تعد رحلة إبراهيم الطرطوشي الأندلسي واحدة من أقدم الرحلات العربية إلى أواسط وشمالي أوروبا في القرن الرابع الهجري والعاشر الميلادي، ففيها معطيات تكتب للمرة الأولى عن هذه البلدان التي كانت غارقة في الجهل والبدائية. ولا نبالغ بالقول إن هذه الرحلة هي المصدر الأول عن دول مثل تشيكوسلوفاكيا وبولندا ويوغوسلافيا وغيرها من دول وسط أوروبا. وقد فقدت أخبار هذه الرحلة ولم تبق منها سوى مقاطع متفرقة اقتبسها بعض الجغرافيين العرب، أمثال أبو عبيد البكري في كتابه "المسالك والممالك"، والقزويني في كتابه "عجائب المخلوقات"، وغيرهما من الجغرافيين العرب. حظيت رحلة الطرطوشي باهتمام كبير من مستشرقي القرن التاسع عشر وشكلت مادة بحث للعديد من الأكاديميين الغربيين الذين حاولوا جمع شتاتها من المصادر العربية القديمة، تماماً كما كان حال "رحلة ابن فضلان" الغنية عن التعريف. اما إبراهيم بن يعقوب الطرطوشي، فالمعلومات عنه شحيحة ولا نعرف إلا أنه كان تاجراً يهودياً من أهالي مدينة طرطوشة الأندلسية، ربما تاجر بالرقيق الصقلبي، وأنه كان سفير عبد الرحمن الثالث الأموي.
بلد الجلّيقيّين (غاليسيا)
بدأ إبراهيم رحلة من بلد جليقية حيث كتب أنه "سهل جميعه، والغالب على أرضهم الرمل، وأكثر قوتهم الدخن والذُّرة ومعوّلهم في الأشربة على شراب التفاح والبشكة، وهو شراب يتّخذ من الدقيق. وأهله أهل غدر ودناءة أخلاق، لا يتنظّفون ولا يغتسلون في العام إلا مرة أو مرتين بالماء البارد. ولا يغسلون ثيابهم منذ يلبسونها إلى أن تنقطع عليهم، ويزعمون أن الوسخ الذي يعلوها من عرقهم تنعم به أجسامهم وتصح أبدانهم. وثيابهم أضيق الثياب وهي منفرجة يبدو من تفاريجها أكثر أبدانهم. ولهم بأس شديد، لا يرون الفرار عند اللقاء في الحرب ويرون الموت دونه".
بلاد إفرنجة
ومن جليقية انتقل إلى بلاد إفرنجة، وهي فرنسا وأجزاء من ألمانيا القديمة، حيث قال إن "هواءها غليظ لشدة بردها، ومصيفها معتدل. وهو بلد كثير الفاكهة غزير الأنهار، منبعثة من ذوب الثلج. ومدائنه متقنة الأسوار محكمة البناء، وآخر حدودها بحر الشام، وحدُّه آخر البحر المحيط، البحر الشامي بقبلّيها والبحر المحيط بجوفيها. ويتصل ببلاد رومة أيضاً من ناحية الجوف بلاد الصقالبة بينهما شَعراءٌ ملتفّة، مسيرة الأيام الكثيرة، ويتّصل بالشرق أيضاً بالصقالبة ويتصل بالغرب بالبشكنس، ويتصل أيضا ببلاد بيوره وهم الذين يعرفون بالأمانيس، ولهم كلام غير كلام الإفرنج".
حظيت رحلة الطرطوشي باهتمام كبير من مستشرقي القرن التاسع عشر وشكلت مادة بحث للعديد من الأكاديميين الغربيين
ويضيف واصفاً بلاد إفرنجة بأنها "تتمادى في الطول والعرض مسيرة شهرين مع غيرها من القبائل. ويحجز بين بلاد إفرنجة وبلد الصقالبة في الجوف والشرق الجبل المعترض بين البحرين، فيتمادى بلد الإفرنج مع ساحل البحر القبلي الشامي حتى يلتصق بجزيرة رومة وبلد لنقبرذية، ويتمادى مع الجبل المعترض في الجوف إلى البحر المحيط. ويتصل بالصقالبة بلاد المجوس المعروفين بالإنقلش، وسيوف إفرنجة تفوق سيوف الهند". وحول شعب الإنقلش يقول إنهم "جنس من الأتراك نزلوا مصاقبين للصقالبة. وحدّ بلدهم في الغرب بلد بويرة وبلد بويصلاو. وفي الجوف منهم الرّوس وفي الشرق منهم البجناك وقفار لا تسكن، هي بين بلد البجناك وبين بلد البلقارين من الصقالبة، وفي القبلة بعض بلاد البلقارين ومسافة قفار لا تسكن".
بلاد الروس
وحول بلاد الروس، يقول: "هم في جزيرة حواليها بحيرة، وطول جزيرتهم مسيرة خمسة أيام، وفيها مشاجر وغياض. وملكهم يقال له خاقان روس؛ وهم في نحو مئة ألف إنسان. وهم يغزون الصقالبة في السفن. وبلقان تبع للروس وموافقون لهم. وليس للروس مزارع ولا كسب إلا بسيوفهم. وقيل: هم ثلاثة أصناف، صنف منهم ينزل ملكهم مدينة كويابة (كييف)، وهي أقرب من بلقانة وهم أقرب الروس إلى بلقان؛ وصنف آخر يسمون الصلاوة (سلافا)؛ وصنف ثالث يسمون الأوثانية، وملكهم مقيم بأوثان، والتجار إليهم لا يتجاوزون كويابة. فأما أوثان فلم يجد (إبراهيم الطرطوشي) أحداً يخبر أنه دخلها لأنهم يقتلون كل من وطئ أرضهم من الغرباء، والله أعلم".
بلد الصقالب (السلاف)
ويقول إبراهيم الطرطوشي واصفاً بلاد السلاف إنها متصلة "من البحر الشامي إلى البحر المحيط إلى الشمال؛ فتغلّب قبائل الجوف على بعضها وسكنوا حتى الآن في ما بينهم". وحول أجناسهم الكثيرة المختلفة، يقول: "كانوا في ما سلف يجمعهم ملك سمته ماخا، وكان من جنس منهم يدعى ولينانا، وهذا الجنس معظّم فيهم، ثم اختلفت كلمتهم فزال نظامهم وتحزّبت أجناسهم وملك كل جنس منهم ملك. وملوكهم الآن أربعة: ملك البلقارين (البلغار)، وبويصلاو (فاتسلاف)، ملك فراغة (براغ)، وبويمة (بوهيمية)، وكركوا (كراكوف)، ومشقه (موسكو)، ملك الجوف، وناقون في آخر الغرب". وحول بلاد الملك ناقون التي تماثل اليوم أراضي بولندا، يقول: "جاور بلد ناقون في آخر الغرب سكسون وبعض مرمان (نورمان)، وبلده رخيصة الأسعار كثيرة الخيل، ومنها يخرج إلى غيرها. ولهم سلاح شاك من الدروع والبيضات (الخوذ)، والسيوف. فمن فرغ إلى ما يليه عشرة أميال إلى الجسر خمسون ميلا، وهو جسر من خشب، في طوله ميل. ومن الجسر إلى حصن ناقون نحو أربعين ميلاً، ويسمى غراد، وترجمته: الحصن الكبير. وفي قبل غراد حصن مبني في بحيرة عذبة الماء، وكذلك تبني الصقالبة أكثر حصونهم. تعمد إلى المروج الكثيرة المياه والآجام فتخطّ فيه خطاً مستديراً أو مربعاً قدر ما تريد من شكل الحصن وسعة ساحته، وتحفر حواليه وتردم بالتراب المحفور، وقد أوثق بالألواح والخشب على مثال الطوابي، حتى يبلغ السور إلى الغاية التي تريد. وتذرع له باباً من أي شقّ تشاء ويختلف إليه على جسر من خشب، ومن حصن غراد إلى البحر المحيط أحد عشر ميلا. ولا تنفذ العساكر في بلاد ناقون إلا بالجهد الشديد، لأن بلده كله متمرج وآجام وحمأة".
مدينة براغ
فأما بلد [الملك] بويصلاو (فاتسلاف)، فطوله من مدينة فراغة (براغ)، إلى مدينة كركوا (كراكوف)، مسيرة ثلاث جمعات، كما يقول الطرطوشي. ويضيف إنه "مجاوز في الطول لبلاد الأتراك. ومدينة فراغة مبنية بالحجر والجير، وهي أكثر البلاد متاجر، تأتيها من مدينة كركوا الروس والصقالبة بالمتاجر، ويأتيهم من بلاد الأتراك الإسلام واليهود والترك بالمتاجر أيضاً والمثاقيل المرقطية، فيحملون من عندهم الدقيق والقزدير وضروب الأوبار.
هذه الرحلة هي المصدر الأول عن دول مثل تشيكوسلوفاكيا وبولندا ويوغوسلافيا
وبلادهم أطيب بلاد أهل الجوف وأزكاها معيشة، يباع القمح عندهم بقنشار(قطعة عملة أقل من فلس)، ما يكفي به المرء شهراً. ويباع الشعير بقنشار علف أربعين ليلة لدابة، ويباع عندهم عشر دجاجات بقنشار". ويقول إنه "بمدينة فراغة تصنع السروج واللجم والدرق المستعملة والمتخذة في بلادهم. ويصنع في بلاد بويمة منيدلات خفاف مهلهلة النسج على هيئة الشبكة لا تصلح لشيء. وثمنها عندهم في كل زمان عشرة مناديل بقنشار؛ بها يتبايعون ويتعاملون، يملكون منها الأوعية وهي عندهم مال. وأثمن الأشياء يبتاع بها، الحنطة والدقيق والخيل والذهب والفضة وجميع الأشياء. ومن العجيب أنّ أهل بويمة سمر سود الشعور، والشُّقرة فيهم قليلة".
ويتابع واصفاً هذه البلاد بقوله: "الطريق من ماذن برغ إلى بلاد بويصلاو ومنه إلى حصن قليوي عشرة أميال ومنه إلى نوب غراد ميلان. وهو حصن مبني بالحجارة والصاروج، وهو على نهر صلاوة وفيه يقع نهر بوده. ومن حصن نوب غراد إلى ملاحة اليهود، وهي على نهر صلاوة أيضاً، ثلاثون ميلاً، ومنها إلى حصن بورجين، وهي على نهر ملداوه، ومنه إلى طرف الشعراء (الشعراء هي الغابة)، خمسة وعشرون ميلاً. ومن أولها إلى آخرها أربعون ميلاً، في جبال وأوعار؛ ومنها إلى جسر من خشب، على حمأة، نحو الميلين؛ ومن آخر الشعراء يدخل مدينة فراغة".
بلد موسكو
وحول بلد الملك مشقه (موسكو)، فيقول: "هو أوسع بلادهم، وهو كثير الطعام واللحم والعسل والحرث. وجبايته المثاقيل المرقطية، وهي أرزاق رجاله في كل شهر، لــكل واحد عدد معروف منها. وله ثلاثة آلاف درّاع، وهم أجناد تعدل المئة منهم عشر مئة من غيرهم؛ ويعطي الرجال الملابس والخيل والسلاح وجميع ما يحتاجون إليه. وإذا ولد لأحدهم ولد أمر بإجراء الرزق عليه ساعة يولد ذكراً كان أو أنثى. فإذا بلغ، فـإن كان ذكراً زوجه ودفع عنه النّحلة إلى والد الجارية، وإن كانت أنثى أنكحها ودفع النحلة إلى أبيها. والنّحلة عند الصقالبة عظيمة، ومذهبهم فيها كمذهب البربر وإذا ولد للمرء ابنتان أو ثلاث فهن سبب غناه، وإن ولد له ولدان فهو سبب فقره". ويضيف: "يجاور مشقه في الشرق الروس وفي الجوف بروس (بروسيا)، وسكنى بروس على البحر المحيط، ولهم لسان على حدة لا يعرفون ألسنة المجاورين لهم. وهم مشهورون في شجاعتهم، إذا أتاهم جيش لا يتوانى أحدهم حتى يلحق به صاحبه، وإنما يخرج لا يلوي على أحد، فيضرب بسيفه حتى يموت. ويغير عليهم الروس في المراكب من المغرب. وفي المغرب من الروس مدينة النساء، ولها بسائط ومماليك. وهن يحملن من عبيدهن، فإذا وضعت المرأة ذكراً قتلته؛ ويركبن الخيل ويباشرن الحرب، ولهن بأس وبسالة". ويقول إبراهيم الطرطوشي إن خبر هذه المدينة (أي مدينة النساء)، حقٌّ أخبره بذلك هوته ملك الروم، وهو الإمبراطور الألماني أوتو الأول.
ويقول الطرطوشي إنه في الغرب من مدينة النساء قبيلة من الصقالبة يقال لها أمة ولتابه، وهي في غياض من بلاد مشقه مما يلي المغرب وبعض الجوف. ويضيف: "لهم مدينة عظيمة على البحر المحيط، لها إثنا عشر باباً ولها مرسى. وهم يحاربون مشقه (موسكو)، وشوكتهم شديدة، وليس لهم ملك ولا ينقادون لأحد، وإنما الحكام فيهم أشياخهم".
عند البغار ووصف لحياة السلاف
وحول ملك البلقارين، يقول إبراهيم الطرطوشي: "لم أدخل بلده ولكني رأيت رسله بمدينة ماذن برغ (مدينة ألمانية كما يبدو)، حين وفدوا على هوته الملك يلبسون ملابس ضيقة ويتمنطقون بأحزمة طوال قد ركب عليها ترامس الذهب والفضة. وملكهم عظيم القدر يضع على رأسه التاج وله الكتاب والأزمّة وأصحاب الخطط وأمر ونهي على نظم وترتيب كالمعهود للملوك الأكابر. ولهم معرفة بالألسن ويترجمون الإنجيل باللسان الصقلبي، وهم نصارى". ويضيف: "إنما تنصّر ملك الـبلقارين، وأغار على بلاد الروم وحاصر مدينة القسطنطينية، حتى داراه ملكها وأرضاه بجزيل العطايا. وكان مما استرضاه به أن زوّجه ابنته فحملته على التّنصُّر".
ويقول الطرطوشي: "والقسطنطينية من بلقارين في القبلة وتجاورهم أيضاً في الشرق والجوف البجاناكية. وفي الغرب منها بحيرة بناجيه، وهو خليج يخرج من البحر الشامي بين الأرض الكبيرة والقسطنطينية. فيحيط بالأرض الكبيرة سواحل رومة وسواحل لنقبردية (لومبارديا)، وينقطع باقولايه فتصير هذه المواضع كلها جزيرة واحدة قد أحاط بها البحر الشامي من القبلة وذراع بناجيه من جهة المشرق والجوف وبقي منها فتح من جهة المغرب". ويؤكد إبراهيم أن "سكان حافتي هذا الخليج من مخرجه في المشرق من البحر الشامي الصقالبة"، الذين يرى أن الغربيين منهم أشد بأساً من الشرقيين؛ حيث يصفهم بأن بلادهم جبال شامخة وعرة المسالك.
ويقول الطرطوشي إنه في الغرب من مدينة النساء قبيلة من الصقالبة يقال لها أمة ولتابه
ويختم تعريفه بالصقالب بقوله إنهم "ذوو صولة وبطش ولولا اختلافهم بكثرة تفرّع أعراقهم وتفرق أفخاذهم ما قامت لهم في الشدة أمة من الأمم. وسكنوا من البلدان أجزلها ريعاً وأكثرها أقواتاً، وهم يجتهدون في الفلاحة وطلب الأرزاق، ويفوقون في ذلك جميع أمم الجوف. وتختلف تجارتهم في البر والبحر إلى الروس والقسطنطينية. وجلّ قبائل الجوف يتكلمون بالصقلبية لاختلاطهم بهم، منهم قبائل الطدشكيين (ربما ألمان)، والأنقليين (الهنغار)، والبجاناكية (البشناق ربما)، والروس والخزر. وليس يكون الجوع في بلدان الجوف كلها من القحط وتوالي الجدب، إنما يكون من كثرة الغيث وتوالي الجمّة. ولا يكون المحل عندهم مهلكاً لأنه لا يتقيه من أصابه لرطوبة بلادهم وشدة بردها. وهم يزرعون في فصلين من العام، في القيظ والربيع، ويرفعون رفعين؛ وأكثر زرعهم الدّخن.
والبرد فيهم سليم وإن تفاقم، والحر مهلك. وهم لا يقدمون على السفر إلى بلاد لنقبردية لحرّها، لأن الحر يطغى عندهم فيهلكون. والسلامة عندهم إنما تكون في ما يكون فيه المزاج جامداً، فإذا انذاب وفار ذوى الجسد جاءه الموت من قبل ذلك. وتعمهم علّتان لا يكاد أحدهم يسلم من أحدهما، وهما ريحان: الحمرة والنواصير. وهم يجتنبون أكل الفراريج، فإنها تصرعهم بزعمهم ويقوي عليهم ريح الحمرة؛ ويأكلون لحوم البقر والإوز فتلائمهم. وهم يلبسون الثياب الواسعة إلا أن أردان أكمامهم ضيقة. ويحجب ملوكهم نساءهم، ولهن غيرة شديدة عليهم. ويكون للرجل منهم عشرون زوجة فصاعداً. وأكثر أشجار شعابهم التفاح والإجاص والفرشك. وفيها طائر غريب تعلوه خضرة، يحكي كلما يسمعه من أصوات الناس والدّواب؛ وقد يوجد فيصيدونه، ويسمى بالصقلبية سبا. وفيها دجاج برّيّة تسمى أيضاً بالصقلبية تترا، وهي طيبة اللحم، وتسمع أصواتها من أعالي الشجر على فرسخ وأكثرها صنفان: سود وموشّاة، أجمل من الطواويس. ولهم ضروب من المزاهر والمزامير، ولهم مزمار طوله أكثر من ذراعين، ومزهر عليه من الأوتار ثمانية أوتار، وباطنه مسطح لا مقبّب. وأشربتهم وأنبذتهم العسل.