01 نوفمبر 2024
السيسي والقدس.. عظَمةُ مصر وضآلةُ الحاكم
مصر بحُكْم موقعها وموضعها، هي في قلب الاهتمام، وعزْلُها عن أهمِّ قضايا الأمة، إضرارٌ بها، وبنا. الأخبارُ التي تضافرت عن تنسيقٍ أميركي مع مصر والسعودية، قبيل اعتراف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، المشؤوم بالقدس عاصمةً لدولة الاحتلال، تدفع بمصر والسعودية (بما للبلدين من مكانة) عن مجرَّد الصمت السلبي، أو الحياد اللاإيجابي، إلى مخاوف حقيقية من مؤازرة مهمَّة ومُشجِّعة، ولو انتاب تلك الموافقة ملحوظاتٌ عن التوقيت والإخراج، لرئيس أميركي جَرُؤ على ما لم يجرؤ عليه أسلافُه من بيل كلينتون، إلى جورج بوش الابن، إلى باراك أوباما، بعد قانون الكونغرس بنقل السفارة إلى القدس، والاعتراف بها عاصمةً موحّدةً ودائمة لإسرائيل 1995، وترامب بهذا القرار يَخْرج عن الخطِّ العريض لسياسة واشنطن (المتمثِّل في أنَّ وضع القدس يتقرَّر في المفاوضات النهائية) في هذه القضية بالغة الحساسية، ليس عربيا وإسلاميا فقط، وتحديدا القدس بكلِّ حُمولاتها الروحية والتاريخية والسياسية، وإنما عالميا أيضا.
كان موقف شيخ الأزهر، أحمد الطيب، لافتا؛ وجريئا؛ إذ أعلن رفضه لقاء نائب الرئيس الأميركي، مايك بينس، بعد ما بدر من إدارته بخصوص القدس، والأمل أن يستمر هذا الموقف، وأن يتعمَّم. لكن محاولات السلطات المصرية منْعَ التظاهرات المُؤيِّدة للقدس، أو منع توُسّعها، على الرغم من أن هذه القضية محلّ إجماع شتى القوى السياسية في الشعب المصري، وليست موجَّهة إلى النظام، يؤكّد مرَّة أخرى، العلاقةَ العضوية بين سلامة النُّظُم (شرعيَّة تمثيلها) وأيّ فعلٍ سياسي ذي شأن، داخلي، أو خارجي. ويعيدنا هذا الارتباط إلى الذريعة نفسها التي يزجُّها نظامُ عبد الفتاح السيسي في وجه المتعاطفين مع القدس، وهو ما يُسمِّيه "الإرهاب"، كيف ذلك؟ تموضع طاقم السيسي، سياسيا وأمنيا وإعلاميا، في صلب الثورات المضادَّة، وهو نفسه نشأ في انقلابٍ على رئيسٍ منتخَب، لم يُمهَل إلى نهاية فترته، بحجج وذرائع أسهمت ما تُسمَّى الدولة العميقة في تخليقها، ومنها ما يعود إلى حصاد حقبٍ سابقة، ولما تسلّم الرئيسُ (المُخلِّص) الدولة فعليا وكليا، وتضافرت كلُّ أجهزتها مع سياساته، بكلِّ طاقتها، بل وجبروتها، لم يسفر ذلك إلا عن مضاعفة أزمات مصر، والتنكيل الاقتصادي والأمني بالمواطن المصري، وقمْع رأيه، حتى لو بدا موقفا عفويا، كتنفيسة غضب، كما صرخة سائق التُّوكتوك، ومثيلاتها، لم يقوَ نظام السيسي على احتمالها، وذلك لشدَّة هشاشته، بالمقارنة، حتى مع الرئيس المخلوع، حسنى مبارك. فهذا حال النُّظم التي لا يقتصر عيبُها على نزاهة الوصول إلى الحكم، بل تلك التي فُصِّلت لإجهاض تطلُّعات الشعوب الطبيعية، والمُحِقِّة إلى قدر معقول من العدالة والحرية والكرامة.
وهنا يعود سؤال التأثير الخارجي والبناء السياسي والاجتماعي في الداخل، وهنا تستجدّ الأدلة
على أهمية الإصلاح الداخلي، (لاسيما العلاقة المأزومة بين الشعوب والحكام) لنتأهَّل عربيا، لمواجهة حقيقية مع إسرائيل، الدولة التي لا تنفكّ كلما خفض العربُ سقْفَ المطالب، تطالبهم بخفضٍ آخر؛ حتى أفضى الأمر، في نهاية المطاف، إلى قبول تلك النُّظم التي رأت إسرائيلَ أقربَ إليها مِن سواها، أفضى إلى قبولها، والتطبيع معها، على علّاتها، وعلى تجاهلها حتى للمبادرة العربية.
لم يبلغ في الشعوب العربية، وفي مقدِّمتها الشعب المصري، التطبيعُ مع إسرائيل مبلغا عميقا، ولا واسعا، وهذا ما شهد به الأعداء، كما جاء في آخر تصريحات لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو: إنّ المُعيق للسلام مع إسرائيل هي الشعوب العربية، ولعلّ هذا الإدراك الأميركي لطبيعة الحالة الوجدانية والفكرية للشعوب العربية، بصفة عامة، كان من أسباب الانعطافة المُهمّة نحو إجهاض تلك التحرُّكات الشعبية الواسعة (الربيع العربي) ضدّ نُظُمٍ ظهَر إفلاسُها على كلّ الصُّعُد، وليس على صعيد القضية الفلسطينية التي ظلَّت استطلاعات الرأي تُثبِت ثباتَها في وجدان تلك الشعوب، حتى وهي في حَمْأة انشغالاتها بهمومها الداخلية ومصائرها، فلم يأمن صُنّاعُ السياسات في البيت الأبيض، سرَيَانَ الحيويةِ في أوصال هذه الشعوب، ومؤسساتها السياسية والاجتماعية، ومآلات ذلك. حتى لو أبدى حكَّامُ ما بعد الربيع العربي (اعتدالا) أو (تفهُّما) لالتزامات دولهم بالعلاقة مع إسرائيل، سواء كانت تلكم الالتزامات معاهدات سلام، كما شأن مصر، أو كانت هدنةً طويلةً وصُلْبة، كما شأن سورية، وما تُسمَّى بحالة اللاحرب واللاسلم، فلذلك سمحت أميركا للسيسي أنْ ينقلب على الرئيس السابق، محمد مرسي، كما سمحت لنظام بشار الأسد أنْ يبقى.
قبِلَتْ واشنطن، وهي التي طالما نادتْ إداراتٌ سابقة فيها بِدَمْقرطة العالم العربي، وتحديدا مصر، قبلت هذه المرَّة، أنْ تُنحّي الديمقراطية، لصالح أمرين: أمن إسرائيل، والثاني محاربة الحركات الإسلامية الراديكالية. وكان هذا المُحرِّك أكثر تجليّا وتفعيلا في الدول الأقرب إلى فلسطين المحتلة، مصر وسورية، وهذا ما يدركه السيسي، والأسد، أَنَّهما ما داما قائميْن بهذا الدور، فلا خطر جِدّيًّا عليهم، أو لا حاجة مُلحَّة لتغيرهم، ولا سيما إذا تضافرت معه عوامل أخرى، إقليميا ودوليا. ولذلك، يشعر السيسي، مثلا، بطمأنينةٍ أكبر، لتأخذ السياسات الأمنية القمعية مداها، كما لا تبدو عليه علاماتُ القلق جرّاء الفشل الذريع الذي تسبَّب به في مصر، اقتصاديا وأمنيا، بل يبدو عازما على ترشيح نفسه لفترة رئاسية جديدة؛ ليُكمِل مشروعه (!)
مع أنّ الشعب الفلسطيني لا ينتظر موقف هذا النظام العربي، أو ذاك، إلا أنَّ القضية كبيرة، والمنعطف الراهن، خطير، فعلا، تريد إدارةُ ترامب، بهذا الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، حسْمَ أهمّ معضلةٍ في طريق التسوية؛ ليُريح المتفاوضين (مستقبلا كما تؤمِّل إدارتُه) من تجشُّم هدفٍ لا قِبَل لهم به، وهو التنازل عن القدس؛ فإذا نُحِّيتْ القدس، أمْكَن تدويرُ القضايا (الخلافية) المُتبقيَّة، وهي مسائل الحدود واللاجئين والمستوطنات، وسائر ما تسمَّى قضايا الحلِّ النهائي.
ومن هنا أهمية المؤازرة العربية والإسلامية، وحتى العالمية، وعلى كلِّ المستويات، ليس فقط، لإفشال هذه الخطة، ولكن لمقاومة الانهزام المُراد تكريسُه، وعلى مستوى الأمة كلِّها، من خلال القدس، بمكانتها الفعلية والرمزية. فالجهد مُنْصَبٌّ، ومنذ فترة، على توجيه ضرباتٍ لنا، حادّة ومباشرة، لإقناعنا بالهزيمة، فبعد اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، بساعات، جاء إعلان وزير البناء الإسرائيلي، يوآف غالانت، مخطَّط لبناء 14 ألف وحدة سكنية في القدس، تفعيلا فوريا، واستثمارا للاعتراف الأميركي، فلَمْ يَسْهُل عليهم تجرُّع التراجُع عن البوَّابات الإلكترونية، مثلا، قبل أشهر. ومن هنا خطورة تضافُر مواقف عربية متجاوبة معهم، سواء تجلّت بالصمت والتجاهل، أو بالقمع والكبت. في حين أن المأمول في مصر أكثر من مجرَّد السماح للمصريين بالتظاهر المُعبِّر عن الغضب.
كان موقف شيخ الأزهر، أحمد الطيب، لافتا؛ وجريئا؛ إذ أعلن رفضه لقاء نائب الرئيس الأميركي، مايك بينس، بعد ما بدر من إدارته بخصوص القدس، والأمل أن يستمر هذا الموقف، وأن يتعمَّم. لكن محاولات السلطات المصرية منْعَ التظاهرات المُؤيِّدة للقدس، أو منع توُسّعها، على الرغم من أن هذه القضية محلّ إجماع شتى القوى السياسية في الشعب المصري، وليست موجَّهة إلى النظام، يؤكّد مرَّة أخرى، العلاقةَ العضوية بين سلامة النُّظُم (شرعيَّة تمثيلها) وأيّ فعلٍ سياسي ذي شأن، داخلي، أو خارجي. ويعيدنا هذا الارتباط إلى الذريعة نفسها التي يزجُّها نظامُ عبد الفتاح السيسي في وجه المتعاطفين مع القدس، وهو ما يُسمِّيه "الإرهاب"، كيف ذلك؟ تموضع طاقم السيسي، سياسيا وأمنيا وإعلاميا، في صلب الثورات المضادَّة، وهو نفسه نشأ في انقلابٍ على رئيسٍ منتخَب، لم يُمهَل إلى نهاية فترته، بحجج وذرائع أسهمت ما تُسمَّى الدولة العميقة في تخليقها، ومنها ما يعود إلى حصاد حقبٍ سابقة، ولما تسلّم الرئيسُ (المُخلِّص) الدولة فعليا وكليا، وتضافرت كلُّ أجهزتها مع سياساته، بكلِّ طاقتها، بل وجبروتها، لم يسفر ذلك إلا عن مضاعفة أزمات مصر، والتنكيل الاقتصادي والأمني بالمواطن المصري، وقمْع رأيه، حتى لو بدا موقفا عفويا، كتنفيسة غضب، كما صرخة سائق التُّوكتوك، ومثيلاتها، لم يقوَ نظام السيسي على احتمالها، وذلك لشدَّة هشاشته، بالمقارنة، حتى مع الرئيس المخلوع، حسنى مبارك. فهذا حال النُّظم التي لا يقتصر عيبُها على نزاهة الوصول إلى الحكم، بل تلك التي فُصِّلت لإجهاض تطلُّعات الشعوب الطبيعية، والمُحِقِّة إلى قدر معقول من العدالة والحرية والكرامة.
وهنا يعود سؤال التأثير الخارجي والبناء السياسي والاجتماعي في الداخل، وهنا تستجدّ الأدلة
لم يبلغ في الشعوب العربية، وفي مقدِّمتها الشعب المصري، التطبيعُ مع إسرائيل مبلغا عميقا، ولا واسعا، وهذا ما شهد به الأعداء، كما جاء في آخر تصريحات لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو: إنّ المُعيق للسلام مع إسرائيل هي الشعوب العربية، ولعلّ هذا الإدراك الأميركي لطبيعة الحالة الوجدانية والفكرية للشعوب العربية، بصفة عامة، كان من أسباب الانعطافة المُهمّة نحو إجهاض تلك التحرُّكات الشعبية الواسعة (الربيع العربي) ضدّ نُظُمٍ ظهَر إفلاسُها على كلّ الصُّعُد، وليس على صعيد القضية الفلسطينية التي ظلَّت استطلاعات الرأي تُثبِت ثباتَها في وجدان تلك الشعوب، حتى وهي في حَمْأة انشغالاتها بهمومها الداخلية ومصائرها، فلم يأمن صُنّاعُ السياسات في البيت الأبيض، سرَيَانَ الحيويةِ في أوصال هذه الشعوب، ومؤسساتها السياسية والاجتماعية، ومآلات ذلك. حتى لو أبدى حكَّامُ ما بعد الربيع العربي (اعتدالا) أو (تفهُّما) لالتزامات دولهم بالعلاقة مع إسرائيل، سواء كانت تلكم الالتزامات معاهدات سلام، كما شأن مصر، أو كانت هدنةً طويلةً وصُلْبة، كما شأن سورية، وما تُسمَّى بحالة اللاحرب واللاسلم، فلذلك سمحت أميركا للسيسي أنْ ينقلب على الرئيس السابق، محمد مرسي، كما سمحت لنظام بشار الأسد أنْ يبقى.
قبِلَتْ واشنطن، وهي التي طالما نادتْ إداراتٌ سابقة فيها بِدَمْقرطة العالم العربي، وتحديدا مصر، قبلت هذه المرَّة، أنْ تُنحّي الديمقراطية، لصالح أمرين: أمن إسرائيل، والثاني محاربة الحركات الإسلامية الراديكالية. وكان هذا المُحرِّك أكثر تجليّا وتفعيلا في الدول الأقرب إلى فلسطين المحتلة، مصر وسورية، وهذا ما يدركه السيسي، والأسد، أَنَّهما ما داما قائميْن بهذا الدور، فلا خطر جِدّيًّا عليهم، أو لا حاجة مُلحَّة لتغيرهم، ولا سيما إذا تضافرت معه عوامل أخرى، إقليميا ودوليا. ولذلك، يشعر السيسي، مثلا، بطمأنينةٍ أكبر، لتأخذ السياسات الأمنية القمعية مداها، كما لا تبدو عليه علاماتُ القلق جرّاء الفشل الذريع الذي تسبَّب به في مصر، اقتصاديا وأمنيا، بل يبدو عازما على ترشيح نفسه لفترة رئاسية جديدة؛ ليُكمِل مشروعه (!)
مع أنّ الشعب الفلسطيني لا ينتظر موقف هذا النظام العربي، أو ذاك، إلا أنَّ القضية كبيرة، والمنعطف الراهن، خطير، فعلا، تريد إدارةُ ترامب، بهذا الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، حسْمَ أهمّ معضلةٍ في طريق التسوية؛ ليُريح المتفاوضين (مستقبلا كما تؤمِّل إدارتُه) من تجشُّم هدفٍ لا قِبَل لهم به، وهو التنازل عن القدس؛ فإذا نُحِّيتْ القدس، أمْكَن تدويرُ القضايا (الخلافية) المُتبقيَّة، وهي مسائل الحدود واللاجئين والمستوطنات، وسائر ما تسمَّى قضايا الحلِّ النهائي.
ومن هنا أهمية المؤازرة العربية والإسلامية، وحتى العالمية، وعلى كلِّ المستويات، ليس فقط، لإفشال هذه الخطة، ولكن لمقاومة الانهزام المُراد تكريسُه، وعلى مستوى الأمة كلِّها، من خلال القدس، بمكانتها الفعلية والرمزية. فالجهد مُنْصَبٌّ، ومنذ فترة، على توجيه ضرباتٍ لنا، حادّة ومباشرة، لإقناعنا بالهزيمة، فبعد اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، بساعات، جاء إعلان وزير البناء الإسرائيلي، يوآف غالانت، مخطَّط لبناء 14 ألف وحدة سكنية في القدس، تفعيلا فوريا، واستثمارا للاعتراف الأميركي، فلَمْ يَسْهُل عليهم تجرُّع التراجُع عن البوَّابات الإلكترونية، مثلا، قبل أشهر. ومن هنا خطورة تضافُر مواقف عربية متجاوبة معهم، سواء تجلّت بالصمت والتجاهل، أو بالقمع والكبت. في حين أن المأمول في مصر أكثر من مجرَّد السماح للمصريين بالتظاهر المُعبِّر عن الغضب.
مقالات أخرى
01 أكتوبر 2024
15 سبتمبر 2024
27 اغسطس 2024