الذي لا يُخفي رغبته في العودة بعدّادات الزمن إلى ما قبل سنة 2011، إن استطاع إلى ذلك سبيلا، على ما في الأمر من استعصاءٍ واستحالة، داعيا، في الآن نفسه، إلى تبديل الدستور بما ينسجم مع منطلقات هذا الحزب، وإلى محاكمة نشطاء الحراك الثوري الذي أفضى إلى سقوط نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وواصفا ذلك الحراك تهكّما وتندّرا بـ "ثورة البرويطة"، نسبة إلى العربة التي كان يعتاش منها الشهيد محمد البوعزيوي. ظهر هذا الحزب للملمة بقايا حزب التجمع الدستوري الديمقراطي، الحزب الذي انفرط عقده، بعد أن كان الآمر والناهي في كل تفاصيل الحياة السياسية التونسية ربع قرن، وبعد أن فشلت في ذلك أحزاب أخرى مثيلة، فهو لم يعترف بالفشل الذريع الذي انتهت إليه تجربة حكم التجمعيين الذين احتكروا الحياة العامة، فثار في وجههم شباب 17 ديسمبر 2010 وأحرقوا أغلب مقراتهم، وأجبروهم على ترك الحكم في 14 جانفي 2011 ثم حلوا حزبهم بحكم قضائي، صدر في مطلع شهر مارس/ آذار من السنة نفسها، صودرت بموجبه كل أملاكه لفائدة الدولة التونسية.
لا يُخفي الحزب الدستوري الحر الذي ينازع قوى دستورية أخرى كثيرة، الانتماء التجمعي
والدستوري، مثل أحزاب نداء تونس ومشروع تونس وتحيا تونس والمبادرة الدستورية، ويحاول أن ينفرد بالإرث الدستوري الذي يرى فيه رأسمالا رمزيا، قابلا للاستعمال السياسي والاستثمار والتوظيف في التعبئة الشعبية، والترويج الاتصالي، والعمل على الوصول إلى السلطة من جديد. لا يخفي عدم اعترافه بمسارات ومآلات 14 جانفي 2011 التي أفرزت مجتمعا سياسيا ديمقراطيا بامتياز، يرتكز على دستورٍ يتمحور حول فكرة التداول السلمي على السلطة، في نظامٍ برلماني معدل، وما يقتضيه ذلك من آليات، مثل حق تأسيس الأحزاب والنقابات والجمعيات، وحريات الفكر والتعبير والضمير والتنظيم والصحافة والإعلام، وإعطاء الثقة للحكومات والوزراء، وسحبها منهم، وممارسة الرقابة على كل أعمالهم وأنشطتهم، ما مكّن التونسيين من الالتحاق بالنادي الديمقراطي العالمي، بعد أن سعت إلى ذلك النخب التونسية نصف قرن، من دون أي يتحقق مطلبها في زمني حكم بورقيبة وبن علي.
تقود الحزب الدستوري الحر شخصية سياسية، شديدة الدوغمائية والتعصب والحنين للزمن التجمعي، لا تخجل من الدفاع المستميت عن بن علي، وحقبة حكمه، زجّها في دهاليز دار التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم منذ صغر سنها، فتلقت تكوينا حزبيا صارما، يقوم على الطاعة العمياء، والوفاء للزعيم الأوحد، وتطبيق الأوامر والتعليمات. وارتقت إلى أعلى المراتب القيادية في الحزب العنقودي، لتتولى منصب الأمين العام المساعد، وعايشت أباطرة الاستبداد في ذلك الحزب، فتعلّمت منهم مبادئ حكم الحزب الواحد، وقمع المعارضين وملاحقتهم، وكتابة التقارير وجمع المعلومات حولهم، بما في ذلك المتعلقة بحياتهم الشخصية والعائلية، واستخدامها في إرهابهم سياسيا، قبل قطع أرزاقهم، أو زجّهم في السجون والمعتقلات، أو تعذيبهم وقطع أعناقهم، حسب تقدير خطورتهم، فهي سليلة مدرسةٍ لم تعرف الديمقراطية والحوكمة يوما في معجمها السياسي المعتمد، بل كانت تصم كل من يخالفها الرأي والعقيدة والأيدولوجيا السياسية بالخيانة، وتنعتُه بالعمالة، وتبرّر منع تأسيس الأحزاب السياسية، وتدجين النقابات وملاحقة نشطاء المجتمع المدني، وتزوير الانتخابات، وتغيير محتويات الصناديق، وتشرعن ممارسات العائلة الحاكمة، الطرابلسية والبنعلية، وعصابات المصالح المرتبطة بها، الموصومة بالفساد السياسي، ونهب ثروات البلاد، وقد ارتقى بعض أفرادها إلى اللجنة المركزية لحزب التجمع الدستوري، وإلى الهياكل التشريعية في مجلسي النواب والمستشارين المنحلين، ليكونوا في مراتب قيادية جنبا إلى جنب مع "الزعيمة" التجمعية، فكيف لمثل هذه الشخصية وحزبها أن تكون ديمقراطيةً، وتقبل بالآخر المختلف وحقه في ممارسة السلطة، استنادا إلى شرعية الصندوق؟
يرى هذا الصنف السياسي في الديمقراطية غنيمة حربٍ خاضها آخرون، لها أفضال جمّة، قابلة
للاستثمار والمنفعة والتوظيف، فهي الوسيلة الوحيدة التي تمكن من الوصول إلى الحكم من جديد، بعد أن انتفت إمكانات ممارسة السلطة عبر الانقلابات العسكرية، أو الانقلاب الطبي، كما باشر ذلك الأمر زين العابدين بن علي في علاقته بالرئيس الأسبق، الحبيب بورقيبة، سنة 1987، إلا أن مفهوم السلطة لديه لا يقوم على فكرتي التنوع والتعدّد السياسيين والتداول السلمي على الحكم، وفق مقتضيات الصندوق الديمقراطي، وإنما يرى في الصندوق مدخلا لاحتكار الحكم، وعبره الشأن العام، والهيمنة على ثروة البلاد، في محاولةٍ لإعادة إنتاج منظومة سياسية هرمت وترهلت، فأنطفأ شمعها وذهبت ريحها. ولم يعد ممكنا اليوم في تونس، وبأي حال، وتحت أي مسمّى أو شرعية، أن يعاد إنتاج منظومة استبدادية عتيقة وعقيمة في الآن نفسه، لا تقبل الآخر المختلف أيديولوجيا وعقديا، المنافس سياسيا، مهما بلغت من القوة والغطرسة وفاشية الخطاب وطوباويته، كما هو حال أحزابٍ وشخصيات تربت في مدرسة "التجمع الدستوري"، وفي مؤسسات الدولة الأمنية، المحكومة بسياسة الحديد والنار، ولم تتمكّن من تعديل أوتارها، وفق مقتضيات المرحلة الجديدة، ذات السمة الديمقراطية الغالبة، فبقيت تعيش على نوستالجيا الماضي الاستبدادي.
يعد الحزب الدستوري الحر أحد أبرز ممثلي هذا التيار الذي لا يُخفي رغبته في العودة بعدّادات الزمن إلى ما قبل سنة 2011، إن استطاع إلى ذلك سبيلا، على ما في الأمر من استعصاءٍ واستحالة، داعيا، في الآن نفسه، إلى تبديل الدستور بما ينسجم مع منطلقات هذا الحزب، وإلى محاكمة نشطاء الحراك الثوري الذي أفضى إلى سقوط نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وواصفا ذلك الحراك تهكّما وتندّرا بـ "ثورة البرويطة"، نسبة إلى العربة التي كان يعتاش منها الشهيد محمد البوعزيوي. ظهر هذا الحزب للملمة بقايا حزب التجمع الدستوري الديمقراطي، الحزب الذي انفرط عقده، بعد أن كان الآمر والناهي في كل تفاصيل الحياة السياسية التونسية ربع قرن، وبعد أن فشلت في ذلك أحزاب أخرى مثيلة، فهو لم يعترف بالفشل الذريع الذي انتهت إليه تجربة حكم التجمعيين الذين احتكروا الحياة العامة، فثار في وجههم شباب 17 ديسمبر 2010 وأحرقوا أغلب مقراتهم، وأجبروهم على ترك الحكم في 14 جانفي 2011 ثم حلوا حزبهم بحكم قضائي، صدر في مطلع شهر مارس/ آذار من السنة نفسها، صودرت بموجبه كل أملاكه لفائدة الدولة التونسية.
لا يُخفي الحزب الدستوري الحر الذي ينازع قوى دستورية أخرى كثيرة، الانتماء التجمعي
تقود الحزب الدستوري الحر شخصية سياسية، شديدة الدوغمائية والتعصب والحنين للزمن التجمعي، لا تخجل من الدفاع المستميت عن بن علي، وحقبة حكمه، زجّها في دهاليز دار التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم منذ صغر سنها، فتلقت تكوينا حزبيا صارما، يقوم على الطاعة العمياء، والوفاء للزعيم الأوحد، وتطبيق الأوامر والتعليمات. وارتقت إلى أعلى المراتب القيادية في الحزب العنقودي، لتتولى منصب الأمين العام المساعد، وعايشت أباطرة الاستبداد في ذلك الحزب، فتعلّمت منهم مبادئ حكم الحزب الواحد، وقمع المعارضين وملاحقتهم، وكتابة التقارير وجمع المعلومات حولهم، بما في ذلك المتعلقة بحياتهم الشخصية والعائلية، واستخدامها في إرهابهم سياسيا، قبل قطع أرزاقهم، أو زجّهم في السجون والمعتقلات، أو تعذيبهم وقطع أعناقهم، حسب تقدير خطورتهم، فهي سليلة مدرسةٍ لم تعرف الديمقراطية والحوكمة يوما في معجمها السياسي المعتمد، بل كانت تصم كل من يخالفها الرأي والعقيدة والأيدولوجيا السياسية بالخيانة، وتنعتُه بالعمالة، وتبرّر منع تأسيس الأحزاب السياسية، وتدجين النقابات وملاحقة نشطاء المجتمع المدني، وتزوير الانتخابات، وتغيير محتويات الصناديق، وتشرعن ممارسات العائلة الحاكمة، الطرابلسية والبنعلية، وعصابات المصالح المرتبطة بها، الموصومة بالفساد السياسي، ونهب ثروات البلاد، وقد ارتقى بعض أفرادها إلى اللجنة المركزية لحزب التجمع الدستوري، وإلى الهياكل التشريعية في مجلسي النواب والمستشارين المنحلين، ليكونوا في مراتب قيادية جنبا إلى جنب مع "الزعيمة" التجمعية، فكيف لمثل هذه الشخصية وحزبها أن تكون ديمقراطيةً، وتقبل بالآخر المختلف وحقه في ممارسة السلطة، استنادا إلى شرعية الصندوق؟
يرى هذا الصنف السياسي في الديمقراطية غنيمة حربٍ خاضها آخرون، لها أفضال جمّة، قابلة