01 نوفمبر 2024
الطريق إلى الحرب الروسية في سورية
يكاد يكون فهم ما يجري في سورية من حرب إقليمية ودولية من خارج اللغة الطائفية ومنطقها العفن أمراً عبثياً، فقد نجحت الولايات المتحدة الأميركية نجاحاً باهراً منذ احتلالها العراق سنة 2003 في جعل الطائفية مفتاحاً سحرياً، يستخدم في تفسير وتأويل النزاعات العسكرية والديناميكيات السياسية التي يعرفها الوطن العربي، بما في ذلك المناطق الخالية من الطوائف، حيث يقع إعداد أرضية فكرية وأيديولوجية تستند إلى ما هو مذهبي سني أو أباضي في انتظار ميلاد جماعة شيعية منظمة، وإذا استعصى الأمر على لعبة الطائفية فغالباً ما يُستبدل بالعامل الإثني- المذهبي، كما وقع في غرداية في الجزائر، أو بالمعطى القبلي، كما هو الشأن في ليبيا.
ويعتبر تغيير اتجاه الثورة اليمنية، وانتفاضة فقراء اليمن، إلى حرب طائفية أخرى بين فريق سني تقوده المملكة العربية السعودية، بمسمى التحالف العربي، وتقاتل باسمه، وآخر شيعي يسمونه الحوثيين ويكنّي نفسه حزب أنصار الله مدعوم من إيران الدولة التي تتبنى رسمياً المذهب الشيعي، على الرغم من تنوع مذاهب شعوبها، مثالاً صارخاً على تفشي هذه الآفة الثقافية والمذهبية والدينية القاتلة للمجتمعات، والمدمّرة لحضارتها ولاجتماعها وعمرانها، عندما تُساء إدارتها وتوظف في لعبة المصالح السياسية.
ولم يكن كثيرون من عامة الناس يعلمون ما دوّنته مراكز البحوث والدراسات العربية والأجنبية منذ عقود حول البنية المجتمعية العربية وتركيبتها الدينية والمذهبية والإثنية والقبلية الهشّة المتشظية والمتشعّبة، فقد مرّت مئات السنين على هذا التعايش العبقري بين مكونات الأمة والحضارة الواحدة التي تجتمع لغةً وديانةً وتاريخاً مشتركاً، حتى وهي موزعة سياسياً على أكثر من دولة وكيان. وهذه المكونات هي مصدر ثرائها وقوتها وعنفوانها، فإذا بها تتحول إلى عامل وهنها وضعفها ومولّداً للفرقة والدم وتصفية الأفراد والجماعات وتفكيك الدول والمؤسسات والجيوش والعمالة للأجنبي والدفاع عن الاستعمار علناً، بدون خشيةٍ أو أدنى حياء، بعد أن كان ذلك جرماً وإثماً، يعدّ من كبائر الذنوب، فلا يغتفر أبداً.
هذا هو المستنقع الجديد الذي أسنت مياهه وعفنت، لكن ذلك لم يمنع الثقافة السياسية العربية الرسمية المعاصرة من أن تشرب منه حتى الثمالة، فيسري في عروق الحكومات والدول العربية التي انقسمت وتحالفت على تلك القاعدة المذهبية الميتا- وطنية.
وقد بلغ هذا الأمر أوجه عندما تسرّب إلى أروقة جامعة الدول العربية التي ترأسها يوماً المرحوم عبد الرحمن عزام باشا (1873-1976) عند تأسيسها عقب الحرب العالمية الثانية على أنها بيت للعرب أجمعين ودولهم الخارجة حديثاً عن هيمنة الاستعمار الأوروبي، فإذا بها تتحول إلى بيت مرجع الإيواء إليه هو المذهبية والطائفية المنتصرة.
سنوات طويلة مرّت على العرب، شعوباً ودولاً وحكومات، من دون أن يحتكموا في علاقاتهم
السياسية إلى الروابط المذهبية والطائفية، فقد كانت القومية العربية والوطنية القُطرية كمصدر للشرعية أكبر قوة وأشدّ تأثيراً. ولمّا انهارت الأنظمة الوطنية والقومية أو أطاحتها قوى عالمية متجبّرة ونافذة، فُتح الطريق على مصراعيه أمام الأنظمة ذات المرجعيات الدينية والطائفية وسلطة المفتين والأئمة والمشائخ التي لم تستطع أن تصمد كثيراً، قبل أن ينهار سلطانها بسرعة في تجارب عدّة ناشئة.
ومن هذه الزاوية فقط، يمكن أن نفهم الحرب الدائرة رحاها على الأراضي السورية ومختلف المراحل التي مرّت بها، وما انتهت إليه من دخول قوى دولية جديدة حلبة الصراع، بعد أن كان أمر المنطقة حكراً على الولايات المتحدة الأميركية والحلف الأطلسي وحلفائهم العرب التقليديين، مشكّلة حلفاً جديداً يقوده، هذه المرّة، الدب الروسي الذي انجذب سريعاً إلى رائحة الدم، معلناً قيادته المعارك العسكرية، تدعمه كل من الصين وإيران كقوى دولية لا تخفي مناهضتها أو منافستها الولايات المتحدة.
وللتذكير فقط، قضى النظام السوري سنوات طويلة حليفاً رئيسياً للدول العربية المحافظة بقيادة المملكة العربية السعودية ومصر، حتى أنه اشترك معها في الحرب على العراق (17 يناير/كانون ثاني إلى 28 فبراير/شباط 1991) ضمن حلف الـ 39 دولة لتحرير الكويت حسب ما أُعلن وأُشيع آنذاك. كما انخرط النظام نفسه بعد ذلك في مؤتمر مدريد للسلام، نتيجة مباشرة لمشاركته في الحرب العالمية على العراق، بحضور إسرائيل في نوفمبر/تشرين ثاني 1991، وهو المؤتمر الذي رعاه الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش الأب، وشارك النظام السوري في مفاوضاته من أجل الصلح مع الدولة العبرية، وإبرام معاهدة معها مثيلة لمعاهدة كامب ديفيد المصرية – الصهيونية سنة 1979، وقبل توقيع اتفاقية وادي عربة الصهيونية- الأردنية سنة 1995. وقد انتهى مسار مدريد إلى الفشل الذريع، وإلى حقيقة مُرّة أدركها السوريون بالفعل، بعد أن كانوا يعلمونها بالقوة، وهي أن الصهاينة لا يريدون الانسحاب من أرض الجولان التي احتلوها سنة 1967، كما انسحبوا من سيناء، ولو كان ذلك بشروط مذلّة، وإنما يبتغون تحقيق وصفتهم المبجّلة المعروفة بـ "السلام مقابل السلام"، بدلاً من "السلام مقابل الأرض"، بما في ذلك غلق سورية مخيمات التنظيمات الفلسطينية الوطنية والقومية والإسلامية.
وقف السوريون على سراب السلام المزعوم مع إسرائيل الذي ترعاه الولايات المتحدة الأميركية، وأقنع به الرئيس المصري حسني مبارك نظيره السوري حافظ الأسد، وهو ما أدى إلى تراجع السلطات السورية عن هذا الاتجاه، مع صعود بشار الأسد إلى كرسي الرئاسة، خلفاً لوالده بداية من سنة 2000 فجاءت نتائجه عاجلة بأن رفضت سورية الانخراط في الحرب الأميركية على العراق واحتلاله وتفكيك الدولة العراقية، وحلّ جميع مؤسساتها بداية من سنة 2003، غير أن نتيجة الحرب كان لها منحى آخر، تمثل في بداية تغير التحالفات السورية، بعد اغتيال رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الأسبق سنة 2005، وإجبار الجيش السوري على الخروج من لبنان بأشهر قليلة بعد تلك العملية، في اتجاه إقامة علاقات استراتيجية مع إيران، ودعم حزب الله في حرب يوليو/ تموز 2006 ودعم حركة حماس الإسلامية وتسليحها، لاسيما في حرب غزة لسنة 2008- 2009، والانفتاح على النظام العراقي الجديد المُهيمَن عليه من آيات الله، والمدعوم في الوقت نفسه من إيران والولايات المتحدة الأميركية، على ما في ذلك من مفارقة.
ولا يمكن بأي حال فهم خفايا هذه الحرب الدائرة اليوم في سورية، وفق منطق التحليل والتأويل
الذي كان سائداً سنة 2011 على ما كان يمتلكه من قوة وشرعية آنذاك، والاقتصار على ما جدّ في ذلك الوقت من حراك شعبي، أراد أصحابه تحويله إلى ثورة تسقط النظام البعثي الحاكم، وإقامة ديمقراطية تعددية ليبرالية على الشاكلة التونسية، أو حتى المصرية. فذلك الحراك لم يستطع أن يتحول إلى مجرد انتفاضة، ناهيك أن يكون ثورة شعبية مدنية وسلمية محددة الأهداف ومكتملة الأركان. ولم يجهضه فقط بشار الأسد والدولة السورية بوصفها من يحتكر العنف المشروع، كما هو شأن أي دولة، وفق النظرية السياسية لرائد علم الاجتماع، الألماني ماكس فيبر، وإنما أجهضته القوى المحافظة العربية والدولية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، الملتقية آنياً مع تركيا الإسلامية –الأردوغانية، حليفة الدولة العبرية منذ سنة 1949، والعضو في الحلف الأطلسي، وذات المطامح العثمانية الجديدة. التقطت هذه القوى لحظة استعمال النظام السوري العنف ضدّ المحتجين للتدخل مباشرة في مجريات الأمور على الشاكلة الليبية تماماً. علماً وأننا لم نقرأ يوماً في المصنفات التاريخية والسوسيولوجية للثورات عن ثورة تدعمها الدول الاستعمارية القديمة أو الجديدة أو القوى والدول العربية المحافظة التي لم تخف توجسها وخشيتها من الثورة التونسية، أو المصرية، بوصفها الأصل في الثورات والانتفاضات العربية، ناهيك عن مقاومتها وإجهاضها ثورات عربية تقليدية، وأخرى في أماكن شتى من العالم.
أُجهض الحراك السوري في اليوم الذي تبنته القوى الدولية التقليدية وحليفاتها العربية، فموّلته وسلّحته وتولّت أمره أجهزتها الاستخباراتية، بعد أن استحدثت له غرف عمليات خاصة، فجنّدت له كل المرتزقة من العالم للقتال بمقابل من أجل إطاحة نظام الأسد. وقد انطلت الحيلة على فريق واسع من الشباب العربي، اعتقدوا أن سورية هي أرض جهاد، فكانوا لقمة سائغة استخدمتها تنظيمات الإسلام السياسي والمجوعات التكفيرية للقتال في معركةٍ، توهموا أنها معركتهم، والحال أنها معركة قوى دولية وإقليمية، لها مصالح استراتيجية وإرادات هيمنة كامنة ومعلنة، تنزع إلى تغيير المعطيات الجيو-سياسية للمنطقة برمتها.
أين الخلل، إذن، بعد تفكيك طبيعة الصراع وخفايا الأمور في الحرب السورية، في دخول الروس على الخط في لعبة المصالح والرهانات والسيطرة على الشعوب والثروات التي لم تختف يوماً من العلاقات الدولية، وإنما تغيرت أساليبها وأدواتها وبعض مظاهرها؟
فإذا كان الأمر يتعلق باحتلال روسيا سورية، فإن المنطقة برمتها تعيش تحت الهيمنة الأميركية
والغربية، ولا توجد دولة واحدة تمارس سيادتها على أراضيها وأجوائها وبحارها، وتمتلك قرارها الوطني بالكامل. وإذا كانت روسيا قادمة لحماية مصالحها في سورية، و"الشرق الأوسط" ككل، فقد سبقتها في ذلك الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة. وأخيراً، إذا كانت روسيا مكلّفة بالقيام بدور موكل إليها من أميركا، كما يروّج بعضهم، فإن النقاش برمته سيصبح ساذجاً وغير مقنع بالمرّة في هذه الحالة، والافتراض الممكن بدل ذلك أن روسيا استطاعت دخول لعبة الكبار، منذ تدخلها في أوكرانيا، وضمها شبه جزيرة القُرم، من دون أي ردّ فعل من الولايات المتحدة وحلفائها، كما وقع في الكويت سنة 1991، لأنها باتت قادرة على ذلك، بعد أن فرضت شروطها، فأصبحت مقبولة في ناديهم الذي اعتاد، منذ زمن طويل، توزيع الريع بمعناه السياسي والاقتصادي والمالي.
وبالتالي، تبدو أغلب الحجج التي يُحاجج بها النظام السوري اليوم من خصومه ومناوئيه في الاستنجاد بـ"الدب" الروسي لحماية نفسه والاستمرار في السلطة ضعيفة، ويغيب عنها التماسك الداخلي والتماهي مع الوقائع الخارجية، بل إن حجّته تبدو أكثر قوة، إذا كان يستثمر في التدخل الروسي، لإعادة الأراضي السورية السائبة والمدوعشة إلى سلطة الدولة المركزية في دمشق. أما الدول التي تحاججه وتدينه، بسبب دعوته دولة أجنبية لكي تحميه، موفراً لها قواعد عسكرية، فقد كانت الأسبق في الاستنجاد بقوى خارجية، ومنحها مواطئ قدم عسكرية على أراضيها، في أيام الحرب والسلم على حدّ السواء.
لم تعد المسألة تتعلق ببقاء نظام الأسد من عدمه، لأن الأمر يبدو أنه حُسم في أروقة القوى الكبرى، بعد التضحية بآلاف الشباب "المؤمن المتدين من أنصار الإسلام السياسي" في جبهات القتال، وبعد استنزاف الدول العربية الغنية في ثرواتها وأموالها لصالح شركات تصنيع الأسلحة، وإنما باتت تتعلق بإعادة تشكيل الخارطة السياسية العربية، ومن ورائها لعبة الثروة والهيمنة. والأمر لم يعد مختلفاً لدى عرب كثيرين في أن يكونوا تُبعاً للإمبريالية الأميركية، أو "للإمبريالية الروسية". أما قضايا التحرر والاستقلال والسيادة والنهضة والوحدة والتقدم، فإنها مجرد مصطلحات فقدت دلالاتها ومعانيها، في ظل غياب المشروع العربي، أو حتى من يمثّله، فلا حاجة لمزيد من "فلكلرة" القيم السياسية العربية الجميلة، وإفراغها مما تبقى فيها من محتويات.
ويعتبر تغيير اتجاه الثورة اليمنية، وانتفاضة فقراء اليمن، إلى حرب طائفية أخرى بين فريق سني تقوده المملكة العربية السعودية، بمسمى التحالف العربي، وتقاتل باسمه، وآخر شيعي يسمونه الحوثيين ويكنّي نفسه حزب أنصار الله مدعوم من إيران الدولة التي تتبنى رسمياً المذهب الشيعي، على الرغم من تنوع مذاهب شعوبها، مثالاً صارخاً على تفشي هذه الآفة الثقافية والمذهبية والدينية القاتلة للمجتمعات، والمدمّرة لحضارتها ولاجتماعها وعمرانها، عندما تُساء إدارتها وتوظف في لعبة المصالح السياسية.
ولم يكن كثيرون من عامة الناس يعلمون ما دوّنته مراكز البحوث والدراسات العربية والأجنبية منذ عقود حول البنية المجتمعية العربية وتركيبتها الدينية والمذهبية والإثنية والقبلية الهشّة المتشظية والمتشعّبة، فقد مرّت مئات السنين على هذا التعايش العبقري بين مكونات الأمة والحضارة الواحدة التي تجتمع لغةً وديانةً وتاريخاً مشتركاً، حتى وهي موزعة سياسياً على أكثر من دولة وكيان. وهذه المكونات هي مصدر ثرائها وقوتها وعنفوانها، فإذا بها تتحول إلى عامل وهنها وضعفها ومولّداً للفرقة والدم وتصفية الأفراد والجماعات وتفكيك الدول والمؤسسات والجيوش والعمالة للأجنبي والدفاع عن الاستعمار علناً، بدون خشيةٍ أو أدنى حياء، بعد أن كان ذلك جرماً وإثماً، يعدّ من كبائر الذنوب، فلا يغتفر أبداً.
هذا هو المستنقع الجديد الذي أسنت مياهه وعفنت، لكن ذلك لم يمنع الثقافة السياسية العربية الرسمية المعاصرة من أن تشرب منه حتى الثمالة، فيسري في عروق الحكومات والدول العربية التي انقسمت وتحالفت على تلك القاعدة المذهبية الميتا- وطنية.
وقد بلغ هذا الأمر أوجه عندما تسرّب إلى أروقة جامعة الدول العربية التي ترأسها يوماً المرحوم عبد الرحمن عزام باشا (1873-1976) عند تأسيسها عقب الحرب العالمية الثانية على أنها بيت للعرب أجمعين ودولهم الخارجة حديثاً عن هيمنة الاستعمار الأوروبي، فإذا بها تتحول إلى بيت مرجع الإيواء إليه هو المذهبية والطائفية المنتصرة.
سنوات طويلة مرّت على العرب، شعوباً ودولاً وحكومات، من دون أن يحتكموا في علاقاتهم
ومن هذه الزاوية فقط، يمكن أن نفهم الحرب الدائرة رحاها على الأراضي السورية ومختلف المراحل التي مرّت بها، وما انتهت إليه من دخول قوى دولية جديدة حلبة الصراع، بعد أن كان أمر المنطقة حكراً على الولايات المتحدة الأميركية والحلف الأطلسي وحلفائهم العرب التقليديين، مشكّلة حلفاً جديداً يقوده، هذه المرّة، الدب الروسي الذي انجذب سريعاً إلى رائحة الدم، معلناً قيادته المعارك العسكرية، تدعمه كل من الصين وإيران كقوى دولية لا تخفي مناهضتها أو منافستها الولايات المتحدة.
وللتذكير فقط، قضى النظام السوري سنوات طويلة حليفاً رئيسياً للدول العربية المحافظة بقيادة المملكة العربية السعودية ومصر، حتى أنه اشترك معها في الحرب على العراق (17 يناير/كانون ثاني إلى 28 فبراير/شباط 1991) ضمن حلف الـ 39 دولة لتحرير الكويت حسب ما أُعلن وأُشيع آنذاك. كما انخرط النظام نفسه بعد ذلك في مؤتمر مدريد للسلام، نتيجة مباشرة لمشاركته في الحرب العالمية على العراق، بحضور إسرائيل في نوفمبر/تشرين ثاني 1991، وهو المؤتمر الذي رعاه الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش الأب، وشارك النظام السوري في مفاوضاته من أجل الصلح مع الدولة العبرية، وإبرام معاهدة معها مثيلة لمعاهدة كامب ديفيد المصرية – الصهيونية سنة 1979، وقبل توقيع اتفاقية وادي عربة الصهيونية- الأردنية سنة 1995. وقد انتهى مسار مدريد إلى الفشل الذريع، وإلى حقيقة مُرّة أدركها السوريون بالفعل، بعد أن كانوا يعلمونها بالقوة، وهي أن الصهاينة لا يريدون الانسحاب من أرض الجولان التي احتلوها سنة 1967، كما انسحبوا من سيناء، ولو كان ذلك بشروط مذلّة، وإنما يبتغون تحقيق وصفتهم المبجّلة المعروفة بـ "السلام مقابل السلام"، بدلاً من "السلام مقابل الأرض"، بما في ذلك غلق سورية مخيمات التنظيمات الفلسطينية الوطنية والقومية والإسلامية.
وقف السوريون على سراب السلام المزعوم مع إسرائيل الذي ترعاه الولايات المتحدة الأميركية، وأقنع به الرئيس المصري حسني مبارك نظيره السوري حافظ الأسد، وهو ما أدى إلى تراجع السلطات السورية عن هذا الاتجاه، مع صعود بشار الأسد إلى كرسي الرئاسة، خلفاً لوالده بداية من سنة 2000 فجاءت نتائجه عاجلة بأن رفضت سورية الانخراط في الحرب الأميركية على العراق واحتلاله وتفكيك الدولة العراقية، وحلّ جميع مؤسساتها بداية من سنة 2003، غير أن نتيجة الحرب كان لها منحى آخر، تمثل في بداية تغير التحالفات السورية، بعد اغتيال رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الأسبق سنة 2005، وإجبار الجيش السوري على الخروج من لبنان بأشهر قليلة بعد تلك العملية، في اتجاه إقامة علاقات استراتيجية مع إيران، ودعم حزب الله في حرب يوليو/ تموز 2006 ودعم حركة حماس الإسلامية وتسليحها، لاسيما في حرب غزة لسنة 2008- 2009، والانفتاح على النظام العراقي الجديد المُهيمَن عليه من آيات الله، والمدعوم في الوقت نفسه من إيران والولايات المتحدة الأميركية، على ما في ذلك من مفارقة.
ولا يمكن بأي حال فهم خفايا هذه الحرب الدائرة اليوم في سورية، وفق منطق التحليل والتأويل
أُجهض الحراك السوري في اليوم الذي تبنته القوى الدولية التقليدية وحليفاتها العربية، فموّلته وسلّحته وتولّت أمره أجهزتها الاستخباراتية، بعد أن استحدثت له غرف عمليات خاصة، فجنّدت له كل المرتزقة من العالم للقتال بمقابل من أجل إطاحة نظام الأسد. وقد انطلت الحيلة على فريق واسع من الشباب العربي، اعتقدوا أن سورية هي أرض جهاد، فكانوا لقمة سائغة استخدمتها تنظيمات الإسلام السياسي والمجوعات التكفيرية للقتال في معركةٍ، توهموا أنها معركتهم، والحال أنها معركة قوى دولية وإقليمية، لها مصالح استراتيجية وإرادات هيمنة كامنة ومعلنة، تنزع إلى تغيير المعطيات الجيو-سياسية للمنطقة برمتها.
أين الخلل، إذن، بعد تفكيك طبيعة الصراع وخفايا الأمور في الحرب السورية، في دخول الروس على الخط في لعبة المصالح والرهانات والسيطرة على الشعوب والثروات التي لم تختف يوماً من العلاقات الدولية، وإنما تغيرت أساليبها وأدواتها وبعض مظاهرها؟
فإذا كان الأمر يتعلق باحتلال روسيا سورية، فإن المنطقة برمتها تعيش تحت الهيمنة الأميركية
وبالتالي، تبدو أغلب الحجج التي يُحاجج بها النظام السوري اليوم من خصومه ومناوئيه في الاستنجاد بـ"الدب" الروسي لحماية نفسه والاستمرار في السلطة ضعيفة، ويغيب عنها التماسك الداخلي والتماهي مع الوقائع الخارجية، بل إن حجّته تبدو أكثر قوة، إذا كان يستثمر في التدخل الروسي، لإعادة الأراضي السورية السائبة والمدوعشة إلى سلطة الدولة المركزية في دمشق. أما الدول التي تحاججه وتدينه، بسبب دعوته دولة أجنبية لكي تحميه، موفراً لها قواعد عسكرية، فقد كانت الأسبق في الاستنجاد بقوى خارجية، ومنحها مواطئ قدم عسكرية على أراضيها، في أيام الحرب والسلم على حدّ السواء.
لم تعد المسألة تتعلق ببقاء نظام الأسد من عدمه، لأن الأمر يبدو أنه حُسم في أروقة القوى الكبرى، بعد التضحية بآلاف الشباب "المؤمن المتدين من أنصار الإسلام السياسي" في جبهات القتال، وبعد استنزاف الدول العربية الغنية في ثرواتها وأموالها لصالح شركات تصنيع الأسلحة، وإنما باتت تتعلق بإعادة تشكيل الخارطة السياسية العربية، ومن ورائها لعبة الثروة والهيمنة. والأمر لم يعد مختلفاً لدى عرب كثيرين في أن يكونوا تُبعاً للإمبريالية الأميركية، أو "للإمبريالية الروسية". أما قضايا التحرر والاستقلال والسيادة والنهضة والوحدة والتقدم، فإنها مجرد مصطلحات فقدت دلالاتها ومعانيها، في ظل غياب المشروع العربي، أو حتى من يمثّله، فلا حاجة لمزيد من "فلكلرة" القيم السياسية العربية الجميلة، وإفراغها مما تبقى فيها من محتويات.