تتحفنا وسائل الإعلام بين فينة وأخرى بشذرات ولمحات عن حياة الرفاهية المفرطة التي تنعم بها الشعوب الإسكندنافية. ومؤخرًا قرأت، قيام حكومة الدانمارك بتعيين موظفين مهمتهم الذهاب إلى المنازل لإيقاظ الطلاب المتأخرين عن مدارسهم.
ومع ذلك من المستبعد أن يُذعن الكتّاب في السويد والنرويج وفنلندا والدانمارك لهذا الواقع المخملي ولمستوى الحياة المرتفع الشبيه بالحياة في الجنة، فيكفوا عن نقد السلطة والمجتمع والفرد.
"هنينغ مانكل" أحد أكثر الأدباء السويديين شهرة في أوروبا والعالم، ولعلّ وسائل الإعلام في عام قادم تخبرنا عن نيله جائزة نوبل. بدهيٌ أنه ثري، إذ ربح ثروة من كتابة الروايات البوليسية، لكنه منغمسٌ في قضايا يراها عادلة، ويصبّ اهتمامه فيها؛ كمشاركته عام 2010 مع مجموعة من الناشطين، في سفينة الحرية التي كانت تسعى لكسر الحصار الإسرائيلي على غزة، حاملةً مواد طبية وغذائية. منعتها إسرائيل، وأسفرت المواجهة عن مقتل تسعة عشر مدنيًا، وجرح أكثر من ثلاثين شخصًا، من بينهم مانكل نفسه، فاعتُقل ورُحّل إلى بلاده. لاحقاً نشر كتاباً عن تلك الرحلة وحوادثها، وأدان بوضوح، من دون مواربة، عنف إسرائيل وحصارها للفلسطينيين. كتب مانكل كذلك الكثير من الأعمال الأدبية عن استغلال الأوروبيين لقارة أفريقيا، وركز على مشاكل الأفارقة وعدم مبالاة العالم المتحضّر بمعاناتهم، وتبرّع للمنظمات المعنية بتحسين أوضاع السكان في الموزمبيق بمبلغ ستة عشر مليون كورونة سويدية. هذا لا يعني أن مانكل لا يُولي اهتماماً للقضايا الملحّة في بلاده، إذ إن أوّل أعماله الروائية "الشظية الحجرية" تطرّق إلى مشكلات الحركة النقابية لعمال السويد وواجب التضامن معهم. ليس مانكل حالة استثنائية، وعمومًا يمكن القول إن الكُتّاب الإسكندنافيين تشغلهم قضايا أصيلة، سواء أتعلّقت بمجتمعاتهم أم بمجتمعات أخرى خارج نطاقهم الجغرافي.
فلنأتِ الآن للحديث عن الكاتب العربي الذي يُهمنا أمره أكثر بالطبع، ونذكر أنه قام أحياناً بدوره كما يجب، وأحياناً خيّب الآمال. والخيبة المقصودة هنا، هي عجز الكاتب عن قول الحقيقة من خلال أعماله. ويستفحل هذا العجز لأسباب كثيرة، منها سياسي ومنها اجتماعي بتفرعاته المعروفة.
هذا الكاتب "المُخيّب للآمال" يعي جيداً أنه لا يعيش في دولة ذات نُظُم وقوانين راسخة تضمن له حريته وتتكفّل بحمايته، بل إن كتابته تترعرع في بيئة معادية لكلّ جديد. وهو يتحرّك في وسط يرفض الاختلاف الفكري أو حتى الإبداعي ويقمعه.
اقرأ أيضاً: المُزَيّف
الاستبداد السياسي الغالب في المنطقة العربية يؤدي دوراً في جنوح الكاتب العربي إلى خانة "المُخيّب للآمال". ونحن خسرنا نسبة كبيرة من الكتّاب الموهوبين نتيجة خشيتهم من بطش الأنظمة البوليسية، التي تُصادر كتبهم وتشوّه سمعتهم وتحاكمهم، أو تكسرهم نهائياً في حالات التعذيب أو الاعتقال لفترات طويلة.
التحقيق في النيابة مع طه حسين بسبب كتابه "في الشعر الجاهلي" لم يكسره، ولكنه على الأرجح أوقف سلسلة من الكتب النقدية المفارقة لما تواضَع عليه الأوّلون، وكانت تدور بعقل المؤلف، أو لعلّها كانت تختمر في لاوعيه، إلا أن ذلك التحقيق البوليسي أوقف مغامرة طه حسين الفكرية عند ذاك الحد.
يمكن للرواية أن تُكمل ما بدأه طه حسين، وأن تقوم بحفريات في أعماق العقل العربي، إلا أن هذا محفوف بالمخاطر حالياً، أو يتطلب مجتمعاً منفتحاً ومتسامحاً على غرار المجتمعات الإسكندنافية. أحدهم سيزعم أن الروائي الجيد يستطيع كتابة وقول ما يريد من دون أن يثير حفيظة أحد.. في تقديري الشخصي لن يكون هذا كاتبًا بل بهلوانًا، أصلح مكان له هو السيرك، وأقرب وصف ينطبق عليه "مهرّج".
نعم، صار بمقدور أي أحد كتابة الرواية، لكن أية رواية؟ من حين لآخر تصادفنا رواية عربية نحسّ كاتبها يلبس القفازات لئلا تتلوث أصابعه بالواقع اللزج. قد نقرأ عملاً أدبياً مكتوبًا بحرفية عالية، إلا أنه يُبرّئ المُتسبب في معاناة الآخرين من المسؤولية. هذه هي علامات الروائي "المُخيّب للآمال".
لم يسعَ نجيب محفوظ إلى الإثارة حين نشر روايته "الكرنك". ولم يهدف إلى التصادم عمداً مع معارضيه القوميين لجلب الانتباه إليه، كما يزعم المثرثرون الخبثاء في المقاهي. كل ما فعله، أنه قام بواجبه ككاتب واستجاب لما يمليه عليه ضميره. التعذيب في الحقبة الناصرية وصمة عار لا مجال لإنكارها، ولا شيء يجلب الشعور بالخزي للكاتب أكثر من إذعانه بالصمت.
ومع ذلك من المستبعد أن يُذعن الكتّاب في السويد والنرويج وفنلندا والدانمارك لهذا الواقع المخملي ولمستوى الحياة المرتفع الشبيه بالحياة في الجنة، فيكفوا عن نقد السلطة والمجتمع والفرد.
"هنينغ مانكل" أحد أكثر الأدباء السويديين شهرة في أوروبا والعالم، ولعلّ وسائل الإعلام في عام قادم تخبرنا عن نيله جائزة نوبل. بدهيٌ أنه ثري، إذ ربح ثروة من كتابة الروايات البوليسية، لكنه منغمسٌ في قضايا يراها عادلة، ويصبّ اهتمامه فيها؛ كمشاركته عام 2010 مع مجموعة من الناشطين، في سفينة الحرية التي كانت تسعى لكسر الحصار الإسرائيلي على غزة، حاملةً مواد طبية وغذائية. منعتها إسرائيل، وأسفرت المواجهة عن مقتل تسعة عشر مدنيًا، وجرح أكثر من ثلاثين شخصًا، من بينهم مانكل نفسه، فاعتُقل ورُحّل إلى بلاده. لاحقاً نشر كتاباً عن تلك الرحلة وحوادثها، وأدان بوضوح، من دون مواربة، عنف إسرائيل وحصارها للفلسطينيين. كتب مانكل كذلك الكثير من الأعمال الأدبية عن استغلال الأوروبيين لقارة أفريقيا، وركز على مشاكل الأفارقة وعدم مبالاة العالم المتحضّر بمعاناتهم، وتبرّع للمنظمات المعنية بتحسين أوضاع السكان في الموزمبيق بمبلغ ستة عشر مليون كورونة سويدية. هذا لا يعني أن مانكل لا يُولي اهتماماً للقضايا الملحّة في بلاده، إذ إن أوّل أعماله الروائية "الشظية الحجرية" تطرّق إلى مشكلات الحركة النقابية لعمال السويد وواجب التضامن معهم. ليس مانكل حالة استثنائية، وعمومًا يمكن القول إن الكُتّاب الإسكندنافيين تشغلهم قضايا أصيلة، سواء أتعلّقت بمجتمعاتهم أم بمجتمعات أخرى خارج نطاقهم الجغرافي.
فلنأتِ الآن للحديث عن الكاتب العربي الذي يُهمنا أمره أكثر بالطبع، ونذكر أنه قام أحياناً بدوره كما يجب، وأحياناً خيّب الآمال. والخيبة المقصودة هنا، هي عجز الكاتب عن قول الحقيقة من خلال أعماله. ويستفحل هذا العجز لأسباب كثيرة، منها سياسي ومنها اجتماعي بتفرعاته المعروفة.
هذا الكاتب "المُخيّب للآمال" يعي جيداً أنه لا يعيش في دولة ذات نُظُم وقوانين راسخة تضمن له حريته وتتكفّل بحمايته، بل إن كتابته تترعرع في بيئة معادية لكلّ جديد. وهو يتحرّك في وسط يرفض الاختلاف الفكري أو حتى الإبداعي ويقمعه.
اقرأ أيضاً: المُزَيّف
الاستبداد السياسي الغالب في المنطقة العربية يؤدي دوراً في جنوح الكاتب العربي إلى خانة "المُخيّب للآمال". ونحن خسرنا نسبة كبيرة من الكتّاب الموهوبين نتيجة خشيتهم من بطش الأنظمة البوليسية، التي تُصادر كتبهم وتشوّه سمعتهم وتحاكمهم، أو تكسرهم نهائياً في حالات التعذيب أو الاعتقال لفترات طويلة.
التحقيق في النيابة مع طه حسين بسبب كتابه "في الشعر الجاهلي" لم يكسره، ولكنه على الأرجح أوقف سلسلة من الكتب النقدية المفارقة لما تواضَع عليه الأوّلون، وكانت تدور بعقل المؤلف، أو لعلّها كانت تختمر في لاوعيه، إلا أن ذلك التحقيق البوليسي أوقف مغامرة طه حسين الفكرية عند ذاك الحد.
يمكن للرواية أن تُكمل ما بدأه طه حسين، وأن تقوم بحفريات في أعماق العقل العربي، إلا أن هذا محفوف بالمخاطر حالياً، أو يتطلب مجتمعاً منفتحاً ومتسامحاً على غرار المجتمعات الإسكندنافية. أحدهم سيزعم أن الروائي الجيد يستطيع كتابة وقول ما يريد من دون أن يثير حفيظة أحد.. في تقديري الشخصي لن يكون هذا كاتبًا بل بهلوانًا، أصلح مكان له هو السيرك، وأقرب وصف ينطبق عليه "مهرّج".
نعم، صار بمقدور أي أحد كتابة الرواية، لكن أية رواية؟ من حين لآخر تصادفنا رواية عربية نحسّ كاتبها يلبس القفازات لئلا تتلوث أصابعه بالواقع اللزج. قد نقرأ عملاً أدبياً مكتوبًا بحرفية عالية، إلا أنه يُبرّئ المُتسبب في معاناة الآخرين من المسؤولية. هذه هي علامات الروائي "المُخيّب للآمال".
لم يسعَ نجيب محفوظ إلى الإثارة حين نشر روايته "الكرنك". ولم يهدف إلى التصادم عمداً مع معارضيه القوميين لجلب الانتباه إليه، كما يزعم المثرثرون الخبثاء في المقاهي. كل ما فعله، أنه قام بواجبه ككاتب واستجاب لما يمليه عليه ضميره. التعذيب في الحقبة الناصرية وصمة عار لا مجال لإنكارها، ولا شيء يجلب الشعور بالخزي للكاتب أكثر من إذعانه بالصمت.