21 نوفمبر 2024
السيسي والرقص مع المخرِّب
إما أن رئيس النظام المصري، عبد الفتاح السيسي، جاهلٌ لتبعات تنفيذ توصيات صندوق النقد الدولي على مصر وأهلها، عند حصول بلاده على قرضٍ منه، أو أنه عارف، ويريد الذهاب في المساهمة في تدمير ما تبقى من قطاعاتٍ في هذه البلاد إلى أقصى الحدود. ولكننا إذ نتلكم عن رئيسٍ، فإننا نتكلم عن جيشٍ من المستشارين الذين يحيطون به، ويلفتون نظره إلى كل شاردة وواردة، وبالتالي، فإن احتمالية جهله تنتفي هنا، ويتأكد لنا علمه، وإقدامه عن سابق إصرار وترصد، على اتخاذ خطوات إصلاحية (تنفيذ توصيات الصندوق)، قال إن من سبقه من رؤساء لم "يجرؤ على اتخاذها". واضعاً بذلك البداية الحقيقية لنهايته، على يد شعبٍ، ستجعله هذه التوصيات يصل إلى مرحلةِ جوعٍ، يُجبر حينها على أكلِ حكامه.
وأعلن السيسي في 13 أغسطس/ آب الجاري، في افتتاحه مصنعاً في الإسكندرية، عن التوصل إلى اتفاق أولي مع صندوق النقد الدولي، يقضي تزويد مصر قرضاً قيمته 12 مليار دولار. خرج السيسي في خطابه هذا يضع ديباجة، يوصِّف فيها الأزمة الاقتصادية التي تعانيها بلاده، فيُرجِع السبب إلى إنفاق الحكومة على الخدمات، ودعم السلع الأساسية، وزيادة رواتب الموظفين، علاوةً على تكاليف استيعابها 900 ألف متعاقد، يجلبون لها الكوارث بسبب تكاليف تشغيلهم، في حين أنهم لا يقدّمون لها شيئاً. وبالتالي تعهد هو بالشروع في الإصلاحات التي تنحصر في تخفيف العمالة، وطرد ما يعتبره فوائض منها، وفرض زيادة مختلفة في الأسعار، ورفع الدعم الذي تنفذ مصر برنامجاً خاصاً به، منذ سنة 2014 ويستمر خمس سنوات، وكلها إجراءات تعتبر تنفيذاً لشروط صندوق النقد الدولي، لضمان الموافقة النهائية على منح القرض.
المعروف تاريخياً أن صندوق النقد والبنك الدوليين يطلبان من حكومات البلدان التي تلجأ إلى الاقتراض منهما تنفيذ تعليماتٍ، تنعكس، من فورها، سلباً على المواطن ومستوى معيشته. وبحجة أنها ضرورية للإيفاء بأقساط القروض، إلا أنها تهدف إلى الانقضاض على ما تبقى للمواطن من حصون التقديمات الاجتماعية التي تجود فيها الحكومات على مواطنيها. فيجري، في الطلب منها إجراء إصلاحات اقتصادية، استهداف القطاع العام، عبر إعادة هيكلته، وغالباً عبر بيعه إلى القطاع الخاص، بحجة خسارته. كما يطلب منها رفع كل أشكال الدعم عن السلع الأساسية والاستراتيجية، علاوة على الطلب منها دراسة جدوى الاستمرار في مجانية التعليم والطبابة.
وغالباً ما يضخم صندوق النقد الدولي المخاطر التي سيواجهها، إن قدّم قرضاً لهذا البلد أو ذاك. لذلك، يفرض فوائد عالية بسبب بعد إقناع المقترض بمخاطرته في منح القرض إليه، باعتباره جهةً غير آمنة، قد يتعثر سدادها الأقساط، كما أنه يقَسِّم قيمة القرض على سنوات، فلا يُمنَح دفعة واحدةً، ما يقلل مردوديته التنموية، إن كانت هذه المردودية واردة.
ولكن سؤالاً مهماً يطرح نفسه: لماذا يُجبر السيسي على الاقتراض؟ السيسي العارف أن "كلِّ
ما مصر تستلف أكتر كلِّ ما فاتورة الدين تزيد"، كما قال في خطابه. وأين عشرات المليارات التي قدمتها دول الخليح دعماً لنظامه؟ بل أين وعوده بإحداث نهضةٍ تجعل بلاده "تصير أد الدنيا"؟ كما قال في إحدى خطبه، بفضل ما ستوفره المشاريع الضخمة من أموالٍ تجعل بلاده ترفل في نعيمٍ، لم تشهد مثيله في العهود التي سبقت عهده. وخصوصاً وعود نظامه بارتفاع عوائد قناة السويس وحدها إلى 13 مليار دولار سنوياً، بعد افتتاح التفريعة الجديدة العام الماضي. مجرد لجوء السيسي إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي الذي يتركه الجميع خياراً أخيراً، وانتحارياً، دليل على أن اقتصاد بلاده وصل إلى حافة الانهيار. لكن المآسي التي سيجلبها الانهيار ستصبح مضاعفةً مع قروض كهذه، وستذهب القروض، كما جرت العادة، إلى مطارح يحدّدها المانحون، وهي أبعد ما تكون عن مشاريع التنمية، وأقرب ما تكون إلى مجالاتٍ تهدر فيها.
في سياق حديثه عن الإصلاحات، أورد السيسي أن أول محاولة للإصلاح كانت سنة 1977، وهي المحاولة التي رفضها الشعب المصري يومها، فتراجعت الدولة عنه. وأضاف أن الإصلاح ظل يتأجل، غير أن السيسي لم يوضح ما هو هذا الإصلاح الذي يرفضه الشعب، ويريد هو فرضه اليوم؟ إنه إصلاح غير شعبي، ويضر بمصالح الشعب الذي عادة ما يستشعر الخطر في قرارات حكوماته، ويعمل على نقضها، فالإصلاح مرتبط لدى السيسي بزيادة أسعار الخدمات التي تقدّمها الحكومة، وهو ما أوضحه حين أشار إلى زيادة سعر النقل بالميترو الذي لا يمكن أن يستمر بسعره الحالي. وقد جاء من لا يخشى من رد فعل الشعب على إصلاحات ستضر به وبمستقبل أولاده.
وكما تحدّث السيسي من قبل عن المؤامرات الكونية، والأشرار المتربصين بمصر، والذين يمنعون تقدمها، تحدث عن الحروب التي خاضتها، وحملها سبب الأزمة الاقتصادية التي تعيشها حالياً. لا ندري إن كان السيسي، وهو الرجل العسكري، قد نسي أن كوريا حين دمّرت وقُسِّمت إلى قسمين، أواخر ستينيات القرن الماضي، كانت بلاده تعيش فترة ازدهار اقتصادي. وفي الحين الذي خرجت فيه كوريا الجنوبية من دمارها نمراً اقتصادياً ينافس الاقتصاديات العملاقة، تراجعت مصر، إلى أن وصلت إلى حدّها الذي سيكرسه هو.
قال السيسي إن الهدف من القرض هو التخفيف من حجم المديونية الداخلية التي وصلت إلى نسبٍ عالية جداً. ولكنه لم يقل، من أين سيأتي بالأموال لدفع أقساط هذا القرض. من واقع الأمور، يتضح أن مصر ستقع في ورطةٍ وقعت فيها إندونيسيا التي اقترضت من صندوق النقد الدولي في عهد الدكتاتور سوهارتو، فسلمت دفة اقتصادها إلى مستشاري الصندوق، حين عجزت عن الإيفاء. وقتها، مارس هؤلاء المستشارون دوراً تخريبيا في الاقتصاد الإندونيسي، دفع ثمنه الشعب من دمه وعرقه، وأطلق فترة قلاقل كلفت ثلاثة أرباع المليون ضحية. ربما سيتدارك الشعب المصري هذا السقوط، ويمنع الاستمرار بإجراءات القرض، مدركاً أن الاستدراك يجعل وقع الأمور أقل كارثية عليه.
وأعلن السيسي في 13 أغسطس/ آب الجاري، في افتتاحه مصنعاً في الإسكندرية، عن التوصل إلى اتفاق أولي مع صندوق النقد الدولي، يقضي تزويد مصر قرضاً قيمته 12 مليار دولار. خرج السيسي في خطابه هذا يضع ديباجة، يوصِّف فيها الأزمة الاقتصادية التي تعانيها بلاده، فيُرجِع السبب إلى إنفاق الحكومة على الخدمات، ودعم السلع الأساسية، وزيادة رواتب الموظفين، علاوةً على تكاليف استيعابها 900 ألف متعاقد، يجلبون لها الكوارث بسبب تكاليف تشغيلهم، في حين أنهم لا يقدّمون لها شيئاً. وبالتالي تعهد هو بالشروع في الإصلاحات التي تنحصر في تخفيف العمالة، وطرد ما يعتبره فوائض منها، وفرض زيادة مختلفة في الأسعار، ورفع الدعم الذي تنفذ مصر برنامجاً خاصاً به، منذ سنة 2014 ويستمر خمس سنوات، وكلها إجراءات تعتبر تنفيذاً لشروط صندوق النقد الدولي، لضمان الموافقة النهائية على منح القرض.
المعروف تاريخياً أن صندوق النقد والبنك الدوليين يطلبان من حكومات البلدان التي تلجأ إلى الاقتراض منهما تنفيذ تعليماتٍ، تنعكس، من فورها، سلباً على المواطن ومستوى معيشته. وبحجة أنها ضرورية للإيفاء بأقساط القروض، إلا أنها تهدف إلى الانقضاض على ما تبقى للمواطن من حصون التقديمات الاجتماعية التي تجود فيها الحكومات على مواطنيها. فيجري، في الطلب منها إجراء إصلاحات اقتصادية، استهداف القطاع العام، عبر إعادة هيكلته، وغالباً عبر بيعه إلى القطاع الخاص، بحجة خسارته. كما يطلب منها رفع كل أشكال الدعم عن السلع الأساسية والاستراتيجية، علاوة على الطلب منها دراسة جدوى الاستمرار في مجانية التعليم والطبابة.
وغالباً ما يضخم صندوق النقد الدولي المخاطر التي سيواجهها، إن قدّم قرضاً لهذا البلد أو ذاك. لذلك، يفرض فوائد عالية بسبب بعد إقناع المقترض بمخاطرته في منح القرض إليه، باعتباره جهةً غير آمنة، قد يتعثر سدادها الأقساط، كما أنه يقَسِّم قيمة القرض على سنوات، فلا يُمنَح دفعة واحدةً، ما يقلل مردوديته التنموية، إن كانت هذه المردودية واردة.
ولكن سؤالاً مهماً يطرح نفسه: لماذا يُجبر السيسي على الاقتراض؟ السيسي العارف أن "كلِّ
في سياق حديثه عن الإصلاحات، أورد السيسي أن أول محاولة للإصلاح كانت سنة 1977، وهي المحاولة التي رفضها الشعب المصري يومها، فتراجعت الدولة عنه. وأضاف أن الإصلاح ظل يتأجل، غير أن السيسي لم يوضح ما هو هذا الإصلاح الذي يرفضه الشعب، ويريد هو فرضه اليوم؟ إنه إصلاح غير شعبي، ويضر بمصالح الشعب الذي عادة ما يستشعر الخطر في قرارات حكوماته، ويعمل على نقضها، فالإصلاح مرتبط لدى السيسي بزيادة أسعار الخدمات التي تقدّمها الحكومة، وهو ما أوضحه حين أشار إلى زيادة سعر النقل بالميترو الذي لا يمكن أن يستمر بسعره الحالي. وقد جاء من لا يخشى من رد فعل الشعب على إصلاحات ستضر به وبمستقبل أولاده.
وكما تحدّث السيسي من قبل عن المؤامرات الكونية، والأشرار المتربصين بمصر، والذين يمنعون تقدمها، تحدث عن الحروب التي خاضتها، وحملها سبب الأزمة الاقتصادية التي تعيشها حالياً. لا ندري إن كان السيسي، وهو الرجل العسكري، قد نسي أن كوريا حين دمّرت وقُسِّمت إلى قسمين، أواخر ستينيات القرن الماضي، كانت بلاده تعيش فترة ازدهار اقتصادي. وفي الحين الذي خرجت فيه كوريا الجنوبية من دمارها نمراً اقتصادياً ينافس الاقتصاديات العملاقة، تراجعت مصر، إلى أن وصلت إلى حدّها الذي سيكرسه هو.
قال السيسي إن الهدف من القرض هو التخفيف من حجم المديونية الداخلية التي وصلت إلى نسبٍ عالية جداً. ولكنه لم يقل، من أين سيأتي بالأموال لدفع أقساط هذا القرض. من واقع الأمور، يتضح أن مصر ستقع في ورطةٍ وقعت فيها إندونيسيا التي اقترضت من صندوق النقد الدولي في عهد الدكتاتور سوهارتو، فسلمت دفة اقتصادها إلى مستشاري الصندوق، حين عجزت عن الإيفاء. وقتها، مارس هؤلاء المستشارون دوراً تخريبيا في الاقتصاد الإندونيسي، دفع ثمنه الشعب من دمه وعرقه، وأطلق فترة قلاقل كلفت ثلاثة أرباع المليون ضحية. ربما سيتدارك الشعب المصري هذا السقوط، ويمنع الاستمرار بإجراءات القرض، مدركاً أن الاستدراك يجعل وقع الأمور أقل كارثية عليه.