يسوّق منظرو اقتصاد السوق لأهمية النظام الرأسمالي. تدور تعليلاتهم في مدار متشابه: لولا الرأسمالية لما تطور العقل البشري، الثورة الصناعية والتكنولوجية تقوم على فتح الاسواق والمبادرة الفردية، لولا الرأسمالية لما وصل الإنسان إلى القمر... ويستدلون في أقوالهم إلى الدول الكبرى كالولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وغيرها، ويدخلون أكثر إلى داخل هذه المنظومات ليحللوا أهمية وجود الشركات الكبرى وتفاعلها مع الأنظمة الاقتصادية الرأسمالية والإبداع الفكري لإنتاج خدمات وسلع تدور كلها في فلك خير البشرية...
افتحْ هاتفك الذكي الآن، انظر إلى الخدمات الكثيرة الموجودة في الهاتف، عدد الخدمات التي يستخدمها غالبية المستهلكين، سيتبين أنها لا تتعدى 20% من الخدمات المتوافرة كحد أقصى. افتح هاتفاً من علامة تجارية أخرى، وانظر الى الخدمات الموجودة فيه أيضاً، وستكون النسبة الاستهلاكية للخدمات متشابهة. ما يعني أن حوالى 80% من الخدمات المتوافرة في سلعة تكنولوجية واحدة يستخدمها البشر حول العالم ليست ضرورية... ماذا تعني هذه القضية؟
فعلياً، تجند المؤسسات الكبرى آلاف الموظفين لإنشاء واختراع خدمات وسلع جديدة، وتزهق في ذلك سنوات كثيرة وساعات عديدة من العمل. ساعات ومبالغ يمكن استثمارها في تشغيل العقل البشري لاختراع خدمات تفيد الناس فعلاً. وفي هذا الفعل، تنمية للمنافسة بين الشركات والتكتلات الكبرى، من دون الأخذ بالاعتبار حاجات المجتمعات. في المقابل، يهرول المستهلكون نحو المنتجات الجديدة، التي تضم خدمات لا يريدونها فعلاً، يدفعون لاقتنائها مليارات الدولارات حول العالم، من دون الحصول على مردود يفيدهم أو خدمات تعينهم في أي حاجة مطلوبة.
لا تقتصر قضية "المنافسة من أجل المنافسة" على شركات الهواتف طبعاً. يمكن النظر إلى أي سلعة والتأمل بتفاصيلها لمعرفة حجم الجهد الفكري المبذول من أجل إضافة خاصية لا ضرورة فردية أو اجتماعية لها، لمجرد التمايز بالشكل لا أكثر وخلق منافسة سطحية في السوق. ويمكن أن يتم إسقاط هذه النظرية على كافة السلع والخدمات المقدمة للناس، من عبوة المياه وصولاً إلى المشاريع التقنية أو الصناعية الكبرى، ويمكن بذلك الاستدلال إلى حجم الجهد البشري الضخم جداً، وتريليونات الدولارات المزهوقة سنوياً لإنتاج... لا شيء.
وفي السياق ذاته، تبرز ثغرة كبيرة في فكرة التلازم ما بين الرأسمالية وتطوير الفكر البشري. أساس هذه الثغرة يقوم على طمس الاختراعات الجديدة. إذ وصلت الرأسمالية إلى حد يتعارض مع التطور التكنولوجي في بعض المسارات، نتيجة اتجاه العقل الاستثماري نحو الحد من امكانية خلق أي منافس في السوق قد يحصل على حصة ولو صغيرة من الأرباح الاستهلاكية.
إذ أن كل من يعمل في الحقل التكنولوجي يعلم جيداً أن المؤسسات العالمية الكبرى تنشط منذ سنوات لشراء اختراعات جديدة أنتجها شباب، وتنفق على ذلك مبالغ طائلة، لتضع هذه الاختراعات في ثلاجات أبدية. ويتم تبرير هذه الإجراءات بسعي هذه المؤسسات لعدم وصول هكذا تقنيات الى شركات منافسة ولو على حساب إفادة البشرية منها. الأمثلة بهذا الشأن كثيرة جداً، جلّها مرتبط بتقنيات تكنولوجية دقيقة.
محاولات فهم تطور الرأسمالية كثيرة، والدخول إلى التفاصيل يكشف اتجاه الأسواق والعقل البشري خلال السنوات المقبلة. لا شيء يؤكد التناسق ما بين الرأسمالية والرفاهية، بعدما سقطت الكينزية في جوف عميق، ودخل السلوك الاقتصادي والنمط التجاري والصناعي في كهف من الفوضى النظرية، فضلاً عن ضعف الرؤى المستقبلية لسياسات تهدم الفكرة النمطية عن الرأسمالية بشقيها الكلاسيكي والمعاصر، وذلك في ظل ضعف المجهود الفكري النقيض.
لا شك أن المحاولات الفكرية ستفرض نفسها خلال الفترة المقبلة، لفهم سر التحولات التي طرأت على النظام الاقتصادي الذي يعتبر من الأقوى والأكثر استدامة في عالمنا الحديث. ولا شك أن الكثير من التعريفات ستسقط عن الرأسمالية، بعدما دفعت الاقتصاد إلى نمو هيكلي يتعارض مع الإبداع الفكري المنفلت من أي حدود أو حواجز أو تكتلات احتكارية كبرى.
إقرأ أيضا: الاقتراض للسكن صعب في الدول العربية