كيف يُمكن لبلدٍ ما أن يكون ممسوخاً بين كيانين يحملان، ضمنياً، الاسم نفسه إنما بفروقات هائلة؟ البحث ليس صعباً، فثنائية الصين ـ تايوان مثال حي. إلا أنه من المرجّح أن تصغر المسافات بين الكيانين، بدءاً من اليوم السبت، عندما يلتقي زعيما البلدين للمرة الأولى منذ 66 عاماً. حوارهما سيكون بغرابة المضيق الذي يفصل بينهما.
يسمّونها سنوات الرعب والإهانة. 13 عاماً من الاحتلال الياباني للصين (1932 ـ 1945)، راح ضحيتها 15 مليون قتيل، بدأت باحتلال القوات اليابانية منطقة منشوريا الشمالية الشرقية (مقاطعة في الصين)، وانتهت بانتصار المقاومة الصينية، بالتزامن مع انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945).
غير أن طرد جنود إمبراطورية الشمس لم يكن نهاية الحكاية. صحيح أن نخب الانتصار رُفع بين الزعيمين الصينيين، القائد الشيوعي ماو تسي تونغ وقائد "الحركة الوطنية" (الكومينتاغ) شيانغ كاي ـ تشيك، لكنهما سرعان ما استأنفا صراعهما الأهلي. صراع انتهى بانتصار شيوعي عام 1949، فرّ بنتيجته "الكومينتاغ" من الأراضي الصينية الرئيسية في البرّ، واستقرّوا في جزيرة تقع في بحرها الشرقي. تلك الجزيرة هي تايوان.
تُعدّ تلك اللحظة تاريخية، لأنها تجسّد ولادة جمهورية الصين الشعبية، والتي تمكّنت، لاحقاً، في أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات، بفضل إصلاحات الزعيم دينغ زاوبينغ، وسياسة الانفتاح التي اعتمدها، من تأدية أحد أهم الأدوار الاقتصادية في العولمة القائمة.
غير أن خاصرة هذا البلد الناهض بقيت متمرّدة، فوجود "الكومينتاغ" في تايوان وإعلان بلدهم الخاص، أو "الصين" الخاصة بهم، على هذه الجزيرة، شكّل الوقود اللازم لنشوء صراع طويل في العقود اللاحقة، وصل إلى حدّ إعلان النفير العام، بعد توجيه بكين في إحدى المرات صواريخها صوب "المتمرّدين"، وإلى بدء تعاطي الولايات المتحدة مع تايوان، بصفتها ورقة رابحة في الصراعات القائمة، المتجددة مع الصين في شرق آسيا، وفق منطق "وجوب الدفاع عنها".
اقرأ أيضاً: شغب الصين في شرق آسيا... منطقة أمام مصير مجهول
هكذا، لم يلتقِ "البلدان" على مستوى الصف الأول طوال السنوات الـ66 الماضية، على الرغم من أن تايوان بلدٌ قائم ويعدّ قرابة 24 مليون نسمة، وحيثيته مهمة على مستوى التجارة الدولية، إلا أن الصين لا تُقيّمه سوى على أنّه "كيان متمرّد تعلو فيه أصوات الانفصال والاستقلال". بل ترى أن من حقّها التدخّل، حتى بالقوة، لقمع أي حركة في هذا الاتجاه وإعادة الجزيرة إلى بيت الطاعة. وتزامناً مع انفتاح الصين على العالم بعهدة زاوبينغ، سُحب مقعد الأمم المتحدة من تايوان وأعطي للصين، كذلك أقفلت الولايات المتحدة قنصليتها في تايبيه (28 فبراير/شباط 1979)، بعد أن أعادت افتتاح سفارتها في بكين (1 يناير/كانون الثاني 1979).
اليوم، وبعد سلسلة من المحادثات والمشاورات التمهيدية ورسائل الطمأنة، والتي بدأت منذ سبع سنوات، يلتقي الرئيس الصيني شي جينغ بينغ نظيره ما يينغ ـ جيو في سنغافورة. وبنظر الزعيم الصيني، فإن "اللقاء هو محاولة مسؤولة لاحتواء انتقال الصراع والعداوة عبر الأجيال". أما بنظر الرئيس التايواني، فإن اللقاء هو "مناسبة كي نشرح للرئيس شي جينغ بينغ الوضع الفعلي، ونُخبرهم أكثر عن وضعية تايوان، حتى تتضح الصورة لهم أثناء صوغهم السياسات الخاصة بالعلاقات الثنائية".
وعشية اللقاء، خصّص الرئيس التايواني مؤتمراً صحافياً مطوّلاً لشرح حيثيات المناسبة، مُشدّداً على أن "الهدف أولاً يكمن في التخفيف من حدة العداء بين البلدين، عبر المضيق. أما الهدف الثاني فلضمان مستقبل الجمهورية الصينية، وضمان سعادة الجيل المقبل". "الجمهورية الصينية" بنظر يينغ ـ جيو هي تايوان.
لهذه الدرجة تبدو العلاقات بين البلدين معقّدة، أقلّه على المستوى الرسمي، فرئيس جمهورية الصين الشعبية يتحدث عن مستقبل الصين، ونظيره التايواني يصبو لضمان المستقبل نفسه، ولكن كل منهما يقصد "صين" خاصّة به ومختلفة كلياً عن الآخر.
جغرافياً، تمتدّ حدود الصين الشيوعية التي تعدّ 1.35 مليار نسمة، من روسيا ومنغوليا شمالاً إلى جنوب شرق آسيا، ومن الأراضي الشاسعة وبؤر الصراعات في وسط آسيا، إلى بحار الصراعات عند تخوم المياه الإقليمية اليابانية والمحيط الهادئ. هذه الصين تتسع جغرافياً، لمائة "تايوان"، وديموغرافياً لستّين "تايوان" منها.
غير أن الأمور ليست رهن الحجم فقط، ففي السنوات العشرين الماضية، تم تنظيم خمسة انتخابات ديمقراطية في تايوان، عاد بموجبها حزب "الكومينتاغ" إلى السلطة عام 2008. وقد تبنّى هذا الحزب، بعكس ما تفترضه التجربة التاريخية، سياسة "تقارب عبر المضيق"، تمّ على ضوئها ترسيخ التعاون بين البلدين، تحديداً على المستويين الاقتصادي والتجاري، وجرى توقيع 23 اتفاقية ساهمت في تعميق العلاقات الثنائية. وخلال جميع تلك الاستحقاقات الديمقراطية، كان "ستاتوكو" الحزب الشيوعي مسيطراً في الصين الشعبية، ولا يزال.
ويرى بعضهم أن التقارب مع بكين يؤذي، في المبدأ، شعبية ما يينغ ـ جيو، الرئيس الذي تنتهي ولايته في يناير/كانون الثاني المقبل، ولا يحقّ له وفقاً للدستور التايواني، الترشح لولاية ثالثة. غير أن بعضهم الآخر يعتبر أن الاتفاق على اللقاء المفاجئ، هو فعلٌ يتوخى النتائح العكسية، بمعنى أنه محاولة صينية بالدرجة الأولى للتأثير على الانتخابات المقبلة، لاستيلاد الزخم الاقتصادي وراء مرشح حزب "الكومينتاغ"، إريك تشو، والذي نال في آخر استطلاع للرأي، نشره مركز "بي أف بي" التايواني، في 24 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، 17 في المائة. وحلّ تشو ثالثاً خلف مرشحة حزب "التقدمي الديمقراطي"، تساي اينغ ـ وين (40 في المائة)، ومرشح حزب "الشعب أولاً" جيمس سونغ (23 في المائة).
وبرز أول المؤشرات الأساسية عن تأثير اللقاء المرتقب بين الرئيسين التايواني والصيني في ارتفاع الأسهم التايوانية، مؤشر "تايكس"، إلى أعلى مستوى له خلال شهرين، مدعوماً بجرعة تفاؤل، مفادها بأن تحسين العلاقات عبر المضيق سيُحفّز اقتصاد الجزيرة، مع الإشارة هنا إلى أن الصين تُعدّ الشريك التجاري الأول لتايوان.
ويأتي هذا الدعم المبطّن فيما يُتوقع مبدئياً أن تطيح الانتخابات الرئاسية حكم "الكومينتاغ"، وتؤدي إلى وصول "التقدمي الديمقراطي"، المنادي بالاستقلال وبالانفصال عن الصين، إنما ليس عشوائياً، إلى الحكم، فصحيح أن الأصوات الانفصالية في تايوان تبقى عقلانية، إلا أن ذلك لا يعني أن وصولها إلى الحكم لن يزيد الحساسيات مع الأخ الأكبر. مع ذلك، فإن اللقاء اليوم يصبو لتأكيد إمكانات تحقيق المزيد من التعاون الاقتصادي والمكاسب للجزيرة، من أجل احتواء تداعيات الخيارات الانفصالية.
اقرأ أيضاً: الصين التي يخشاها الجميع