لا يزال أداء الجمارك الموريتانية يشوبه الكثير من الارتجال والعشوائية، كما يعاني من الفساد والمحسوبية وضبابية القوانين المنظمة له، مما يُضيع على خزينة الدولة عائدات كبيرة، ويهدد اقتصاد البلاد وتنافسية الصناعات، في الوقت الذي يؤكد الخبراء أن هذا القطاع كان سيشكل رافداً مهماً للخزينة.
وتعتمد موريتانيا بشكل كبير على الاستيراد، حيث إنها تستورد نحو 76% من حاجاتها الغذائية، وترتفع هذه النسبة لتقارب 90% في باقي حاجات البلاد، كما أن موريتانيا تعتبر
المنفذ الرئيسي للسلع المصدرة لبعض الدول الأفريقية مثل مالي والسنغال.
ورغم توفر الظروف المناسبة لتحقيق عائدات مالية مهمة في قطاع الجمارك، إلا أن عوائق مختلفة تقف في وجه فعالية القطاع، في الوقت الذي يطالب فيه الخبراء بتبني فلسفة إصلاحية لزيادة عائدات الجمارك من الإيرادات السيادية في البلد.
وحققت الجمارك، العام الماضي، إيرادات "قياسية"، حيث بلغت قيمتها 133.4 مليار أوقية (الدولار الواحد يساوي 300 أوقية)، بزيادة قدرها 9.4 مليارات أوقية، مقارنة مع عام 2013، ومقارنة مع ايرادات عام 2011، حيث بلغت إيرادات الجمارك 93.9 مليارات أوقية، وعام 2010 الذي بلغ 72.6 مليار أوقية.
اقرأ أيضاً:
30 حالة اختلاس مال عام في موريتانيا
وحسب خبراء فإن تطوراً ملحوظاً طرأ على عمل هذا القطاع، خلال السنوات الأربع، حيث كادت أن تتضاعف ايراداته.
وتعطي هذه الأرقام الأمل في تسجيل نتائج إيجابية، خلال السنوات القادمة، خاصة أن وزارة المالية اعتبرت أن تحصيل 133.4 مليار أوقية عام 2014، تم تحت ضغط الظروف الناجمة عن الأزمة الاقتصادية العالمية.
شبهة فساد
وأظهرت عدة تقارير، من بينها تقرير للمفتشية العامة للدولة، استفحال الفساد المالي في مؤسسة الجمارك، وانتشار الرشوة، كأسلوب للحصول على خدمات وتسهيلات متعلقة بالجمركة.
وكشفت هذه التقارير وجود مؤسسات كثيرة عاملة في مجال المحروقات والطرق، وأخرى في مجال الاستيراد والتصدير، تستورد معدات ولوازم تمر عبر موانئ رئيسية ولا تخضع للضريبة الجبائية المفروضة.
ومن حين لآخر تشن الصحافة الموريتانية حرباً على الذين راكموا ثروات طائلة من بين الذين تقلدوا مناصب سامية في هذا القطاع، وحتى صغار الموظفين الذين يتسببون في خسارة الدولة
مئات المليارات مقابل استفادتهم من رشى وإكراميات. كما تنتقد الصحافة الموريتانية اعتماد الجمارك على هبات من هيئات خارجية كالسيارات وبعض المعدات، بالرغم من مداخيلها الضخمة.
وأدى ضعف الرقابة المالية على قطاع الجمارك وانتشار مافيا التهريب وضبابية القوانين ولوائح التنفيذ، خاصة المتعلقة بالإعفاءات، إلى انتشار الفساد والمحسوبية والتغطية على عمليات التهريب والتحايل، وظلت الدولة تخسر مئات المليارات من الأوقية.
أسباب الفساد
ويقول الخبير الاقتصادي الداه ولد محمد إبراهيم إن هناك عدة أسباب وعوامل أدت إلى ضعف
أداء هذا القطاع، من بينها رفض الدولة رفع الضرائب الجمركية على بعض السلع كالسجائر، حتى أصبحت موريتانيا أكبر محطة لتهريب السجائر في افريقيا، إضافة إلى إلغاء الرسوم الجمركية على الأدوية، والتحايل الذي يتم في هذا الصدد، للتهرب من الضرائب، وإدخال السلع إلى موريتانيا على أنها أدوية.
ويشير إلى أن عدم ضبط باب الإعفاءات ترك المجال لتقديم خدمات وتسهيلات متعلقة بالجمركة لكبار التجار والمهربين دون وجه حق.
ويؤكد الخبير الموريتاني أن قطاع الجمارك يعاني من الفساد والرشوة، وأعطى مثالاً على ذلك باستيراد السيارات، فرغم القوانين المقننة للقطاع لا تزال السيارات غير المجمركة والحاملة للوحات ترقيم أجنبية تعبر الحدود وتصل إلى المدن الرئيسية، وهو ما يثير التساؤل حول شفافية الجمارك ومستوى أدائها.
ويضيف أنه "رغم إقرار القانون القاضي بحظر استيراد السيارات التي يزيد عمرها عن ثماني سنوات، لا يزال إدخال السيارات المستعملة والمتقادمة ممكنناً، مما يؤكد استشراء الفساد داخل هذا القطاع، في الوقت الذي يحرم المغتربون والسياح من الحصول على إذن مؤقت لاستيراد مركباتهم".
ويدعو الخبير محمد إبراهيم إلى مكافحة الفساد والتسيب وضبط باب الإعفاءات، وترسيخ مفهوم الدولة، والتعامل بشفافية مع جميع الفاعلين الاقتصاديين، وفرض الرسوم والضرائب الجمركية وفق النظم والقوانين، ويربط بين تطوير العمل في هذا القطاع بإلغاء المحسوبية ومنح رخص استيراد وتصدير صحيحة، والصرامة في التعامل مع المتورطين في قضايا الفساد والرشوة.
تحركات حكومية
وكشفت مصادر مطلعة تحدثت لـ"العربي الجديد" أن أصوات داخل الحكومة الحالية ترغب في سن سياسة صارمة لضبط العمل الجمركي وفق معايير جديدة، وإنهاء عهود من التخبط والفساد التي أضاعت على الدولة عائدات ضخمة.
وأوضحت المصادر أن الحكومة بدأت التكوين في المجال الجمركي للرفع من مستوى الكفاءات
داخل القطاع وتنظيم دورات تدريبية للعاملين، من أجل تطوير المداخيل الجبائية، واستعادة الدور متعدد الجوانب للجمارك، وخاصة في دورها في استقرار الأسعار.
وقررت الحكومة الموريتانية في سبتمبر/أيلول الماضي إنشاء لجنة جديدة لمكافحة الفساد مكلفة بمتابعة الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد التي وضعتها. وتملك اللجنة الجديدة سلطات واسعة في مجال محاربة الفساد واتخاذ الإجراءات الضرورية لتطبيق استراتيجية الحكومة في هذا المجال.
وتتكون اللجنة من 15 عضواً، من ضمنهم خمسة أعضاء من القطاع الخاص، وخمسة من المجتمع المدني العامل في مجال مكافحة الفساد والحكم الرشيد، بالإضافة إلى خمسة من الإدارة.
وستعمل اللجنة على رفع تقرير سنوي إلى الحكومة والبرلمان، كما ستسهر على تطبيق الخطة الاستراتيجية لمكافحة الفساد في المؤسسات العمومية، بالتعاون مع خلايا مكافحة الرشوة والفساد المالي التي استحدثت داخل كل وزارة.
وتتهم جهات المعارضة، الحكومة بالتستر على ملفات فساد تشمل قطاعات واسعة، منها قطاع البترول والطاقة، والجمارك والضرائب والصيد والمصارف.
كما تتحدث منظمات دولية في تقاريرها عن فساد الحكومة الموريتانية، وكانت موريتانيا قد احتلت المرتبة 119 من أصل 177 دولة في مؤشر الفساد لتقرير المنظمة العام الماضي. لكن الحكومة تقول إن هذه التقارير غير دقيقة ومصادر معلوماتها مسيسة.
اقرأ أيضاً:
موريتانيا تتوعد المفسدين بالمحاكمة