ما زال الرهان على المطولات السينمائية التي تحتفي بالعاديات اليومية قائماً على ما يبدو، وما زال المسرح يتمتع بسطوته الأبوية على حياة بقية أفراد عائلة الفنون التي خرجت من عباءته. وما فوز المخرج السينمائي التركي نوري بليجي جيلان (أمس) بسعفة "كان" في دورته الأخيرة عن فيلمه "سبات شتوي" سوى دليل ذهبي جديد يضيفه أصحاب هذه النظرية إلى خزانتهم المترعة أصلاً بنماذج مشابهة من السينما الفرنسية، والإيرانية، واللاتينية.
فلجنة تحكيم الدورة السابعة والستين من المونديال السينمائي الفرنسي هذه السنة، والتي ترأستها النيوزلندية جون كامبيون، لم تستطع الإفلات من إغراء وضع الإكليل الذهبي على هامة التركي الخمسيني، رغم أنّه كان من زوار آل بيت الكروازيت المواظبين خلال الثماني سنوات الأخيرة، حاملاً هداياه المصورة إلى مريدي الشاشة الكبيرة من خلال "بعيد" (2003)، و"ثلاثة قردة" (2008)، و"حدث ذات مرة في الأناضول" في 2011 (الجائزة الكبرى وأفضل إخراج ثم الكبرى مجدداً).
اللجنة فضّلت أن تجعل المفاجأة في مكان آخر، بعد أن طلبت من مخرجَين اثنين تفصل بينهما في العمر والخبرة (ليس في الإبداع على حال) ستة عقود، أن يقفا سوية ليتشاطرا "جائزة لجنة التحكيم الخاصة"، وهما العراب الفرنسي/السويسري جان لوك غودار (1930) عن شريطه "موت اللغة"، والشاب الكندي كازافييه دولان (1989) عن فيلمه "مومي".
"نعاس الشتاء"، أم "نوم شتائي" ، أم "سبات شتوي" (بحسب الترجمات العربية المتضاربة دائماً)، لا يهمّ. ما هو مهم حقاً أنّ جيلان لم يكن على عجلة من أمره لمغادرة الشواطئ الفرنسية كأقرانه للإدلاء بصوته في الانتخابات الأوروبية. فتركيا لم تدخل بعد الاتحاد الأوروبي، لكنّ أحداً لن يجرؤ على أن ينكر على الأتراك تصويت الذوّاقة السينمائيين لهم للمرة الثانية، بعد يلماز غوني (من أصل كردي) وفيلمه "الطريق" عام 1982، ليكونوا على إحدى أعلى القمم السينمائية الأوروبية.
جيلان مصور فوتوغرافي صبور، ومتأن، وتلميذ متفان لمدرسة السرد الروسية التي فتحت لعقود فصولاً مكرسة للواقعية التي يستثقل ظلها بعض النقاد، فيما يرى آخرون فيها الطريقة المثلى لطبع الصورة القاسية لصراع طبقات هذا العالم على القماش الأبيض العريض، ودعوة الناس للجلوس وتأمل الألم في الوقت الحقيقي لحدوثه.
الصراع هذه المرة في بلد المخرج، تركيا، والفيلم ذو الساعات الثلاث (و16 دقيقة) لن يثير طوله اعتراض معلمه أنطون بافلوفتش تشيخوف. أما الضيعة الجبلية المنسية، إلا من سواح الاستشراق، فمكان طبيعي ملائم ليُخرج البشر مكنونات صدورهم، الملون منها، والأسود. وهذا بالضبط ما يقوم به بطله "آيدن".
فالممثل المتقاعد (يلعب دوره هايوك بيلجنر) الذي قرر دخول عالم الأعمال عبر إدارته فندقاً صغيراً، لم يخرج تماماً من هوسه المثقفاتي، إذ يلجأ منذ البداية إلى استعارات شكسبيرية لحياته القادمة، ليطلق بجرأة على نزله اسم "عطيل". وهو اسم لن يدرك معانيه الملتبسة بسهولة أولئك السكان المحليون "البسطاء" من حوله. الأمر الذي يدلل، من جهة أخرى، على أنّ الرجل لم يسقط بعيداً كفاية عن شجرة عائلته الإقطا/برجوازية التي تمتلك أراض شاسعة وعقارات عديدة في المنطقة.
تلتقط هذا التناقض، بضجر، الزوجة الشابة (الممثلة ميليسا سوزان) بعد مشادات كلامية مع زوجها على خلفية حادثة تتلخص في النهاية بطفل يقرر، وهو يلعب، أن يرمي بحجر على سيارة الكاتب العاكف، في مكان آخر، على أرشفة تاريخ المسرح التركي، وإرسال المقالات إلى مجلة محلية لم يسمع بها أحد.
إذ تثور ثائرة "آيدن"، علماً أن الانتهاك ليس كبيراً بمقاييس إسطنبول، لكنه كذلك في تلك القرية القابعة على طرف جبل على هامش العالم. ويصل الأمر بذوي الطفل إلى الطلب من "المتهم" الصغير طأطأة رأسه وتقبيل يد "السيد".
مشهد من الفيلم الفائز |
وفي الوقت الذي ستتطور فيه الأحداث لتصل إلى تلك النقطة؛ يتيح المخرج لشخصيته الرئيسية المفصومة أن تتلو برتابة مثالياتها الطوباوية، إمّا مع الأخت "نجلاء" التي بالكاد خرجت من تجربة زواج مريرة (الممثلة ديميت أكباج)، عن فلسفة العامود الصحفي الذي لا يقرؤه أحد؛ أو مع سائح أجنبي حول كذبة وجود قطعان كبيرة من الخيول في المنطقة، التي تروّج لها بطريقة ما صفحة الفندق الدعائية على الإنترنت.
لا إطلاق للرصاص، ولا مطاردات مميتة بالسيارات على منعرجات الدروب الصاعدة الوعرة. فقط خواء إنساني، ومُثُلٌ أسيرة فهارس الكتب، والخطب العصماء.
سيجرّ العمّ ابن أخيه الصغير في رحلة ثلجية مضنية إلى منزل المثقف المالك الذي يرفض "مبدئياً" فكرة تقبيل اليد، لكنه يمدها، مع ذلك، أمام الشفتين المرتجفتين للصغير الذي شاهد الشرطة من قبل وهي تهين والده الكحولي وتصادر تلفزيونه بعد عجزه عن تسديد نقود أجرة المنزل لـ"آيدن"، وسرعان ما يخرّ الصبي مغشياً عليه.
أمّا الزوجة، فستنخرط في مشروع خيري لمساعدة أسرة الطفل المذنب، وبالطبع سيتبرع "آيدن" بمبلغ من المال لهذا المشروع، بشيزوفرينية تكفيرية، لكن العائلة الفقيرة تلقي بالنقود في موقد الحطب في لحظة صفاء ومكاشفة مع الذات، وذلك الآخر.