02 يونيو 2024
السلم والسلام في هذا العالم
يهتم الجميع بالسلام، لكن قلة قليلة فقط تهتم بشكله. ففي هذا العالم المضطرب والمهووس أمنياً، أصبح السلام مرادفاً للمساومة، أو لإدامة الوضع الراهن المستقر، أو حتى مرادفاً للاحتياجات والتخوفات الأمنية للقوى الاستعمارية والاحتلالات العسكرية. ولكن، نادراً ما يكون هذا السلام مرادفاً للعدالة والمساواة، ولإحراز الحقوق الإنسانية. فقد أصبح مفهوم السلام مرناً وزلقاً، إن لم يكن قذراً. ولدى ناسٍ كثيرين، لا يتعدّى السلام كونه عملية طويلة ومعقدة، ترجع بالفائدة على النخب السياسية والاقتصادية بالدرجة الأولى. تنبع هذه النظرة لحال السلام والسلم العالمي من فشل تلو الآخر لإنهاء "الصراع العربي الإسرائيلي"، والتي تبقى نقطة مركزية على أجندة السلم والاضطراب العالمي، وتستند هذه النظرة أيضاً للعيش تحت ظرف استعماري كولونيالي، كما في ظل مشروع بناء دولة وعملية سلمية فاشلتين على مدار العقود الماضية.
وبالتالي، وفي غمرة ابتعاد أي سلام حقيقي، الأجدر أن نسأل الأسئلة الصحيحة على غرار "أي سلام وماهيته"، بدل الاحتفال بسراب السلام ووهمه، فالاستمرار بالاحتفال بوهم السلام مهم، وذروة هذا الاحتفال لن توصلنا إلى سلام عادل ومستدام، وكلما كبر هذا الوهم تعمقت أزمتنا، وابتعدنا عن درب التحرّر والانعتاق الإنساني. ما ينعكس أيضاً على شكل النظام السياسي العالمي، والذي يبدو كأنه مستمر في الشرذمة والانسياق وراء لعبة التجاذبات، بدلاً من أن يتبنى أجندة تشاركية تتسع للجميع من الشمال والجنوب.
فمثلاً لو أننا نملك نظاماً عالمياً فعّالاً وكفؤاً وتشاركياً، لما شهدنا، ربما، ظهور أجسام كتنظيم الدولة الإسلامية. ولو أننا نملك مؤسساتٍ وميكانيكيات حقيقية للمحاسبة والمساءلة العالمية، لما شهدنا، ربما، تفتت الشرق الأوسط المنبثق عن غزو العراق واحتلاله وما تبعهما من إفرازات. وبالتالي، يتطلب السلم والسلام العالميان إعادة بناء المؤسسات الدولية التي "تدير" هذا العالم ونظامه، مثل مجلس الأمن وأطر الأمم المتحدة، من أجل عنونة الاختلالات البنيوية والهيكلية في عالم اليوم المضطرب.
ليس سلم النظام العالمي واضطرابه بانشطار ثنائي أسود أو أبيض، بل إنه رمادي ومختلط بامتياز. ولكن التحدّي يكمن في كيفية الوصول إلى صيغة توافقية بين السلم والاضطراب، وبتحديد من هم الفاعلون، لإحداث هذا الاتزان. فالاتفاق على النقاط المرجعية والمعايير لسلم هذا العالم واضطرابه، مهمة أساسية لمؤسسات الحوكمة العالمية، يجب أن تؤخذ الآن على محمل الجد أكثر من أي وقت مضى، فأشكال الاضطراب أخذت بالاتساع، وتقنيات القهر تتجذّر وتتمأسس يوماً بعد يوم، في ظل فشل المنظومات العالمية والمحلية بمواجهتها بكفاءة.
ولكن، يقتضي هذا كله تبني إطارٍ مفاهيمي مغاير لإحداث التغيير، يتعلق بمسببات هذا الاضطراب العالمي، والذي بدوره يقتضي أن يُفهم السلام بالتزامن مع فهمٍ أفضل وأدق للاقتصاد السياسي للصراعات والهشاشة والضعف. فالهشاشة، وخصوصاً هشاشة الدول وضعفها، تُفهم بشكل تقني غير سياسي في نظام الحوكمة العالمي الراهن، وهذا فهم إشكالي، لأنه فهم مجتزأ ومبتور وخطر، ولا يعنون إشكاليات الهشاشة والضعف من جذورهما، ففجوات الهشاشة تتحول، ببساطة، إلى فجواتٍ أمنية، وتمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، لتؤثر على محاور التمثيل السياسي والأمن والسيادة الاقتصادية والأمن الإنساني أيضاً، كما تنشئ تأثيرات جوهرية على أسس العقد الاجتماعي الناظم للعلاقة بين الشعوب والحكومات والأجسام الدولية.
فهم أوسع كهذا للهشاشة الناشئة عن اهتراء النظام السياسي العالمي، والذي يكون فهماً أبعد ما يكون عن الفهم التقني الكمي، والمعتمد على المؤشرات الرقمية المنسلخة من السياقات الأوسع، يساعد في إنشاء قاعدة أقوى وأمتن لسلم عالمي، يضع الشعوب في المركز بدل الأطراف، بحيث تصبح الشعوب هي الجسم المركزي، بدلاً من أجسام الدولة واللا- دولة.
وبالتالي، عندما تصبح النقطة المرجعية ونقطة البدء لأي نظام سياسي، عالمياً كان أو محلياً، هي الشعوب وكرامتها، سنصبح أمام معادلة جديدة ومعطيات فكرية وسياساتية مختلفة عما يسود الآن، والتي ستُحدث تغييراً في ديناميكيات السلم والاضطراب العالمي. هذا ليس فهماً نظرياً فحسب، وإنما فهم مدعوم بالقرائن والدلائل من مراحل تاريخية عدة. فالاضطراب العالمي لا يأتي فقط من الدول الضعيفة والهشة والمستنزفة بالصراعات غير القادرة على حكم نفسها بفعالية، فما تقوم به الإدارة الأميركية حالياً مثال حي وجديد لدور القوى العظمى في إحداث اضطرابات هذا العالم. ولكن، من دون شك، الضعف والهشاشة ينتجان فجوات عدة، كفجوة التمثيل والشرعية السياسية وفجوة الفعالية والكفاءة، والأهم فجوة الكرامة. وتشكل هذه الفجوات فرصاً سياسية لبعضهم، وتحدّيات سياسية للآخرين، والتي من الممكن أن تستغل بحكمة، أو أن يُساء استخدامها، كما نرى اليوم في بقاع شتى في العالم. ولكن، في المحصلة النهائية لا يمكننا المضي وتحويل هذا الفجوات إلى فرص سياسية لإعادة بناء نظامنا العالمي وإيجاده، إلاّ إذا أوجدنا مؤسسات وميكانيكيات فاعلة وشرعية للمحاسبة والمساءلة، محليا وإقليميا ودوليا. فعدا ذلك، سنبقى ندور في الحلقات المفرغة للسلم والاضطراب العالميين، ونقفز من فجوة إلى أخرى، من دون أن نجسر الفجوات، والذي سيشكل، في نهاية المطاف، نظاماً سياسياً عالمياً مهترئاً، يعيد إنتاج الاضطراب تلو الاضطراب.
وبالتالي، وفي غمرة ابتعاد أي سلام حقيقي، الأجدر أن نسأل الأسئلة الصحيحة على غرار "أي سلام وماهيته"، بدل الاحتفال بسراب السلام ووهمه، فالاستمرار بالاحتفال بوهم السلام مهم، وذروة هذا الاحتفال لن توصلنا إلى سلام عادل ومستدام، وكلما كبر هذا الوهم تعمقت أزمتنا، وابتعدنا عن درب التحرّر والانعتاق الإنساني. ما ينعكس أيضاً على شكل النظام السياسي العالمي، والذي يبدو كأنه مستمر في الشرذمة والانسياق وراء لعبة التجاذبات، بدلاً من أن يتبنى أجندة تشاركية تتسع للجميع من الشمال والجنوب.
فمثلاً لو أننا نملك نظاماً عالمياً فعّالاً وكفؤاً وتشاركياً، لما شهدنا، ربما، ظهور أجسام كتنظيم الدولة الإسلامية. ولو أننا نملك مؤسساتٍ وميكانيكيات حقيقية للمحاسبة والمساءلة العالمية، لما شهدنا، ربما، تفتت الشرق الأوسط المنبثق عن غزو العراق واحتلاله وما تبعهما من إفرازات. وبالتالي، يتطلب السلم والسلام العالميان إعادة بناء المؤسسات الدولية التي "تدير" هذا العالم ونظامه، مثل مجلس الأمن وأطر الأمم المتحدة، من أجل عنونة الاختلالات البنيوية والهيكلية في عالم اليوم المضطرب.
ليس سلم النظام العالمي واضطرابه بانشطار ثنائي أسود أو أبيض، بل إنه رمادي ومختلط بامتياز. ولكن التحدّي يكمن في كيفية الوصول إلى صيغة توافقية بين السلم والاضطراب، وبتحديد من هم الفاعلون، لإحداث هذا الاتزان. فالاتفاق على النقاط المرجعية والمعايير لسلم هذا العالم واضطرابه، مهمة أساسية لمؤسسات الحوكمة العالمية، يجب أن تؤخذ الآن على محمل الجد أكثر من أي وقت مضى، فأشكال الاضطراب أخذت بالاتساع، وتقنيات القهر تتجذّر وتتمأسس يوماً بعد يوم، في ظل فشل المنظومات العالمية والمحلية بمواجهتها بكفاءة.
ولكن، يقتضي هذا كله تبني إطارٍ مفاهيمي مغاير لإحداث التغيير، يتعلق بمسببات هذا الاضطراب العالمي، والذي بدوره يقتضي أن يُفهم السلام بالتزامن مع فهمٍ أفضل وأدق للاقتصاد السياسي للصراعات والهشاشة والضعف. فالهشاشة، وخصوصاً هشاشة الدول وضعفها، تُفهم بشكل تقني غير سياسي في نظام الحوكمة العالمي الراهن، وهذا فهم إشكالي، لأنه فهم مجتزأ ومبتور وخطر، ولا يعنون إشكاليات الهشاشة والضعف من جذورهما، ففجوات الهشاشة تتحول، ببساطة، إلى فجواتٍ أمنية، وتمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، لتؤثر على محاور التمثيل السياسي والأمن والسيادة الاقتصادية والأمن الإنساني أيضاً، كما تنشئ تأثيرات جوهرية على أسس العقد الاجتماعي الناظم للعلاقة بين الشعوب والحكومات والأجسام الدولية.
فهم أوسع كهذا للهشاشة الناشئة عن اهتراء النظام السياسي العالمي، والذي يكون فهماً أبعد ما يكون عن الفهم التقني الكمي، والمعتمد على المؤشرات الرقمية المنسلخة من السياقات الأوسع، يساعد في إنشاء قاعدة أقوى وأمتن لسلم عالمي، يضع الشعوب في المركز بدل الأطراف، بحيث تصبح الشعوب هي الجسم المركزي، بدلاً من أجسام الدولة واللا- دولة.
وبالتالي، عندما تصبح النقطة المرجعية ونقطة البدء لأي نظام سياسي، عالمياً كان أو محلياً، هي الشعوب وكرامتها، سنصبح أمام معادلة جديدة ومعطيات فكرية وسياساتية مختلفة عما يسود الآن، والتي ستُحدث تغييراً في ديناميكيات السلم والاضطراب العالمي. هذا ليس فهماً نظرياً فحسب، وإنما فهم مدعوم بالقرائن والدلائل من مراحل تاريخية عدة. فالاضطراب العالمي لا يأتي فقط من الدول الضعيفة والهشة والمستنزفة بالصراعات غير القادرة على حكم نفسها بفعالية، فما تقوم به الإدارة الأميركية حالياً مثال حي وجديد لدور القوى العظمى في إحداث اضطرابات هذا العالم. ولكن، من دون شك، الضعف والهشاشة ينتجان فجوات عدة، كفجوة التمثيل والشرعية السياسية وفجوة الفعالية والكفاءة، والأهم فجوة الكرامة. وتشكل هذه الفجوات فرصاً سياسية لبعضهم، وتحدّيات سياسية للآخرين، والتي من الممكن أن تستغل بحكمة، أو أن يُساء استخدامها، كما نرى اليوم في بقاع شتى في العالم. ولكن، في المحصلة النهائية لا يمكننا المضي وتحويل هذا الفجوات إلى فرص سياسية لإعادة بناء نظامنا العالمي وإيجاده، إلاّ إذا أوجدنا مؤسسات وميكانيكيات فاعلة وشرعية للمحاسبة والمساءلة، محليا وإقليميا ودوليا. فعدا ذلك، سنبقى ندور في الحلقات المفرغة للسلم والاضطراب العالميين، ونقفز من فجوة إلى أخرى، من دون أن نجسر الفجوات، والذي سيشكل، في نهاية المطاف، نظاماً سياسياً عالمياً مهترئاً، يعيد إنتاج الاضطراب تلو الاضطراب.