يظل الشرق الأوسط بتعريفاته المتعددة وجغرافيته الممتدة وأعراقه المختلفة وأديانه المتنوعة، عصيّا على محاولة جمع أي تاريخ شامل له في دراسة واحدة كافية وافية. مع ذلك، فإن "الحكم والسياسة في الشرق الأوسط المعاصر"، لأستاذ العلوم السياسية بجامعة كالغري بكندا العراقي طارق إسماعيل، ومعه جاكلين إسماعيل، أستاذة الدراسات الاجتماعية بالجامعة نفسها، وغلين بيري، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ولاية إنديانا الأميركية، يُعَدُّ دراسة قيّمة وأساسية لكل طلبة الجامعات من دارسي السياسة والتاريخ في الشرق الأوسط وصنّاع القرار والمهتمين من القراء. يقدم الكتاب تغطية واسعة وعميقة للتاريخ السياسي في المنطقة من خلال إطار منهجي قائم على فحص ورصد الأنماط التي تجلّت فيها السياسة في الشرق الأوسط. كما يخصص الكتاب فصولا لمناقشة دول محورية يصنّفها وفق مناطق محددة، وهي: الحزام الشمالي متمثلا بتركيا وإيران، منطقة الهلال الخصيب التي تجمع العراق وسورية ولبنان وفلسطين وإسرائيل، الحزام الشرقي متمثلا بمصر ثم منطقة مجلس التعاون الخليجي. علاوة على لغته الواضحة والمفهومة، ينهل الكتاب من معين عشرات الدراسات والأبحاث السابقة والمهمة، كما يتميّز بوسائله الإيضاحية التعليمية من خرائط وإحصائيات وتقارير مرجعية.
يتتبّع الكتاب إذاً التاريخ السياسي لمنطقة الشرق الأوسط، لكنه لا يتوقف عند حدود سرد متعاقب للأحداث، بل يحلل ويستنبط الأنماط التي تجلت من خلالها السياسة والدولة في هذه المنطقة. إن الكشف عن تلك الأنماط برصد الصيرورة التاريخية لنشوء الدولة وتطورها، يتيح أيضا فرز ما هو متواصل ومستمر منها وما هو متحوّل متغيّر. وهذا بدوره يوفر أداةً تحليلية مهمّة لتفسير وفهم تعقيدات ومعضلات السياسة في الشرق الأوسط الحديث والمعاصر.
اقــرأ أيضاً
إن أنماط السياسة في الشرق الأوسط المعاصر، بحسب الكتاب، تتمثل أولا في عبء الإرث التاريخي أو كيف حددت، وما زالت، المواجهات المتعاقبة مع الإمبريالية ملامح الدول الشرق أوسطية وطبيعة المعارضة لها. لقد انطوى تأسيس الدول العربية الحديثة بعد انهيار الدولة العثمانية على توتر بينها وبين مكوناتها المجتمعية. فالدولة لم تولد من رحم تلك المجتمعات وفق عملية عضوية وتدريجية طبيعية، بل ولدت كائنا مسخا تخلّق في رحم المصالح القومية للدول الاستعمارية الكبرى في القرن العشرين، ثم ولد بحبل سري لم ينفصم عن هيمنة تلك الدول التي ظلت تغذي تلك الكيانات المصطنعة بالدعم والشرعية والسيادة. أما النمط الثاني المهيمن والمتواصل في السياسة والحكم فيتمثل في الإسلام الذي يصبغ الخلفية الثقافية والأخلاقية للمجال المتنوع جدا في جغرافيته الاجتماعية والذي تتحرك فيه السياسة وتنشط في الشرق الأوسط. لقد لعب الدين دورا مهما في شؤون المنطقة، إذ لم يوفر، طيلة قرون طويلة، الأساس والقاعدة للّحمة الوطنية والثقافية فقط، بل كان أيضا مجالا للتنوع.
إن القوتين الأساسيتين المهيمنتين على تفكير وتصرفات شعوب الشرق الأوسط المعاصر هما الإسلام والتدخل الأجنبي. وهاتان القوتان في عملية تفاعل بيني مستمر ومتواصل. لقد وفّر الإسلام، باعتباره قوة دافعة باتجاه العدالة الاجتماعية والمساواة والازدهار الاقتصادي، إرثا مهما ما زال يعيش في الوجدان الجمعي لشعوب المنطقة. وعبر الحقب المختلفة برزت حركات تجديد إسلامي مختلفة جمع بينها دائما عاملان مشتركان هما: معارضة الهيمنة الأجنبية، وتحدي ما تراه تلك الحركات من تهديدات داخلية لقيم المجتمع الإسلامية. يمثل "الإسلاميون الجدد"، بحسب الكتاب، من بين الإصلاحيين والمتشددين من أتباع الحركات الإسلامية التي تعج بها المنطقة اليوم، طريقا وسطا بين الإسلام التاريخي والحداثة. ويهدف هؤلاء إلى تجديد المجتمع وتحقيق العدالة الاجتماعية فيه عبر استغلال أشكال التمثيل السياسي الغربية والانتخابات الحرة. وفي حال نجاح تركيبة تلك الخلطة يمكن حينها تطوير سياسة إسلامية منخرطة ومتفاعلة مع الحداثة. لكن من الصعب تخيّل كيف يمكن تطبيق هذا المشروع الحضاري الإسلامي حتى لو نجحت صياغته على صعيد الأفكار والطروحات في ظل المخاوف الغربية منه وكذلك الدعم الأميركي للأنظمة.
ظلت تلك الأنماط التاريخية في خلفية المشهد السياسي تؤثر على ديناميكيات بناء الدولة وتطورها في الشرق الأوسط خلال القرن العشرين. أما في القرن الواحد والعشرين فإن الفوضى والتشوّش باتت تعتري تلك الأنماط على نحو متعاظم. خاصة بعد الاحتلال الأميركي للعراق وتمخض التنافس السعودي الإيراني على الهيمنة الإقليمية عن سردية سياسية طائفية. إن تصاعد حدة الطائفية في المنطقة رافقه تطرف المعارضة الداخلية في أشكال وأساليب مواجهتها للنفوذ الأجنبي، وكذلك حرمان الأنظمة السلطوية شعوبها من أساسيات تنموية ومن العدالة الاجتماعية. يضاف إلى ذلك، انهيار القومية العربية كأيديولوجيا حاكمة وفشل الحكومات المتعاقبة في معالجة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية لمحكوميها، وكذلك إخفاقها في تحقيق تسوية عادلة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. أدت كل هذه العوامل في نهاية المطاف إلى نزع الشرعية عن نظام الدولة العربية. وهذا ما دفع القوى الشعبية، خاصة الإسلاميين، إلى تحدي الأنظمة الحاكمة والمطالبة بإسقاطها في الانتفاضات العربية العارمة التي اندلعت في 2011 وحتى اليوم.
(كاتبة وصحافية فلسطينية)
اقــرأ أيضاً
يتتبّع الكتاب إذاً التاريخ السياسي لمنطقة الشرق الأوسط، لكنه لا يتوقف عند حدود سرد متعاقب للأحداث، بل يحلل ويستنبط الأنماط التي تجلت من خلالها السياسة والدولة في هذه المنطقة. إن الكشف عن تلك الأنماط برصد الصيرورة التاريخية لنشوء الدولة وتطورها، يتيح أيضا فرز ما هو متواصل ومستمر منها وما هو متحوّل متغيّر. وهذا بدوره يوفر أداةً تحليلية مهمّة لتفسير وفهم تعقيدات ومعضلات السياسة في الشرق الأوسط الحديث والمعاصر.
إن أنماط السياسة في الشرق الأوسط المعاصر، بحسب الكتاب، تتمثل أولا في عبء الإرث التاريخي أو كيف حددت، وما زالت، المواجهات المتعاقبة مع الإمبريالية ملامح الدول الشرق أوسطية وطبيعة المعارضة لها. لقد انطوى تأسيس الدول العربية الحديثة بعد انهيار الدولة العثمانية على توتر بينها وبين مكوناتها المجتمعية. فالدولة لم تولد من رحم تلك المجتمعات وفق عملية عضوية وتدريجية طبيعية، بل ولدت كائنا مسخا تخلّق في رحم المصالح القومية للدول الاستعمارية الكبرى في القرن العشرين، ثم ولد بحبل سري لم ينفصم عن هيمنة تلك الدول التي ظلت تغذي تلك الكيانات المصطنعة بالدعم والشرعية والسيادة. أما النمط الثاني المهيمن والمتواصل في السياسة والحكم فيتمثل في الإسلام الذي يصبغ الخلفية الثقافية والأخلاقية للمجال المتنوع جدا في جغرافيته الاجتماعية والذي تتحرك فيه السياسة وتنشط في الشرق الأوسط. لقد لعب الدين دورا مهما في شؤون المنطقة، إذ لم يوفر، طيلة قرون طويلة، الأساس والقاعدة للّحمة الوطنية والثقافية فقط، بل كان أيضا مجالا للتنوع.
إن القوتين الأساسيتين المهيمنتين على تفكير وتصرفات شعوب الشرق الأوسط المعاصر هما الإسلام والتدخل الأجنبي. وهاتان القوتان في عملية تفاعل بيني مستمر ومتواصل. لقد وفّر الإسلام، باعتباره قوة دافعة باتجاه العدالة الاجتماعية والمساواة والازدهار الاقتصادي، إرثا مهما ما زال يعيش في الوجدان الجمعي لشعوب المنطقة. وعبر الحقب المختلفة برزت حركات تجديد إسلامي مختلفة جمع بينها دائما عاملان مشتركان هما: معارضة الهيمنة الأجنبية، وتحدي ما تراه تلك الحركات من تهديدات داخلية لقيم المجتمع الإسلامية. يمثل "الإسلاميون الجدد"، بحسب الكتاب، من بين الإصلاحيين والمتشددين من أتباع الحركات الإسلامية التي تعج بها المنطقة اليوم، طريقا وسطا بين الإسلام التاريخي والحداثة. ويهدف هؤلاء إلى تجديد المجتمع وتحقيق العدالة الاجتماعية فيه عبر استغلال أشكال التمثيل السياسي الغربية والانتخابات الحرة. وفي حال نجاح تركيبة تلك الخلطة يمكن حينها تطوير سياسة إسلامية منخرطة ومتفاعلة مع الحداثة. لكن من الصعب تخيّل كيف يمكن تطبيق هذا المشروع الحضاري الإسلامي حتى لو نجحت صياغته على صعيد الأفكار والطروحات في ظل المخاوف الغربية منه وكذلك الدعم الأميركي للأنظمة.
ظلت تلك الأنماط التاريخية في خلفية المشهد السياسي تؤثر على ديناميكيات بناء الدولة وتطورها في الشرق الأوسط خلال القرن العشرين. أما في القرن الواحد والعشرين فإن الفوضى والتشوّش باتت تعتري تلك الأنماط على نحو متعاظم. خاصة بعد الاحتلال الأميركي للعراق وتمخض التنافس السعودي الإيراني على الهيمنة الإقليمية عن سردية سياسية طائفية. إن تصاعد حدة الطائفية في المنطقة رافقه تطرف المعارضة الداخلية في أشكال وأساليب مواجهتها للنفوذ الأجنبي، وكذلك حرمان الأنظمة السلطوية شعوبها من أساسيات تنموية ومن العدالة الاجتماعية. يضاف إلى ذلك، انهيار القومية العربية كأيديولوجيا حاكمة وفشل الحكومات المتعاقبة في معالجة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية لمحكوميها، وكذلك إخفاقها في تحقيق تسوية عادلة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. أدت كل هذه العوامل في نهاية المطاف إلى نزع الشرعية عن نظام الدولة العربية. وهذا ما دفع القوى الشعبية، خاصة الإسلاميين، إلى تحدي الأنظمة الحاكمة والمطالبة بإسقاطها في الانتفاضات العربية العارمة التي اندلعت في 2011 وحتى اليوم.
(كاتبة وصحافية فلسطينية)