تُغامر محطات تلفزيونية عربية في إنتاج أفلامٍ سينمائية عربية، لن يكون لأي قراءة نقدية سوية لها، هنا الآن، أي مجال، وإنْ تميل القراءة إلى نبذها، لشدّة بهتان معظمها؛ علماً أن بعضها ينضوي في إطار "الفيلم التلفزيوني"، وهذا نوعٌ لم يعد مُتداولاً كثيراً في بلدان عربية عديدة. أحياناً أخرى، يُخصِّص بعض المحطات حيّزاً زمنياً لعرض أفلامٍ يراها الأنسب والأفضل له، فيستأجرها، أو يشتري حقوق بثّها لفترة زمنية تُحدَّد في عقود قانونية. في حين أن السينما تبقى على مسافة من التلفزيون، بشكل عام، إذْ تُدرك، سلفاً، أن كلَّ إنتاجٍ تلفزيوني عربيّ لأي مشروع سينمائيّ عربي، لن يُتاح له بلوغ مرتبة الإبداع الجمالي، ولن يُحافِظ على اللغة السينمائية، ولن يُسمَح لصانعه بحرية التفكير والتأمّل والاشتغال، وفقاً لقناعاته وتأمّلاته وانفعالاته وأدواته.
مع هذا، لن تتردّد شبكات ومحطات تلفزيونية عربية عن تقديم خدمات إنتاجية، لمشاريع تتوافق مع مضامينها، أو تنسجم مع صانعيها وتفكيرهم، أو تجدها شعبيةً، خصوصاً على مستوى النوع الوثائقيّ أولاً وأساساً. خدمات تتوزّع على مساعدات مالية متواضعة، أو إتاحة المجال أمام السينمائيّ للاستفادة من أرشيفها، أو تأمين تقنيات خاصّة بالتصوير أو المونتاج أو الإضاءة، إلخ.
ملاحظات عامّة
المأزق الفعلي، هنا، كامنٌ في المضامين العادية جداً، أو التجارية ـ الاستهلاكية جداً، أو المسطّحة جداً، التي تقع فيها غالبية الأعمال السينمائية، التي يُنتجها التلفزيون. من دون تناسي وجود محطات تلفزيونية عربية تُنتج برامج سينمائية جادّة، يحاول مبتكروها الابتعاد، قدر المستطاع، عن المضامين تلك. لكن، هناك ما يدعو إلى التوقّف، قليلاً، أمام برامج كهذه، إذْ إنّ بعض العاديّ، المهتمّ بحواراتٍ مع "نجومٍ" أكثر من اهتمامه بالفن السابع، ثقافة وإنتاجاً وتقنيات ولغة، يمتلك "براعة" الحوار، ويستنبط من داخل السينمائيّ مزيداً من الأفكار والقراءات والتأمّل، أحياناً. برامج كهذه تبثّها قنوات تلفزيونية عربية غير متخصّصة بالسينما، أو قنوات أخرى تكتفي بعرض أفلامٍ عربية متنوّعة، يغلب عليها النتاج المصري، ولا تُنتج أفلاماً، ولا تساهم في تمويلها، ولا تُقدِّم أي خدمة فنية أو تقنية.
رغم هذا، لن يعثر المرء، المهتمّ بالفن السابع صناعةً وإنتاجاً ومواضيع ومسائل، على محطة تلفزيونية تتعامل مع السينما كما في أوروبا وأميركا، مثلاً. إنْ يكن هذا على مستوى الإنتاج، أو المشاركة في الإنتاج، أو تقديم الخدمات الفنية والإنتاجية؛ أو على مستوى البرامج المخصّصة بالصورة المتحرّكة، وقضاياها وعوالمها وفضاءاتها وأسئلتها، البعيدة عن ثقافة النجومية والشهرة والأضواء والاستعراضات فقط. من دون تناسي الهوّة الشاسعة بين "الجمهور" السينمائيّ العربي، و"المشاهدين" السينمائيين الغربيين، إذْ إن الأولين يأتون إلى الصالات السينمائية للتسلية وتمضية بعض الوقت، ويختارون ـ عادة ـ مواسم الأعياد والإجازات المدرسية، في حين أن الآخرين يتعاطون مع السينما كفن وثقافة وسلوك حياتي، وكمدى يساهم في مزيد من التفكير والتأمّل وطرح الأسئلة، على الذات والآخر. لذا، فإن الأولين لن يهتمّوا بكل جدّية يُمكن للتلفزيونات العربية ممارستها، إزاء السينما. بينما الآخرون "يُحاسِبون" المحطات، ويطالبون بالأفضل والأهم والأجدّ، من دون إلغاء رغبة كثيرين منهم في التسلية والعاديّ أيضاً.
وهذا يبقى عاماً، إذْ إن الاستثناءات عديدة، هنا وهناك، علماً أن محطات تلفزيونية أوروبية كثيرة لا تكترث بأيّ همّ ثقافي أو فني، أو على الأقلّ لا توليه الأولوية أو الاهتمام الجدّي. كما أن مشاهدين أوروبيين عديدين يريدون من الصورة، التلفزيونية والسينمائية، تسلية وتمضية وقت، لا أكثر ولا أقلّ.
اقــرأ أيضاً
نماذج
يُمكن الإشارة إلى أكثر من مثلٍ أو نموذجٍ. فـ "شبكة راديو وتلفزيون العرب"، مثلاً، التي أسسها رجل الأعمال السعودي صالح كامل، وبدأت بثّها من روما في 15 أكتوبر/ تشرين الأول 1993، انفتحت على اختصاصات عديدة، بينها السينما، قبل أن تجتهد لشراء أشرطة الـ "نيجاتيف" لأفلام مصرية قديمة وجديدة، ما أدّى إلى سجال حادّ في الأوساط المعنية، إذْ إن أشرطة كهذه تُشكِّل أرشيفاً عاماً، يُفترض بمؤسّسات الدولة، بالتعاون مع القطاع الخاص، الاهتمام به، وحمايته من التلف والضياع. علاقة الشبكة بالسينما مرتبطة أولاً بعدد القنوات التي تعرض أفلاماً، ومتعلّقة ثانياً بمسألة الأرشيف. لم يُعرف عنها استجابتها للإنتاج السينمائيّ، أو مشاركتها في تمويل مشاريع سينمائية. أساساً، لم يعد لها حضورٌ قوي كما في بداياتها، وقنوات عديدة لها لم تعد حاضرة في الفضاء العربيّ والدولي.
هذا على نقيض مؤسّستين تلفزيونيتين عربيتين أخريين، هما: "الجزيرة" و"أم. بي. سي.". للأولى تجارب عديدة في صناعة الفيلم الوثائقي العربي، إلى جانب اهتمامها بهذا النوع السينمائيّ، بشراء أعمال غربية وبثّها عبر قناة "الجزيرة الوثائقية". هذه الأخيرة تنطلق في الأول من يناير/ كانون الثاني 2007، وتبثّ أشرطة وثائقية تهتمّ بمواضيع مختلفة، إلى درجة أنها تمتلك، حالياً، "إحدى أكبر المكتبات الوثائقية المرئية في العالم". للثانية مغامرة شبيهة بتلك، عبر شركة "O3 للإنتاج"، المنطلقة قبل نحو 12 عاماً، على أساس إنتاج أفلامٍ وثائقية تُبثّ على شاشات القنوات التابعة للـ "أم. بي. سي."، قبل انتقالها، بدءاً من عام 2007، إلى صناعة الدراما، لتُصبح متخصّصة بها بدءاً من عام 2010، إلى درجة تناسيها شبه الكامل لتجربة وثائقية تلفزيونية، مُرشّحة للتحوّل إلى اختبار عربيّ إضافيّ في صناعة هذا النوع السينمائي، لولا الانهماك المطلق بالدراما التلفزيونية البحتة.
للفيلم الوثائقي خصوصية سينمائية لم تعد خافية على أحد. صناعته الغربية متحرّرة من مفردات الريبورتاج التلفزيوني، حتى وإنْ يكن إنتاجه تلفزيونياً. "الجزيرة الوثائقية"، رغم تراجع نسبة إنتاجاتها، لا تزال تحافظ على جمالية النص البصريّ وقواعده التجديدية، ولا تزال تحاول إيجاد صيَغٍ مختلفة لإنتاجه. شركة "O3 للإنتاج" لم تعد معنية بالوثائقي، إذْ تنخرط بكليّتها في صناعة الدراما، التي يبدو أنها أكثر ربحاً، وأوسع جماهيرية.
وهذا، إذْ يُعيد طرح سؤال العلاقة "الغريبة" القائمة بين السينما والتلفزيون، يدفع إلى مقاربة الانقلابات الحاصلة داخل مشاريع تلفزيونية منطلقة من "حسّ" بمسؤولية ثقافية وفنية إزاء السينما، قبل التحوّل إلى نتاج تلفزيوني بحت، يحتاج، بدوره، إلى نقاش نقديّ جذريّ وعميق.
فالمحطات والشبكات والشركات التلفزيونية العربية، الفضائية أو الأرضية، في لبنان والعالم العربي، منفضّة عن كلّ مساهمة ممكنة في إنتاج السينما. مآزقها المالية، التي يُعلَن عنها بين حين وآخر، دليلٌ على عمق المأزق المهنيّ، وإنْ يكن الدليل هذا دعوة إلى التساؤل عن سبب بقائها كلّها خارج إطار العمل الإنتاجي السينمائي، وإنْ يكن إنتاجاً جماهيرياً بحتاً، أي قادراً على تحقيق إيرادات، قد تكون مفيدة للمحطات المُنتِجة. ورغم أن تفكيراً كهذا يعكس، ربما، نوعاً من مثالية لن تكون موجودة، أبداً، في أي تفكير تلفزيوني، إلّا أن الانفصال شبه التام بين المحطات والسينما يستمرّ في توليد مزيد من المآزق، تنعكس سلباً على الطرفين. فالسينما محتاجة إلى مصادر تمويل "محلية"، غالباً، تساهم في تسهيل الحصول على إنتاجات خارجية. والتلفزيونات تجد، أو ربما يُفترض بها أن تجد في الإنتاج السينمائيّ شيئاً من حيوية عملٍ يختلف عن سياساتها وبرامجها، ولا يبقى محاصراً ببرامج عابرة، أو بخدمات فنية أو تقنية أو أرشيفية عادية، خصوصاً أن هناك شركات إنتاجية عربية تعمل، أساساً، في مجال تقديم الخدمات تلك، بوسائل وأدوات سينمائية بحتة.
اقــرأ أيضاً
تجربة مغربية
في المملكة المغربية، مثلاً، هناك نموذج يصلح لنقاشٍ إضافيّ، ويُضيء على المشكلة مُلمِّحاً، في الوقت نفسه، إلى نوعٍ من حلول. ولعلّ النموذج هذا يصلح لتعميمٍ، عليه ـ إن يتمّ عربياً ـ التنبّه إلى خصوصية كل بلد عربي. المهم كامنٌ في أن النموذج متمثّلٌ بنصّ يُلزم "الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزيون"، قانونياً، "المساهمة في الإنتاج السينمائيّ الوطني"، عبر المرسوم رقم 2.12.596، الصادر بتاريخ 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2012، والذي يتضمّن مادة (تحمل الرقم 16)، تطالب الشركة بـ "أن تُساهم في إنتاج الأعمال السينمائية المغربية الأصل، الموجَّهة للعرض في القاعات السينمائية، قبل بثّها عبر القنوات التلفزية التابعة للشركات الوطنية للاتصال السمعي البصري، وذلك إما بالتمويل المباشر و/ أو بالصناعة، وإما باقتناء مسبق لحقوق البث".
تُضيف المادة نفسها أن من يستفيد من هذه المساهمة "شركات الإنتاج المغربية المحدثة حسب القوانين المعمول بها، التي تقدم ترشيحها لدى لجنة انتقاء البرامج"، وهي لجنة تتشكّل من معنيين بالسينما والثقافة والفنون والعمل الرسمي، و"يوكل إليها اختيار المشاريع المستفيدة، وتحديد مبلغ المساهمة وفق دفتر تحملات، يحمي حقوق الشركة". وتؤكّد المادة أن الشركة تساهم، سنوياً، "في إنتاج اثني عشر (12) فيلماً سينمائياً مغربياً طويلاً، مكتوباً أصلاً للسينما، كما تعمل على اقتناء حقوق بثّ 24 فيلماً مغربياً قصيراً، على الأقلّ، كل سنة".
النصّ قادرٌ على ردم بعض الهوّة القائمة بين السينما والتلفزيون، وعلى إيجاد ركائز عملية، تجعل التلفزيون مشاركاً في عمل السينما، إنتاجاً وعرضاً. لن يكون سهلاً التأكّد من مدى فعالية النصّ وتنفيذه، ولن يكون للأمر أي علاقة بالمضامين والأشكال السينمائية التي يُساهم التلفزيون في إنتاجها، إذْ إنّ كلّ قراءة نقدية للأعمال تلك تُبنى على الصنيع السينمائيّ وكيفية اشتغالاته وآليات صُنعه. لكن، بعيداً عن النقد، فإن تطبيق النصّ يعني أن هناك إمكانية ما لاكتفاءٍ إنتاجي محلي، من دون تناسي أن المغرب بلدٌ يصنع سينما، وأن أفلاماً عديدة تستفيد من السياسة الإنتاجية لـ "المركز السينمائيّ المغربيّ"، وأن مشاريع أخرى تحصل على تمويل أو إنتاج أوروبي بحتّ، أيضاً. لكن النصّ يُريد دفع التلفزيونات إلى المساهمة في صناعة سينمائية، تشهد حيوية إبداعية تثير سجالاتٍ مختلفة، أحياناً. مع هذا، فهو نصّ لا يهتمّ بالفيلم الوثائقي، ربما لظنّ واضعه أن الوثائقي عملٌ تلفزيونيّ بحت، لا علاقة له باللغة السينمائية.
هذه قراءة مُطالبة بمزيد من النقاش، وإنْ يعاني الجميع تداعيات الأزمات الكثيرة، المنعكسة سلباً على مسارات المحطات والقنوات والشركات التلفزيونية، وعلى الإنتاج السينمائيّ العربيّ غير المعنيّ بالتجاري ـ الاستهلاكي البحت.
مع هذا، لن تتردّد شبكات ومحطات تلفزيونية عربية عن تقديم خدمات إنتاجية، لمشاريع تتوافق مع مضامينها، أو تنسجم مع صانعيها وتفكيرهم، أو تجدها شعبيةً، خصوصاً على مستوى النوع الوثائقيّ أولاً وأساساً. خدمات تتوزّع على مساعدات مالية متواضعة، أو إتاحة المجال أمام السينمائيّ للاستفادة من أرشيفها، أو تأمين تقنيات خاصّة بالتصوير أو المونتاج أو الإضاءة، إلخ.
ملاحظات عامّة
المأزق الفعلي، هنا، كامنٌ في المضامين العادية جداً، أو التجارية ـ الاستهلاكية جداً، أو المسطّحة جداً، التي تقع فيها غالبية الأعمال السينمائية، التي يُنتجها التلفزيون. من دون تناسي وجود محطات تلفزيونية عربية تُنتج برامج سينمائية جادّة، يحاول مبتكروها الابتعاد، قدر المستطاع، عن المضامين تلك. لكن، هناك ما يدعو إلى التوقّف، قليلاً، أمام برامج كهذه، إذْ إنّ بعض العاديّ، المهتمّ بحواراتٍ مع "نجومٍ" أكثر من اهتمامه بالفن السابع، ثقافة وإنتاجاً وتقنيات ولغة، يمتلك "براعة" الحوار، ويستنبط من داخل السينمائيّ مزيداً من الأفكار والقراءات والتأمّل، أحياناً. برامج كهذه تبثّها قنوات تلفزيونية عربية غير متخصّصة بالسينما، أو قنوات أخرى تكتفي بعرض أفلامٍ عربية متنوّعة، يغلب عليها النتاج المصري، ولا تُنتج أفلاماً، ولا تساهم في تمويلها، ولا تُقدِّم أي خدمة فنية أو تقنية.
رغم هذا، لن يعثر المرء، المهتمّ بالفن السابع صناعةً وإنتاجاً ومواضيع ومسائل، على محطة تلفزيونية تتعامل مع السينما كما في أوروبا وأميركا، مثلاً. إنْ يكن هذا على مستوى الإنتاج، أو المشاركة في الإنتاج، أو تقديم الخدمات الفنية والإنتاجية؛ أو على مستوى البرامج المخصّصة بالصورة المتحرّكة، وقضاياها وعوالمها وفضاءاتها وأسئلتها، البعيدة عن ثقافة النجومية والشهرة والأضواء والاستعراضات فقط. من دون تناسي الهوّة الشاسعة بين "الجمهور" السينمائيّ العربي، و"المشاهدين" السينمائيين الغربيين، إذْ إن الأولين يأتون إلى الصالات السينمائية للتسلية وتمضية بعض الوقت، ويختارون ـ عادة ـ مواسم الأعياد والإجازات المدرسية، في حين أن الآخرين يتعاطون مع السينما كفن وثقافة وسلوك حياتي، وكمدى يساهم في مزيد من التفكير والتأمّل وطرح الأسئلة، على الذات والآخر. لذا، فإن الأولين لن يهتمّوا بكل جدّية يُمكن للتلفزيونات العربية ممارستها، إزاء السينما. بينما الآخرون "يُحاسِبون" المحطات، ويطالبون بالأفضل والأهم والأجدّ، من دون إلغاء رغبة كثيرين منهم في التسلية والعاديّ أيضاً.
وهذا يبقى عاماً، إذْ إن الاستثناءات عديدة، هنا وهناك، علماً أن محطات تلفزيونية أوروبية كثيرة لا تكترث بأيّ همّ ثقافي أو فني، أو على الأقلّ لا توليه الأولوية أو الاهتمام الجدّي. كما أن مشاهدين أوروبيين عديدين يريدون من الصورة، التلفزيونية والسينمائية، تسلية وتمضية وقت، لا أكثر ولا أقلّ.
نماذج
يُمكن الإشارة إلى أكثر من مثلٍ أو نموذجٍ. فـ "شبكة راديو وتلفزيون العرب"، مثلاً، التي أسسها رجل الأعمال السعودي صالح كامل، وبدأت بثّها من روما في 15 أكتوبر/ تشرين الأول 1993، انفتحت على اختصاصات عديدة، بينها السينما، قبل أن تجتهد لشراء أشرطة الـ "نيجاتيف" لأفلام مصرية قديمة وجديدة، ما أدّى إلى سجال حادّ في الأوساط المعنية، إذْ إن أشرطة كهذه تُشكِّل أرشيفاً عاماً، يُفترض بمؤسّسات الدولة، بالتعاون مع القطاع الخاص، الاهتمام به، وحمايته من التلف والضياع. علاقة الشبكة بالسينما مرتبطة أولاً بعدد القنوات التي تعرض أفلاماً، ومتعلّقة ثانياً بمسألة الأرشيف. لم يُعرف عنها استجابتها للإنتاج السينمائيّ، أو مشاركتها في تمويل مشاريع سينمائية. أساساً، لم يعد لها حضورٌ قوي كما في بداياتها، وقنوات عديدة لها لم تعد حاضرة في الفضاء العربيّ والدولي.
هذا على نقيض مؤسّستين تلفزيونيتين عربيتين أخريين، هما: "الجزيرة" و"أم. بي. سي.". للأولى تجارب عديدة في صناعة الفيلم الوثائقي العربي، إلى جانب اهتمامها بهذا النوع السينمائيّ، بشراء أعمال غربية وبثّها عبر قناة "الجزيرة الوثائقية". هذه الأخيرة تنطلق في الأول من يناير/ كانون الثاني 2007، وتبثّ أشرطة وثائقية تهتمّ بمواضيع مختلفة، إلى درجة أنها تمتلك، حالياً، "إحدى أكبر المكتبات الوثائقية المرئية في العالم". للثانية مغامرة شبيهة بتلك، عبر شركة "O3 للإنتاج"، المنطلقة قبل نحو 12 عاماً، على أساس إنتاج أفلامٍ وثائقية تُبثّ على شاشات القنوات التابعة للـ "أم. بي. سي."، قبل انتقالها، بدءاً من عام 2007، إلى صناعة الدراما، لتُصبح متخصّصة بها بدءاً من عام 2010، إلى درجة تناسيها شبه الكامل لتجربة وثائقية تلفزيونية، مُرشّحة للتحوّل إلى اختبار عربيّ إضافيّ في صناعة هذا النوع السينمائي، لولا الانهماك المطلق بالدراما التلفزيونية البحتة.
للفيلم الوثائقي خصوصية سينمائية لم تعد خافية على أحد. صناعته الغربية متحرّرة من مفردات الريبورتاج التلفزيوني، حتى وإنْ يكن إنتاجه تلفزيونياً. "الجزيرة الوثائقية"، رغم تراجع نسبة إنتاجاتها، لا تزال تحافظ على جمالية النص البصريّ وقواعده التجديدية، ولا تزال تحاول إيجاد صيَغٍ مختلفة لإنتاجه. شركة "O3 للإنتاج" لم تعد معنية بالوثائقي، إذْ تنخرط بكليّتها في صناعة الدراما، التي يبدو أنها أكثر ربحاً، وأوسع جماهيرية.
وهذا، إذْ يُعيد طرح سؤال العلاقة "الغريبة" القائمة بين السينما والتلفزيون، يدفع إلى مقاربة الانقلابات الحاصلة داخل مشاريع تلفزيونية منطلقة من "حسّ" بمسؤولية ثقافية وفنية إزاء السينما، قبل التحوّل إلى نتاج تلفزيوني بحت، يحتاج، بدوره، إلى نقاش نقديّ جذريّ وعميق.
فالمحطات والشبكات والشركات التلفزيونية العربية، الفضائية أو الأرضية، في لبنان والعالم العربي، منفضّة عن كلّ مساهمة ممكنة في إنتاج السينما. مآزقها المالية، التي يُعلَن عنها بين حين وآخر، دليلٌ على عمق المأزق المهنيّ، وإنْ يكن الدليل هذا دعوة إلى التساؤل عن سبب بقائها كلّها خارج إطار العمل الإنتاجي السينمائي، وإنْ يكن إنتاجاً جماهيرياً بحتاً، أي قادراً على تحقيق إيرادات، قد تكون مفيدة للمحطات المُنتِجة. ورغم أن تفكيراً كهذا يعكس، ربما، نوعاً من مثالية لن تكون موجودة، أبداً، في أي تفكير تلفزيوني، إلّا أن الانفصال شبه التام بين المحطات والسينما يستمرّ في توليد مزيد من المآزق، تنعكس سلباً على الطرفين. فالسينما محتاجة إلى مصادر تمويل "محلية"، غالباً، تساهم في تسهيل الحصول على إنتاجات خارجية. والتلفزيونات تجد، أو ربما يُفترض بها أن تجد في الإنتاج السينمائيّ شيئاً من حيوية عملٍ يختلف عن سياساتها وبرامجها، ولا يبقى محاصراً ببرامج عابرة، أو بخدمات فنية أو تقنية أو أرشيفية عادية، خصوصاً أن هناك شركات إنتاجية عربية تعمل، أساساً، في مجال تقديم الخدمات تلك، بوسائل وأدوات سينمائية بحتة.
تجربة مغربية
في المملكة المغربية، مثلاً، هناك نموذج يصلح لنقاشٍ إضافيّ، ويُضيء على المشكلة مُلمِّحاً، في الوقت نفسه، إلى نوعٍ من حلول. ولعلّ النموذج هذا يصلح لتعميمٍ، عليه ـ إن يتمّ عربياً ـ التنبّه إلى خصوصية كل بلد عربي. المهم كامنٌ في أن النموذج متمثّلٌ بنصّ يُلزم "الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزيون"، قانونياً، "المساهمة في الإنتاج السينمائيّ الوطني"، عبر المرسوم رقم 2.12.596، الصادر بتاريخ 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2012، والذي يتضمّن مادة (تحمل الرقم 16)، تطالب الشركة بـ "أن تُساهم في إنتاج الأعمال السينمائية المغربية الأصل، الموجَّهة للعرض في القاعات السينمائية، قبل بثّها عبر القنوات التلفزية التابعة للشركات الوطنية للاتصال السمعي البصري، وذلك إما بالتمويل المباشر و/ أو بالصناعة، وإما باقتناء مسبق لحقوق البث".
تُضيف المادة نفسها أن من يستفيد من هذه المساهمة "شركات الإنتاج المغربية المحدثة حسب القوانين المعمول بها، التي تقدم ترشيحها لدى لجنة انتقاء البرامج"، وهي لجنة تتشكّل من معنيين بالسينما والثقافة والفنون والعمل الرسمي، و"يوكل إليها اختيار المشاريع المستفيدة، وتحديد مبلغ المساهمة وفق دفتر تحملات، يحمي حقوق الشركة". وتؤكّد المادة أن الشركة تساهم، سنوياً، "في إنتاج اثني عشر (12) فيلماً سينمائياً مغربياً طويلاً، مكتوباً أصلاً للسينما، كما تعمل على اقتناء حقوق بثّ 24 فيلماً مغربياً قصيراً، على الأقلّ، كل سنة".
النصّ قادرٌ على ردم بعض الهوّة القائمة بين السينما والتلفزيون، وعلى إيجاد ركائز عملية، تجعل التلفزيون مشاركاً في عمل السينما، إنتاجاً وعرضاً. لن يكون سهلاً التأكّد من مدى فعالية النصّ وتنفيذه، ولن يكون للأمر أي علاقة بالمضامين والأشكال السينمائية التي يُساهم التلفزيون في إنتاجها، إذْ إنّ كلّ قراءة نقدية للأعمال تلك تُبنى على الصنيع السينمائيّ وكيفية اشتغالاته وآليات صُنعه. لكن، بعيداً عن النقد، فإن تطبيق النصّ يعني أن هناك إمكانية ما لاكتفاءٍ إنتاجي محلي، من دون تناسي أن المغرب بلدٌ يصنع سينما، وأن أفلاماً عديدة تستفيد من السياسة الإنتاجية لـ "المركز السينمائيّ المغربيّ"، وأن مشاريع أخرى تحصل على تمويل أو إنتاج أوروبي بحتّ، أيضاً. لكن النصّ يُريد دفع التلفزيونات إلى المساهمة في صناعة سينمائية، تشهد حيوية إبداعية تثير سجالاتٍ مختلفة، أحياناً. مع هذا، فهو نصّ لا يهتمّ بالفيلم الوثائقي، ربما لظنّ واضعه أن الوثائقي عملٌ تلفزيونيّ بحت، لا علاقة له باللغة السينمائية.
هذه قراءة مُطالبة بمزيد من النقاش، وإنْ يعاني الجميع تداعيات الأزمات الكثيرة، المنعكسة سلباً على مسارات المحطات والقنوات والشركات التلفزيونية، وعلى الإنتاج السينمائيّ العربيّ غير المعنيّ بالتجاري ـ الاستهلاكي البحت.
مفارقات
إحدى المفارقات الحاضرة في قراءة العلاقة المرتبكة بين السينما والتلفزيون، أن سينمائيين عرباً كثيرين لا يزالون غير مهتمّين بالعمل التلفزيوني. في أوروبا وأميركا، يخوض سينمائيون، ذوو أساليب جمالية تجديدية وتقدمية ومؤثّرة في الاشتغالات البصرية، تجارب إخراجية للتلفزيون، بين حين وآخر، كوودي آلن ومارتن سكورسيزي، مؤخّراً.
في لبنان، يعمل مارون بغدادي وجان شمعون لحساب المحطة التلفزيونية اللبنانية الوحيدة قبل اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، وقبل انصرافهما إلى السينما الروائية والتسجيلية الوثائقية، وتأتي جوسلين صعب إلى السينما من مهنتها كمراسلة ومصوّرة صحافية. كما يُخرج سمير حبشي "الإعصار" (1992) و"دخان بلا نار" (2008)، وينصرف إلى العمل التلفزيوني. أما أسد فولادكار، الذي يُقدِّم "لما حكيت مريم" عام 2002، قبل انتقاله إلى القاهرة، والعمل على إخراج مسلسلات متنوّعة، منها "راجل وست ستات" و"الزناتي مجاهد"، ثم يُطلّ على المشهد السينمائي، مجدّداً، بفيلم "بالحلال" (2016).
المصري إبراهيم البطوط يأتي إلى السينما بعد اشتغال مديد لحساب محطات تلفزيونية عديدة كمُصوّر تلفزيوني. وفي تونس، هناك نجيب بلقاضي المنتقل إلى الشاشة الكبيرة من عمل تلفزيوني.