شهد العام الماضي إغلاق ملحقَي الثقافة في صحيفتي "المستقبل" و"النهار" اللبنانيتين، في ظل أزمة عميقة تصيب مُختلف وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة في البلاد. توالى إغلاق الملحَقين في أيلول/ سبتمبر وكانون الأول/ ديسمر 2015، ووقّع القائمون عليهما أعدادهما الأخيرة بمرثيات تحدّثت عن تراجع المشهد الثقافي في لبنان مع غياب تلك المنابر.
"المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في بيروت، سلّط الضوء على هذه الظاهرة عبر تنظيم طاولة مستديرة جمعت، اليوم، في مقرّه في العاصمة اللبنانية الشاعر عباس بيضون، رئيس القسم الثقافي في جريدة "السفير"، والروائي حسن داوود (محرر ملحق "نوافذ" في جريدة "المستقبل" سابقاً)، والشاعر عقل العويط (المحرر السابق لملحق جريدة النهار الثقافي) مع مجموعة من الصحافيين والمُهتمين.
أجمع المتحدّثون على أن أزمة الصحافة الثقافية تتجاوز حدود التمويل أو التطوّرات المتلاحقة في عالم الصحافة، وأنها تلامس حدود التراجع العام الذي يصيب المشهد اللبناني، بسبب التطوّرات الإقليمية وتراجع الحركة الاجتماعية في لبنان.
في مداخلته، اعتبر بيضون أن "الالتباس وضع طبيعي في لبنان، والصحافة متّصلة بالوضع العام في البلاد، وهي على غرار المجتمع المحيط بها"، داعياً إلى ضرورة عدم "ترك الصحافة فريسة للفاسدين".
صاحب "الوقت بجرعات كبيرة" انتقد نظر البعض إلى ما يصيب الصحافة اللبنانية على أنه "محاكمة عادلة أو جزاء عملها، خصوصاً أن الصحافة المكتوبة في لبنان طبعت المراحل المهمة في تاريخ البلد، كارتباط اسم صحيفة "النهار" بمرحلة الاستقلال وارتباط اسم صحيفة "السفير" بمرحلة صعود اليسار العربي".
تحدّث بيضون عن الصحافة بوصفها منتجة للنخب في المجتمع، مضيفاً: "يمكن الإشارة إلى تراجع دور هذه النخب في لبنان كأحد أوجه أزمة الصحافة العامّة فيه، ومنها أزمة الصحافة الثقافية".
من جهته، ذهب حسن داوود إلى أن تراجع الصحافة الثقافية في لبنان يأتي نتيجة "تراجع التمويل، وأيضاً نتيجة تراجع المشهد الصحافي والثقافي ككل في البلاد"، كما ربط بين "إقبال اللبنانيين على المواد المثيرة للانقسام والخلاف التي تروّج لها وسائل الإعلام"، وبين "عدم رغبتهم في متابعة المواد الثقافية، خصوصاً في الملاحق، لأنها لا تخدم الانقسام والسجال، حتى وصل الأمر إلى حدود اعتبار الملاحق الثقافية ترفاً فكرياً".
هنا، يذكّر صاحب "مئة وثمانون غروباً" بتراجع طباعة الكتب "من ثلاثة آلأف سابقاً إلى أقل من ألف نسخة حالياً، وهو مؤشّر واضح على أزمة القطاع الثقافي في لبنان".
لاحظ الحاضرون حدّة الشاعر عقل العويط في مداخلته التي تخلّلتها المطالبة بمحاكمة المسؤولين عن "انحطاط المؤسّسات الإعلامية في لبنان"، متّهماً القائمين على الصحف بأنهم "ينقلون الموبقات المالية والسياسية إلى الجسم الثقافي اللبناني، بسبب تأجير أنفسهم لجهات محلية وإقليمية".
واعتبر صاحب "سراح القتيل" أن "الأسباب المالية والتقنية التي أدّت إلى إغلاق بعض الملاحق الثقافية ليست المسؤول الوحيد عن تراجع الصحافة الثقافية، فقد أدّى انعدام حيز الاختلاف بعد الحرب الأهلية وربط الصحافة الثقافية بالجانب الأدبي حصراً من دون تناول الجوانب السياسية والاجتماعية ساهم في التراجع أيضاً".
وقال العويط إن تراجع حركة المجتمع أدّت إلى "سقوط هيبة وحيوية الصحافة الثقافية فاستسهل القائمون على الجرائد ربط قيمتها بسعر الورق في السوق"، ليخلص إلى أن "لبنان كلّه في خطر، وليست الصحافة وحدها أو الثقافة وحدها".
تلت المداخلات الثلاث تعليقات لعدد من الحاضرين الذين رفضوا المقارنة بين "الجيل الذهبي للصحافة الثقافية في لبنان الذي نشأ على الصحافة الورقية في الستينيات وبين الجيل الجديد الذي يواكب التطوّر الكبير في وسائل التواصل الاجتماعي وأثر هذا التطوّر على الحقل الإعلامي".
وانتقد المتحدّثون "عدم إتقان بعض المثقّفين الذي عملوا في الصحافة أدوات العمل الصحافي، ثم رفضهم في مراحل لاحقة مواكبة التطوّر التكنولوجي الكبير الذي عصف بالصحافة وغيّر شكلها بطريقة جذرية".
إحدى المتدخّلات اعتبرت أن "العصر الذهبي للصحافة في لبنان بُني على أسس غير متينة مُرتبطة بدوره الإقليمي، ومع تراجع هذا الدور حالياً، تراجعت مُختلف القطاعات، ومنها الصحافة الثقافية".