الرواية والمثقف العربي

02 أكتوبر 2017
+ الخط -
ينظر إلى الرواية قياساً مع باقي الأشكال الأدبية على أنها تعتبر الأكثر حداثة زمنيا، والأكثر أخذا بكونها شكلاً ثقافياً إشتماليا تدميجيا، شبه موسوعي، وفيها أمران: آلية للحبكة بالغة التقنين ونظام كامل من الإحالة الإجتماعية، يعتمد على مؤسسات المجتمع الطبقوسطي القائمة على سلطتها وقوتها، ولأنها عمل ثقافي كباقي الأعمال الثقافية الأخرى، فهي بمثابة رؤية للحظة ما .
وكما تتوفر الرؤية في أغوار الحاضر بشمولية وموسوعية محبوكة، وذات إحالة إجتماعية، فإنها (الرواية) أيضا تترصد الماضي في أثناء موته البطيء في حاضرنا، فتعمل على إكسابه بعدا موسوعيا يشبع فهم القارئ والباحث، حسب الموضوعية المطروقة، كما تعيد تنظيم الذاكرة الجماعية وتعزيزها والحفاظ عليها.
والرواية، بما أنها نوع (جنس) أدبي، من الصعب بترها عن التاريخ والمجتمع، فبدونهما تفقد كل ميزةٍ من شأنها جعل القارئ والباحث المهتم يولي اهتمامه بها. ولمنح التاريخ فرصة إعادة قراءته بصيغة جديدة، تعيد ترسيخه في الأذهان، كان لا بد من فسح مجال رحب وواسع، وأكثر عطاء لتفصيل جزئياتٍ، تغاضت عنها كتب التاريخ الرسمية، فلم تأخذها من الواقع الحقيقي، واقع شعوبها. عدا ذاك، يحضر دور الرواية ومؤلفها لنفض الغبار المتناثر عن أهم المراحل، كان لها الدور الرئيس في قلب معالم أمة، وفي تغيير أفكارٍ ظنّ أنها لا تتغير ولا تتزعزع، وفي إسقاط أنظمة ظنّ أنها سرمدية لا تزول.
ثم حاولا، المؤلف وروايته، إعادة قراءة تلك الأحداث في سياق استرجاعي، بغية فهم ما نحن عليه، فمثلا يتم جعل الاستعمار وسيلة لفهم الحاضر في الدول الحديثة الاستقلال، ويشهد على وجود مشكلاتٍ حقيقية في الديمقراطية والتنمية. وهذا بالضبط ما تثبته نخبة من المثقفين العرب، آمنت بالأفكار التحرّرية والوعي القومي، حيث رأت أنّ ماضيها القريب يخفي من الأسباب ما هو مرجح على الإجابة عن أسئلةٍ، ولّدتها الأزمات المستعصية التي لحقت بالعالم العربي. ومن هؤلاء المثقفين، الروائي عبد الرحمن منيف، الذي اعتنق أفكاره ومارس نشاطاته، وجلّ ما يعتقد بصحته بعقلانية وشجاعة.
توضحت لنا تلك القناعة جلياً، من خلال تمترس منيف خلف مبادئه بقوة، انعكست في مؤلفاته الإبداعية، لما افتتحت خماسية "مدن الملح" نفسا جديدا على الرواية العربية، يمكن تسميتها "ملحمة روائية"، تنتزع من التاريخ تفاصيل، حاول أكثر من مرة كتمها بركنها في الهامش .
ينطلق عبد الرحمن منيف في الخماسية من صحراء تزّينها واحات ماء ونخيل باسق، يلد كل عام تمرا، وماشية مؤلفة من قطعان ماعز وقوافل جمال. ويسكنها بدو رحل لا يعرفون قرارا ولا استقرارا. ثم يحكي كيف بدأ الناس يجتمعون في مراكز عمالية، ظهرت فيها تباعاً مناطق تجارية وشركات لغرباء عن البلاد.
وهنا عين الرحى، فقد كان لا بدّ من قوة من أهل الارض الأصلانين، تنوب عن الأميركان والإنكليز وتحمي مصالحهم، كما تنصاع إليها جميع القبائل الثائرة والمتمردة، ولكي يتسنى لهم ذلك، لم يتوقفوا عند هذا الحد، بل تم تسخير جهود بشرية في ميدان المعرفة، لكشف الغموض الذي يلف منطقة العرب، حتى إذا تماثل لهم توسيع مصالحهم وحمايتها بواسطة حاكم منهم، بدأوا تنفيذ خططهم الرامية إلى إخراج الذهب الأسود أو البترول من جوف الصحراء أولا، ثم تثبيت سلطتهم عليها ثانيا.
ثورة عارمة تلك، قلبت معالم المنطقة ونمط عيش أهلها جذريا، فبحث منيف عن بطل متعدد، غير ثابت بين القوى الفاعلة في الأحداث طوال فصول الرواية .
شخصية يقول عنها منيف، تظل تجري كالنهر، تتفرع عنه فروع وتصب في فروع من أنهر أخرى. ويلاحظ الروائي أنّ شعبية البطل الفردي تراجعت، إذ أصبح البطل الفرد أقل إغراء.. أما في الرواية العربية، فيجب أن تستلهم موروثا، وأن تمدّ جذورا، وأن تكتسب طرائق وصيغ من الأرض ومن الناس، وأن تتوجه إليهم في الوقت نفسه.
2196ADF1-70E0-44DB-B9ED-659A5C5D7609
2196ADF1-70E0-44DB-B9ED-659A5C5D7609
سيدي بويه ماءالعينين (المغرب)
سيدي بويه ماءالعينين (المغرب)