31 أكتوبر 2024
الريف المغربي.. إصلاح التاريخ وتأهيل المجال
ليس هناك تاريخٌ مطلقٌ خالٍ من التعثرات والأخطاء، وليس هناك أمة متعالية عن التاريخ والمجال، أو مفصولةٌ عن مكوناتها الاجتماعية والثقافية ومقوماتها الاقتصادية. وهذا ينسحب على المغرب، دولة ومجتمعا، لأن العلاقة لم تكن دائما مبنيةً على الثقة والاطمئنان المطلق، بل كانت هناك فترات حرجة ومراحل متوترة، اختلطت فيها الأوراق، وتداخلت الأسباب والمسببات وتعددت الروايات، مثلما حصل بالنسبة لأحداث 1958 في الريف، وهي أحداث استغلت بكيفيةٍ انتهازيةٍ وماكرةٍ، لتهميش المنطقة وتطويقها بكل أشكال اللامبالاة والإهمال. وعلى الرغم من تباين التفسيرات والقراءات، والتباس الرؤى والمواقف، حيال هذا المنعطف المفصلي من تاريخ المنطقة، وتاريخ المغرب المعاصر عموما، فإنه كان من الممكن الشروع مبكرا في تضميد الجراح، وتطهير الذاكرة التاريخية والوطنية والمحلية من لحظات سوداء ومشاهد مأساوية. كما كان في مقدور الدولة أن تتخلص من اللعنة الوهمية للريف المتمرّد وشبح عبد الكريم الخطابي، الثائر الذي يزعج، وإن كان رفاتا يرقد في مقبرة الشهداء في القاهرة، والذي استخدم بشكل سلبي سلاحا لقمع الإنسان والمجال، علما أن الريف المغربي لم يشكل في أي يوم حالة جغرافية شاذة، ولا أعلن تمردا بالمعنى الانفصالي للكلمة، ولا خطرت ببال أبنائه وبناته فكرة طعن الوحدة الوطنية من الخلف، على الرغم من أن بعض الأحداث العابرة والمعزولة يمكن أن تؤول، وتوضع في سياقٍ مخالفٍ لمفهوم ومبدأ استقرار النظام السياسي.
لم يكن المجاهد عبد الكريم الخطابي، برمزيته ودلالته الكفاحية، غولا ولا شبحا من شأنه أن يزلزل البلاد، ويفكّك وحدتها. كل ما فعله، وفي ظرفية تاريخية، كانت مطبوعة بتصاعد
الظاهرة الاستعمارية وهيمنتها، هو أنه واجه بشراسةٍ ورباطة جأش قوات الاحتلال الإسبانية، معتمدا على جغرافية المنطقة وولاء قبائلها وصلابة رجالها الذين لولا تكالب الاستعمار الفرنسي وتواطؤه، لدمروا الجيش الإسباني الذي ألحقت به هزيمة قاسية، ما زالت قائمة في ذاكرة الإسبان، حيث لم تُمح آثارها. والكل يعرف أن المغرب، في تلك المرحلة، كان مفتتا، وكان لقمة في أفواه القوى الاستعمارية. وتبعا لذلك، يمكن فهم (وتبرير) الدواعي التي دفعت عبد الكريم الخطابي إلى الإعلان عن قيام جمهورية الريف، لكنها لم تكن تحدوها نزوعات انفصالية، بل كانت تطمح إلى قيادة الكفاح ضد الاستعمار الأجنبي، وتحصين الريف من الأطماع التوسعية لهذه القوى، بيد أن إعلان النيات، والكشف عن الأهداف الحقيقية والنبيلة لمشروع عبد الكريم الخطابي، لم يكن كافيا لتبرئة ساحة زعيم وطني وكوني، ولم يكن مقنعا لتخليص عدد من الروايات من انحرافاتٍ سقطت فيها. وهكذا نسجت عن الرجل أساطير كثيرة وأقاويل مغرضة، وحورب حضوره، جزءاً من تاريخ المغرب وذاكرته، ومنع في سنوات الجمر والرصاص من التداول في وسائل الإعلام الرسمية.
أعطيت تعليلات وتفسيرات كثيرة للأحداث التي شهدتها منطقة الريف المغربية، والحسيمة تحديدا، ولمشروع عبد الكريم الخطابي، تحكمت فيها دوافع وخلفيات غير وطنية وغير بريئة، وراءها مهندسون تخصصوا مبكرا في إشعال الفتن وزرع البلبلة وتجريم السكان. والأخطر إقناع الدولة بمصداقية ما قدّم ويقدّم لها من روايات ومعطيات ومعلومات وصحته. أما الآن، وقد قرّر المغرب الانخراط في ورش كبير لترميم تاريخه وتنقيته من الطفيليات وعناصر التشويش الضارة، وتخليص ذاكرته من المناطق الرمادية، وآثار الأحداث المؤلمة، لم تعد هناك فرصة للافتراء وفبركة التهم غير المستندة على أدلة وقرائن، وإلصاق نعوت حاطة من الكرامة، ومخونة سكان الريف، أو فرض حصار على رموز المنطقة، أو إشاعة صور نمطية تشتمل على جرعة عالية من الشك والاحتراز وعدم الثقة في الإنسان الريفي.
الريف جزء من المغرب، ومصدر إثراء تاريخي وجغرافي وثقافي واجتماعي واقتصادي له.
وذاكرة الريف، وإنْ تعاني من صور قاتمة ومرعبة، فإنها قادرة على طي الجراح، وكذا صفحات عدم الثقة تجاه مؤسسات وفاعلين. وفي المقابل، الاندماج في مصالحة عميقة وشاملة ومفصلية، بأجندة محدّدة وجدولة زمنية واضحة، ومدعومة بمخطط تنموي استعجالي بأولوياتٍ متفقٍ عليها بين مختلف المتدخلين والمؤسسات المنتخبة والنشطاء الذين خرجوا شهوراً، للدفاع عن حقوق اجتماعية واقتصادية وثقافية. ليكون مصدر إغناء لمخطط مشروع الحسيمة، منارة المتوسط الذي تراهن عليه الحكومة ومجلس جهة طنجة – تطوان الحسيمة، لإحداث طفرة تنموية غير مسبوقة في المنطقة.
ونظرا إلى دقة المرحلة وخصوصية تاريخ المنطقة وجغرافيتها، يفضّل فاعلون، وجزء كبير من السكان، أن تسهر على تنفيذ أهداف هذا المخطط ومشاريعه لجنة مشهود لها بالنزاهة والكفاءة والاستقامة، والبعد عن أي حساباتٍ سياسوية، وتكون تابعة مباشرة إلى المؤسسة الملكية. ويرى حكماء وعقلاء في المنطقة، وباقي مناطق المغرب، أن التزام الدولة والحكومة ونشطاء حراك الريف وممثلي السكان والفاعلين السياسيين ومختلف الوسطاء بهذا الاختيار الوطني والحضاري هو المدخل الفعلي والجدي لبناء ثقة دائمة بين كل الأطراف، وهو الخطوة الجريئة على طريق إرساء دعائم الدولة الديمقراطية والعقلانية والمواطنة التي تتفاعل وتتواصل مع مواطنيها في شتى مناطق المغرب، وتتعامل معهم من دون خلفيات.
غير أن المفتاح الأساسي لأي مصالحة تنقذ ما بذل على امتداد حوالي عقدين من حكم الملك محمد السادس، لبناء الثقة مع منطقة الريف، والانتصار على جزء محتقن ومتعفن من تاريخ المنطقة، وتحصين المكتسبات النفسية والنفيسة التي تحققت، يمران عبر إصلاح شامل لتاريخ المنطقة، وعبر استئصال الأورام التي حالت دون حدوث تحول نوعيٍّ وملموسٍ في العقل والمجال، وعبر اعتماد خيار الانفراج والإفراج، لأنهما مرتبطان عضويا، ومتلازمان، ولا يمكن الفصل بينهما، فلا يمكن أن يتحقق الانفراج إلا بالإفراج عن معتقلي الحركة الاحتجاجية في الريف. وهذا ما تتقاسمه منظمات حقوقية ومدنية وقوى سياسية ونقابية ومثقفون ومواطنون عاديون، خصوصا إذا علمنا أن الحكومة والأحزاب، ومختلف الفاعلين الحقوقيين والمدنيين، ومؤسسات الحكامة المنصوص عليها في الدستور المغربي، كلها تجمع على مشروعية (ووجاهة) المطالب التي يتظاهر سكان الريف من أجل تحقيقها منذ أكثر من سبعة شهور، وتعلو النداءات، من مختلف الآفاق، داعية جميع الأطراف إلى بذل كل المساعي والجهود، لتجنيب البلاد ردة ديمقراطية ومؤسساتية، أو فتنة، إذا لم تؤخذ الأمور على محمل الجد.
لم يكن المجاهد عبد الكريم الخطابي، برمزيته ودلالته الكفاحية، غولا ولا شبحا من شأنه أن يزلزل البلاد، ويفكّك وحدتها. كل ما فعله، وفي ظرفية تاريخية، كانت مطبوعة بتصاعد
أعطيت تعليلات وتفسيرات كثيرة للأحداث التي شهدتها منطقة الريف المغربية، والحسيمة تحديدا، ولمشروع عبد الكريم الخطابي، تحكمت فيها دوافع وخلفيات غير وطنية وغير بريئة، وراءها مهندسون تخصصوا مبكرا في إشعال الفتن وزرع البلبلة وتجريم السكان. والأخطر إقناع الدولة بمصداقية ما قدّم ويقدّم لها من روايات ومعطيات ومعلومات وصحته. أما الآن، وقد قرّر المغرب الانخراط في ورش كبير لترميم تاريخه وتنقيته من الطفيليات وعناصر التشويش الضارة، وتخليص ذاكرته من المناطق الرمادية، وآثار الأحداث المؤلمة، لم تعد هناك فرصة للافتراء وفبركة التهم غير المستندة على أدلة وقرائن، وإلصاق نعوت حاطة من الكرامة، ومخونة سكان الريف، أو فرض حصار على رموز المنطقة، أو إشاعة صور نمطية تشتمل على جرعة عالية من الشك والاحتراز وعدم الثقة في الإنسان الريفي.
الريف جزء من المغرب، ومصدر إثراء تاريخي وجغرافي وثقافي واجتماعي واقتصادي له.
ونظرا إلى دقة المرحلة وخصوصية تاريخ المنطقة وجغرافيتها، يفضّل فاعلون، وجزء كبير من السكان، أن تسهر على تنفيذ أهداف هذا المخطط ومشاريعه لجنة مشهود لها بالنزاهة والكفاءة والاستقامة، والبعد عن أي حساباتٍ سياسوية، وتكون تابعة مباشرة إلى المؤسسة الملكية. ويرى حكماء وعقلاء في المنطقة، وباقي مناطق المغرب، أن التزام الدولة والحكومة ونشطاء حراك الريف وممثلي السكان والفاعلين السياسيين ومختلف الوسطاء بهذا الاختيار الوطني والحضاري هو المدخل الفعلي والجدي لبناء ثقة دائمة بين كل الأطراف، وهو الخطوة الجريئة على طريق إرساء دعائم الدولة الديمقراطية والعقلانية والمواطنة التي تتفاعل وتتواصل مع مواطنيها في شتى مناطق المغرب، وتتعامل معهم من دون خلفيات.
غير أن المفتاح الأساسي لأي مصالحة تنقذ ما بذل على امتداد حوالي عقدين من حكم الملك محمد السادس، لبناء الثقة مع منطقة الريف، والانتصار على جزء محتقن ومتعفن من تاريخ المنطقة، وتحصين المكتسبات النفسية والنفيسة التي تحققت، يمران عبر إصلاح شامل لتاريخ المنطقة، وعبر استئصال الأورام التي حالت دون حدوث تحول نوعيٍّ وملموسٍ في العقل والمجال، وعبر اعتماد خيار الانفراج والإفراج، لأنهما مرتبطان عضويا، ومتلازمان، ولا يمكن الفصل بينهما، فلا يمكن أن يتحقق الانفراج إلا بالإفراج عن معتقلي الحركة الاحتجاجية في الريف. وهذا ما تتقاسمه منظمات حقوقية ومدنية وقوى سياسية ونقابية ومثقفون ومواطنون عاديون، خصوصا إذا علمنا أن الحكومة والأحزاب، ومختلف الفاعلين الحقوقيين والمدنيين، ومؤسسات الحكامة المنصوص عليها في الدستور المغربي، كلها تجمع على مشروعية (ووجاهة) المطالب التي يتظاهر سكان الريف من أجل تحقيقها منذ أكثر من سبعة شهور، وتعلو النداءات، من مختلف الآفاق، داعية جميع الأطراف إلى بذل كل المساعي والجهود، لتجنيب البلاد ردة ديمقراطية ومؤسساتية، أو فتنة، إذا لم تؤخذ الأمور على محمل الجد.