30 أكتوبر 2024
السعودية وسؤال البقاء
لا بد للمطّلع على تاريخ الدولة السعودية الثالثة (أنشأها الملك عبد العزيز عام 1932)، أن يلاحظ مدى سيطرة هاجس انهيار الدولتين السابقتين (الأولى 1744- 1818 والثانية 1824-1891) عليها. تعلّم السعوديون من خسارتهم في المرة الأولى أمام قوةٍ إقليميةٍ هي مصر في عهد محمد علي باشا، وفي الثانية أمام أمراء حائل من آل رشيد، أمرين أساسيين: كيفية البقاء في بيئة إقليمية ودولية مضطربة، بالاستفادة من التناقضات الموجودة فيها، وعدم السماح ببروز قوة إقليمية، يمكن أن تمثل تهديداً بالنسبة لهم. وقد تمكّنت الدولة السعودية الثالثة من تحقيق هذين الهدفين دائماً، عبر جعل بقائها حاجة دولية، خصوصاً مع تحولها إلى أكبر مصدر للنفط في العالم، ومن خلال جعل مصالحها مرتبطة عضوياً بمصالح الولايات المتحدة.
خلال الحرب الباردة، كانت السعودية رديفاً أساسياً للسياسة الأميركية، وأسهمت فعلياً في إسقاط الاتحاد السوفييتي، سواء عبر استنزافه في أفغانستان، أو عبر إغراق الأسواق بالنفط (حجر الزاوية في الاقتصاد السوفييتي) ابتداءً من عام 1986. كما أدّت دوراً أساسياً في احتواء المدّ القومي العربي في سورية (1958- 1961)، وفي اليمن (1962- 1967). وبعد أحداث "11 سبتمبر" في 2001، جعلت السعودية نفسها مرة أخرى جزءاً من الحرب الأميركية، هذه المرة، ضد التيارات الإسلامية التي كانت (السعودية) قد أسهمت في تصعيدها خلال الحرب الباردة، في سياق مواجهة الشيوعية والقومية العربية. بمثل هذه الاستراتيجيات والأدوار، تمكّن السعوديون، دون غيرهم، من البقاء في وجه التحديات. ويعدّ السعوديون بهذا المعنى الناجين الوحيدين من بين كل الأسر والعائلات التي حكمت في دول المنطقة الرئيسة، ففي 1923 انتهى ملك آل عثمان بإعلان أتاتورك الجمهورية التركية، وفي 1952 سقط الملك فاروق في مصر ليكون آخر ملوك عائلة محمد علي باشا، وفي 1958 سقط الهاشميون في العراق، (وقبل ذلك في سورية) ونُكّل بهم. وفي 1962 سقط محمد البدر آخر الأئمة الزيديين في عائلةٍ حكمت اليمن أكثر من ألف عام. وفي 1979 سقط الشاه محمد رضا آخر ملوك العائلة البهلوية في إيران.
كما تمكّن السعوديون من استثمار الظروف والتناقضات المحيطة بهم، في تحييد أكثر القوى الإقليمية التي مثلت خطراً عليهم، فتم استنزاف مصر في اليمن، قبل أن يتم تحطيمها كقوة إقليمية كبرى في حرب يونيو/ حزيران 1967. أما إيران التي غدت، بعد ثورتها عام 1979، تمثل تهديداً للسعودية، فقد تم تحجيمها من خلال الحرب مع العراق، ثم عبر "الاحتواء المزدوج" الذي مارسته عليها واشنطن في التسعينيات. العراق بدوره تم احتواؤه بعد حرب الكويت، قبل أن تخرجه واشنطن نهائياً من المعادلة الإقليمية بغزوه عام 2003، وكانت السعودية قد تحالفت مع شاه إيران لاحتواء العراق بين عامي 1968 و1975. سورية واليمن خرجا أيضاً من المعادلات الإقليمية بعد انتفاضات الربيع العربي. ويشكو الأتراك الآن من محاولاتٍ سعوديةٍ تستهدف إضعافهم، وهناك تيار سعودي يدعو علناً إلى دعم طموحات الاستقلال الكردية، لتفتيت الرباعي: تركيا، إيران، العراق، وسورية.
مختصر الحديث، أن الدولة السعودية الثالثة تمكّنت من مواجهة كل التحديات الخارجية التي عصفت بها منذ نشأتها، وإن كان الثمن تقويض أسس النظام الإقليمي وتدمير أركانه. ولكن الظروف توشك أن تتغير، بفعل عاملين رئيسيين: أن صدوعاً كبيرة بدأت تظهر على العلاقات مع أميركا على مستوى المؤسسة، ساعد الرهان على ترامب في تعميقها، وأن العلاقة مع الحليف الخارجي تهتز، في الوقت الذي تتفكّك فيه التحالفات الداخلية التقليدية التي قام عليها بيت الحكم السعودي، مع تنامي صعوبة تأمين الرّيع المطلوب لإدامة السيطرة على المجتمع، الذي يزداد تعليماً وشباباً. وتشكل هذه الثنائية اليوم الخطر الأكبر على مُلك آل سعود، لن تنفع في مواجهتها استراتيجيات البقاء القديمة. وليس هناك من سبيلٍ للنجاة إلا بالتحول من الاعتماد على الخارج إلى الرهان على الداخل، عبر انفتاح سياسي حقيقي، وإصلاحات جوهرية، تشرك الشعب في السلطة والثروة، وتمهد السبيل نحو ملكية دستورية، وإلا فإن الدولة الثالثة قد لا تتمكّن من تلافي مصير أختيها.
خلال الحرب الباردة، كانت السعودية رديفاً أساسياً للسياسة الأميركية، وأسهمت فعلياً في إسقاط الاتحاد السوفييتي، سواء عبر استنزافه في أفغانستان، أو عبر إغراق الأسواق بالنفط (حجر الزاوية في الاقتصاد السوفييتي) ابتداءً من عام 1986. كما أدّت دوراً أساسياً في احتواء المدّ القومي العربي في سورية (1958- 1961)، وفي اليمن (1962- 1967). وبعد أحداث "11 سبتمبر" في 2001، جعلت السعودية نفسها مرة أخرى جزءاً من الحرب الأميركية، هذه المرة، ضد التيارات الإسلامية التي كانت (السعودية) قد أسهمت في تصعيدها خلال الحرب الباردة، في سياق مواجهة الشيوعية والقومية العربية. بمثل هذه الاستراتيجيات والأدوار، تمكّن السعوديون، دون غيرهم، من البقاء في وجه التحديات. ويعدّ السعوديون بهذا المعنى الناجين الوحيدين من بين كل الأسر والعائلات التي حكمت في دول المنطقة الرئيسة، ففي 1923 انتهى ملك آل عثمان بإعلان أتاتورك الجمهورية التركية، وفي 1952 سقط الملك فاروق في مصر ليكون آخر ملوك عائلة محمد علي باشا، وفي 1958 سقط الهاشميون في العراق، (وقبل ذلك في سورية) ونُكّل بهم. وفي 1962 سقط محمد البدر آخر الأئمة الزيديين في عائلةٍ حكمت اليمن أكثر من ألف عام. وفي 1979 سقط الشاه محمد رضا آخر ملوك العائلة البهلوية في إيران.
كما تمكّن السعوديون من استثمار الظروف والتناقضات المحيطة بهم، في تحييد أكثر القوى الإقليمية التي مثلت خطراً عليهم، فتم استنزاف مصر في اليمن، قبل أن يتم تحطيمها كقوة إقليمية كبرى في حرب يونيو/ حزيران 1967. أما إيران التي غدت، بعد ثورتها عام 1979، تمثل تهديداً للسعودية، فقد تم تحجيمها من خلال الحرب مع العراق، ثم عبر "الاحتواء المزدوج" الذي مارسته عليها واشنطن في التسعينيات. العراق بدوره تم احتواؤه بعد حرب الكويت، قبل أن تخرجه واشنطن نهائياً من المعادلة الإقليمية بغزوه عام 2003، وكانت السعودية قد تحالفت مع شاه إيران لاحتواء العراق بين عامي 1968 و1975. سورية واليمن خرجا أيضاً من المعادلات الإقليمية بعد انتفاضات الربيع العربي. ويشكو الأتراك الآن من محاولاتٍ سعوديةٍ تستهدف إضعافهم، وهناك تيار سعودي يدعو علناً إلى دعم طموحات الاستقلال الكردية، لتفتيت الرباعي: تركيا، إيران، العراق، وسورية.
مختصر الحديث، أن الدولة السعودية الثالثة تمكّنت من مواجهة كل التحديات الخارجية التي عصفت بها منذ نشأتها، وإن كان الثمن تقويض أسس النظام الإقليمي وتدمير أركانه. ولكن الظروف توشك أن تتغير، بفعل عاملين رئيسيين: أن صدوعاً كبيرة بدأت تظهر على العلاقات مع أميركا على مستوى المؤسسة، ساعد الرهان على ترامب في تعميقها، وأن العلاقة مع الحليف الخارجي تهتز، في الوقت الذي تتفكّك فيه التحالفات الداخلية التقليدية التي قام عليها بيت الحكم السعودي، مع تنامي صعوبة تأمين الرّيع المطلوب لإدامة السيطرة على المجتمع، الذي يزداد تعليماً وشباباً. وتشكل هذه الثنائية اليوم الخطر الأكبر على مُلك آل سعود، لن تنفع في مواجهتها استراتيجيات البقاء القديمة. وليس هناك من سبيلٍ للنجاة إلا بالتحول من الاعتماد على الخارج إلى الرهان على الداخل، عبر انفتاح سياسي حقيقي، وإصلاحات جوهرية، تشرك الشعب في السلطة والثروة، وتمهد السبيل نحو ملكية دستورية، وإلا فإن الدولة الثالثة قد لا تتمكّن من تلافي مصير أختيها.