أتذكّر تلك الأيّام كما لو أنّها بالأمس. أكثر من ربع قرن مرّ. لم تتغيّر هي، لكن نحن تغيّرنا. تغيّرنا كثيراً. لم تفارق القرية وحقولها، لكننّا تجرّأنا وفعلنا. حزمنا حقائبنا ذات صباح انتظرناه بفارغ الصبر. ومضينا، بحثاً عمّا اعتبرناه مستقبلاً جديداً.
هي لم تبارح مكانها قط، تُراكم مستقبلها على ماضيها، يزيد الزمن عروقها وجذورها قوّة. تتشبّث أكثر بجذورها. أما نحن فحائرون تائهون. لا القرية أشبعت أحلامنا، ولا المدينة روتها. محكومون للأبد، بلعنة الانتقال إلى وظيفة أفضل، وحياة أفضل وبلد أفضل.
كلّما عدت إلى بلدتي الصغيرة المنسيّة تحت سفح جبل الشيخ، نظرت إلى حقولها المترامية المحيطة بنا من كلّ الجهات مع غصّة، وشعرت بعبء تعب متراكم على كاهل قبيلة بأكملها. فيها، أفنى والد جدي وإخوته أعمارهم.
وفيها، أمضى جدّي أكثر من ثلثَي عمره. اثنان من أعمامي أمضيا طفولتهما فيها، قبل أن تخطف الغربة أحدهما، ثم الشقيقَين الأصغرَين. أياديهم الصغيرة قلّبت أحجارها وشذّبت أغصانها مراراً وتكراراً.
ومثلهم فعل والدي، الشقيق الخامس في أسرة من خمسة شبّان وصبيّة. خطفت والدي وظيفة مبكرة، بعدما خطفت وظيفة أخرى الشقيق الثاني الأكبر. لم تتأخر الغربة كثيراً. عادت مجدداً وحملت جدّي وجدّتي. انقسمت العائلة، ثلاثة أولاد هناك وثلاثة هنا.
أما هي فلم تتبدّل. ترعرع صغارها أمام ناظرَيها. لم تحنِها العواصف ولا الحروب. أشجار الزيتون مكانها يا جدّي، ومواسمها لم تتغيّر. تبخل علينا بموسم، ثم يفيض كرمها في الموسم اللاحق. الخوابي الكبيرة في مكانها، لكنّ عدد البراميل البلاستيكيّة بات أكبر بكثير.
لم يعد أفراد الأسرة هم من يقطفون مواسم الخير، كل منّا مشغول بوظيفته وهمومه. بات جيلنا متعباً يا جدّي. نولد متعبين ونعيش متعبين ونموت متعبين.
عمال نزحوا من بلادهم بفعل الحرب يعاونوننا في القطاف اليوم. لا تتحمّل أيادينا شقوقاً، ولم نعد نحتمل رؤية سواد الزيتون تحت أظافرنا. باتت آلات حديثة تعاوننا. يقولون إنّها تقطف في اليوم الواحد أكثر مما يفعل عاملان.
حتّى في قطاف الزيتون، الماكينات تزاحمنا. بات التوجّه إلى القرية في موسم الزيتون رحلة استجمام يا جدّي. نراقب العمّال ونشتري لهم الفواكه والبسكويت والراحة امتناناً.
لم نعد أطفالاً نُمسك علب الحليب الفارغة، لنملأها حبّات زيتون غدرت بنا وتساقطت، قبل بدء القطاف.
تخلينا عن الزيتون يا جدّي، لكنّه لم يتخلّ عنا بعد. مواسمه خيّرة وزيته أصفر كالذهب. وحدها بعض أشجارٍ تحسدُ البحر، لأننا بتنا أكثر تعلقاً به من تعلقنا بها.
هي لم تبارح مكانها قط، تُراكم مستقبلها على ماضيها، يزيد الزمن عروقها وجذورها قوّة. تتشبّث أكثر بجذورها. أما نحن فحائرون تائهون. لا القرية أشبعت أحلامنا، ولا المدينة روتها. محكومون للأبد، بلعنة الانتقال إلى وظيفة أفضل، وحياة أفضل وبلد أفضل.
كلّما عدت إلى بلدتي الصغيرة المنسيّة تحت سفح جبل الشيخ، نظرت إلى حقولها المترامية المحيطة بنا من كلّ الجهات مع غصّة، وشعرت بعبء تعب متراكم على كاهل قبيلة بأكملها. فيها، أفنى والد جدي وإخوته أعمارهم.
وفيها، أمضى جدّي أكثر من ثلثَي عمره. اثنان من أعمامي أمضيا طفولتهما فيها، قبل أن تخطف الغربة أحدهما، ثم الشقيقَين الأصغرَين. أياديهم الصغيرة قلّبت أحجارها وشذّبت أغصانها مراراً وتكراراً.
ومثلهم فعل والدي، الشقيق الخامس في أسرة من خمسة شبّان وصبيّة. خطفت والدي وظيفة مبكرة، بعدما خطفت وظيفة أخرى الشقيق الثاني الأكبر. لم تتأخر الغربة كثيراً. عادت مجدداً وحملت جدّي وجدّتي. انقسمت العائلة، ثلاثة أولاد هناك وثلاثة هنا.
أما هي فلم تتبدّل. ترعرع صغارها أمام ناظرَيها. لم تحنِها العواصف ولا الحروب. أشجار الزيتون مكانها يا جدّي، ومواسمها لم تتغيّر. تبخل علينا بموسم، ثم يفيض كرمها في الموسم اللاحق. الخوابي الكبيرة في مكانها، لكنّ عدد البراميل البلاستيكيّة بات أكبر بكثير.
لم يعد أفراد الأسرة هم من يقطفون مواسم الخير، كل منّا مشغول بوظيفته وهمومه. بات جيلنا متعباً يا جدّي. نولد متعبين ونعيش متعبين ونموت متعبين.
عمال نزحوا من بلادهم بفعل الحرب يعاونوننا في القطاف اليوم. لا تتحمّل أيادينا شقوقاً، ولم نعد نحتمل رؤية سواد الزيتون تحت أظافرنا. باتت آلات حديثة تعاوننا. يقولون إنّها تقطف في اليوم الواحد أكثر مما يفعل عاملان.
حتّى في قطاف الزيتون، الماكينات تزاحمنا. بات التوجّه إلى القرية في موسم الزيتون رحلة استجمام يا جدّي. نراقب العمّال ونشتري لهم الفواكه والبسكويت والراحة امتناناً.
لم نعد أطفالاً نُمسك علب الحليب الفارغة، لنملأها حبّات زيتون غدرت بنا وتساقطت، قبل بدء القطاف.
تخلينا عن الزيتون يا جدّي، لكنّه لم يتخلّ عنا بعد. مواسمه خيّرة وزيته أصفر كالذهب. وحدها بعض أشجارٍ تحسدُ البحر، لأننا بتنا أكثر تعلقاً به من تعلقنا بها.