احتدم الجدل مؤخرا حول الشركات الاستثمارية، التي تديرها المؤسسة العسكرية السودانية، باعتبارها خارج ولاية المال العام لوزارة المالية. وتصاعدت حدة التوتر حول الشركات التابعة للجيش والتي تصل لأكثر من 200 شركة، وهي تعمل في مجالات حيوية، دون أن تساهم في الخزينة العامة، حيث تطالب الحكومة المدنية بأيلولتها لوزارة المالية فيما يتمسك الجيش بملكيتها.
وظلت العلاقة بين المكوّن العسكري والمدني في الحكومة الانتقالية تشوبها توترات متباينة، خاصة في ظل مطالبات الشق المدني في الحكومة باستعادة الشركات الاقتصادية التابعة للجيش وتشديد ولاية المالية على المال العام بعد أن تنامي إلى السطح بأن 80% من الإيرادات العامة خارج سيطرة وزارة المالية، إذ يرى رئيس الوزراء عبد الله حمدوك أن قضية استعادة الشركات الاقتصادية للقطاعين الأمني والعسكري تحظى بأولوية لدى الحكومة الانتقالية لإخضاعها لوزارة المالية.
ورغم تأكيد الحكومة أن هذه الشركات لا تخضع للمراجعة من قبل وزارة المالية "المراجع العام"، إلا أن المؤسسة العسكرية تقول إن الشركات والمؤسسات العسكرية "قطاع عام"، وبالتالي فإن إدارة هذه الشركات لا تتناقض مع فهم الحكومة التي تريد عودتها الى القطاع العام نفسه.
وقال نائب رئيس هيئة الأركان للإدارة الفريق ركن منور عثمان نقد، في مؤتمر صحافي عقد مؤخراً، إنه: "لا يمكن أن تؤول (الشركات التي تديرها المؤسسة العسكرية) من جهة حكومية إلى أخرى أيضا (حكومية)".
وأضاف: "توصلنا إلى تفاهمات مع وزارة المالية بشأن مؤسسات الجيش الاقتصادية وأنها ملتزمة مالياً، ونسعى إلى توظيفها لمصلحة الاقتصاد الوطني، كما أنها تخضع للمراجعة العامة".
أكثر من 200 شركة تابعة للجيش، وتعمل في مجالات حيوية، دون أن تساهم في الخزينة العامة للدولة.
ويبدو أن إثارة وزارة المالية قضية الشركات التابعة للجيش، قد أثارت حفيظة المؤسسة العسكرية التي قالت إنها قامت بدورها بحصر نحو 220 شركة تابعة لوزارات وجهات حكومية تعمل خارج النظام المالي والمصرفي.
وقال رئيس مجلس السيادة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، خلال لقائه ضباطاً وجنوداً في منطقة عسكرية داخل العاصمة الخرطوم قبل يومين، إن الجيش السوداني حصر 450 شركة حكومية غير تابعة له، فوجدنا أن من يعمل منها بصورة رسمية نحو 200 شركة فقط، أما البقية فهي تتبع لمؤسسات ووزارات دون أساس، وقد طرحنا هذا الأمر لمجلس الوزراء، لكنه لم يفعل شيئا".
ورفض البرهان الحديث عن أن تفاقم الأزمة الاقتصادية في السودان ناتج عن سيطرة شركات الجيش على التجارة، قائلا إن الأزمة ناتجة عن سوء التخطيط وإدارة الموارد. وأضاف أن "الجيش لا يحتكر أي نوع من التجارة، ولم نمنع أي جهة من ممارسة النشاط التجاري، لكن الفاشلين يعلقون فشلهم على شماعة شركات الجيش".
وفي هذا السياق، قال رئيس لجنة إزالة التمكين، الفريق ياسر العطا، إن "تعافي الاقتصاد ليس بهدم وتدمير مؤسسات الشعب الناجحة، وإنما بالاستفادة منها في رفع المؤسسات التي دمرت في عهد الرئيس المعزول عمر البشير وتعزيز الصادر والسيطرة على حصائله".
ولجنة إزالة التمكين تم تشكيلها بعد إطاحة الرئيس البشير ذي الخلفية العسكرية، في إبريل/ نيسان 2019، وهي معنية باسترداد الأموال المنهوبة في السودان، خاصة من قبل النظام المعزول لصالح خزينة الدولة.
ورأى العطا أنه: "يمكن تمزيق فاتورة القمح بالاستفادة من إمكانات شركة زادنا (مملوكة للجيش) وليس تدميرها، ودعم منظومة الصناعات الدفاعية لجلب الفوائد للدولة وتأهيل المشاريع الزراعية".
وأضاف أن "جميع شركات المنظومة هي في الأصل صندوق الضمان الاجتماعي للفرد العسكري، حيث تستقطع أموالها من هذا الفرد منذ تأسيسها في 1972"، مشيرا إلى أنها تخضع للمراجعة الحكومية ومنتظمة في دفع الضرائب والجمارك.
لكن رئيس الوزراء عبد الله حمدوك قال في حديث إذاعي الأسبوع الماضي إن حكومته بدأت فعليا في معالجة أمر شركات المؤسسة العسكرية بحسب الاتفاق بين هياكل السلطة الانتقالية ضمن الخطة العامة لولاية وزارة المالية على المال العام.
وتمتلك منظومة الصناعات الدفاعية، وهي الذراع الاستثماري للجيش، عشرات الشركات التي تعمل في المجالات الحيوية المدنية مثل التجارة في دقيق الخبز واللحوم والأحذية، دون أن تساهم برفد خزينة الدولة بأرباحها وفقا لخبراء اقتصاديين.
وفي 2017، أقر البرلمان قانوناً قضى بتحويل اسم هيئة التصنيع الحربي إلى منظومة الصناعات الدفاعية، ومنح القانون المؤسسة استقلالية مالية وإدارية عن وزارة الدفاع لتكون تابعة لرئيس الجمهورية كما مُنحت "المنظومة" حق الاستثمار بأموالها دون الخضوع لسلطات المراجع القومي، وقوانين الشراء والتعاقد والإجراءات المالية والمحاسبة، وحصانات واسعة للعاملين بها فيما يتصل بعملهم.
وأكد أستاذ الاقتصاد في جامعة المغتربين، محمد الناير، في تصريح لـ"العربي الجديد"، ضرورة منع أي مؤسسة أيا كان نفوذها وسلطاتها تجنيب إيراداتها عن وزارة المالية لإحكام سيطرتها على المال العام، داعيا إلى خروج المؤسسات الأمنية والعسكرية من النشاط التجاري، مع السماح لها فقط بامتلاك شركات تعمل في المنظومات ذات الطبيعة الدفاعية والعسكرية.
وقال الناير إن الوضع الطبيعي أن تكون كل أموال الدولة بالخزينة العامة، لذا لا بد من إعادة النظر فيه، لأن القوات المسلحة تحصل على ميزانيتها من وزارة المالية وهناك استثمارات كثيرة يجب النظر فيها بفسح المجال للقطاع الخاص ما عدا القطاعات الاستراتيجية.
وأضاف أن الوضع الطبيعي هو تنمية الموارد، سواء كانت عسكرية أو أمنية، ولكن بعض الدول توكل مهام للمؤسسات العسكرية لتقوم بإنجازها فقط لسرعة الإنجاز وليس كاستثمار دائم.
لكن الخبير الاقتصادي، عبد الله الرمادي، يدافع عن امتلاك الجيش والأمن شركات تابعة له، معتبرا أنه أمر طبيعي، وأن "دولاً عدة لديها شركات وصناعات عسكرية وحربية باعتبارها أسراراً لا يمكن الاطلاع عليها".
وقال الرمادي لـ"العربي الجديد" إن "هناك استهدافاً واضحاً للجيش بحجة أو بدونها، والقصد منها حلحلة وضعه، وأعتبره مخططاً مقصوداً للنيل من البلاد"، مضيفاً "لن نقبل إضعاف الجيش".
وأضاف أنه "يمكن إخضاع شركات الجيش والأمن للمراجعة العامة عبر انتداب مراجع ذي خبرة من قبل المراجع العام بموافقة رئيس مجلس السيادة"، مضيفا أن شركات الجيش والأمن مفخرة للبلاد مثل "مسلخ الكدرو" الذي يساهم بطريقة كبيرة في تصدير المنتجات الحيوانية إلى الخارج.
كذلك اعتبر الخبير الاقتصادي أحمد محمد الشيخ أن "أموال وشركات المؤسسة العسكرية تتمتع بنظام مالي متقدم كثيراً على أنظمة الدولة لما تمتلكه من شفافية ومراجعة لوجود ضباط ماليين في كل وحدة، كما أنها تخضع لرقابة شديدة أكثر من الرقابة المدنية".
وقال الشيخ لـ"العربي الجديد": "في كل الأمثلة العالمية تمتلك المؤسسات العسكرية استثمارات كبيرة، وتشترك جميعها في الشعار الموحد (تعمير في السلم وتدمير في الحرب)، كما تلعب أدواراً اقتصادية كبيرة لأنها تعتبر جزءاً من الدولة وليست الحكومة، التي قد تحصل بها هزات اقتصادية لسوء في الإدارة والفساد، ولكن المؤسسة العسكرية محصنة تحافظ على إرثها الاقتصادي ويمكنها التدخل لوقف انهيار الدولة".
وأضاف: "هناك مصادر متعددة لاستثمارات الجيش في الأراضي ومشاركات المصانع ومواد الإنتاج، إذ تتدخّل بعض المصانع لإنقاذ الأسعار في حال الارتفاع الكبير".
ويتقاسم الجيش إدارة مرحلة انتقالية تستمر ثلاث سنوات مع مدنيين، وفق تشكيل مجلس السيادة، الذي تم الاتفاق عليه قبل نحو عام، وأعقبه تشكيل حكومة برئاسة حمدوك، بينما تظهر البيانات الرسمية استمرار موجات الغلاء في الصعود وتهاوي الجنيه السوداني أمام العملات الأجنبية.
وطبقاً للجهاز المركزي للإحصاء الحكومي، قفز معدل التضخم في يوليو/ تموز الماضي إلى 143.78%، بينما كان في يونيو/ حزيران 136.36%.
وعزا الجهاز في بيان في وقت سابق من أغسطس/ آب الجاري ارتفاع التضخم إلى صعود أسعار بعض مكونات مجموعة الأغذية والمشروبات، كالخبز والحبوب والزيوت والدهون واللحوم والبقوليات، كما ارتفعت مجموعة النقل، وذلك لارتفاع أسعار تذاكر المواصلات الداخلية، وأيضاً مجموعة السكن نسبة لارتفاع أسعار غاز الطهو والفحم النباتي وحطب الوقود والخدمات المتنوعة المتصلة بالسكن.
كذلك قفز سعر صرف الدولار في السوق الموازية إلى مستويات قياسية جديدة، ليلامس 180 جنيهاً، الأمر الذي أرجعته الحكومة إلى "عمليات تخريب منظم وممنهج" للاقتصاد، بينما أكد محللون مصرفيون أن الحكومة ومؤسسات أخرى تساهم في ارتفاع العملة الأميركية بشراء مكثف لها من السوق السوداء.
معدل التضخم قفز في يوليو/ تموز الماضي إلى 143.78%، بينما كان في يونيو/ حزيران 136.36%
وقال الخبير الاقتصادي، الفاتح عثمان لـ"العربي الجديد"، إن "من إشكاليات الاقتصاد السماح لمؤسسات عسكرية تشكيل كيانات اقتصادية واستثمارات خاصة، ففي مثل هذا المناخ استطاعت أجهزة الأمن أيضاً إنشاء أجسام تخصها تعمل في كل المجالات من استيراد وتصدير وكافة مجالات الاستثمار الأخرى".
ويرى فاعلون في النشاط الاقتصادي أن الجيش يريد السيطرة على قطاعات اقتصادية حيوية وتهميش القطاع الخاص، بينما لا تتحسن في الحقيقة الظروف المعيشية للمواطنين.
وفي هذا السياق، أكد المحلل المالي، هيثم فتح، أن "الاستثمار والاقتصاد ليس المهمة المتعارف عليها للجهات العسكرية، لأن هذا الوضع يجعل هذه المؤسسات دوماً في موقع منافسة غير عادلة مع شركات القطاع الخاص، بل وغيره من الشركات الحكومية، ما يقطع الطريق أمام الاستثمار لأن المستثمر لن يجذبه شيء في بلد تسيطر فيه القوى الأمنية على الاقتصاد، ثم إن هذا التوجه يقطع الطريق أمام القطاع الخاص ويؤدي إلى ضموره وخروجه عن المشهد الاقتصادي".
وقال فتح لـ"العربي الجديد" لا توجد قوانين ولا معادلة اقتصادية أو حتى سياسية للتأكد من عدالة التنافس بين الكيانات الاقتصادية وبين المؤسسة العسكرية"، مشيراً إلى أن حديث البعض عن إرسال مدققين من وزارة المالية لمتابعة أداء شركات الجيش غير مجدٍ، فهناك فارق كبير بين الرقابة والتي قد يترتب عليها محاسبة ومساءلة، وبين الاطلاع".
وكان الفريق البرهان قد قال حينما كان رئيسا للمجلس العسكري في لقاء مع قادة الأجهزة الإعلامية إن المؤسسة العسكرية ظلت تصرف على الدولة من أموالها الخاصة، وتبعه في ذلك نائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) بقوله في أحد اللقاءات الجماهيرية إن قوات الدعم السريع دعمت موازنة الدولة بمبلغ يصل إلى مليار دولار، في الوقت الذي نفت فيه وزارة المالية علمها بتلك المبالغ رغم اعترافها بنقص الإيرادات بسبب الظروف السياسية السائدة في البلاد.