خيّم الرماد على الحي، وتيبّست العرائش المتدلية من أسطح البيوت، فغادرت طيور الحمام أقفاصها القابعة على أسطح البيوت القديمة.
عند بيت النجار (أبو سالم)، توقّفت سيّارة مستطيلة بيضاء ببلورها المعتم، وترجّل منها رجال بلا ملامح، تتدلى على بطونهم المنتفخة حبال رصاص لامع، وفتحوا صندوقها الخلفي ليخرجوا منه كيساً قماشياً عليه بقع دماء، ويرموه أمام الباب، ثم دخلوا بسيارتهم ليهدر محركها بقوة مبتعدة عن البيت مخلّفة غمامةً سوداء تتصاعد في فضاء الشارع الراكد.
فتح مختار الحي أبو أيهم نافذته مستطلعاً المكان من بين القضبان الحديدية، وأخذت تخرّش أنفه رائحة مطاط محترق رسّخته السيارة المغادرة على الإسفلت المتصدّع بفعل مجنزرات عبرته منذ أيام، فخرج من بيته ليقف أمام باب أبو سالم محدقاً بالكيس القماشي المتشبّع بالدماء، وهز برأسه ضارباً كفاً بكف متمتماً بكلمات غير مفهومة.
***
منذ أسابيع كان قد اختفى أبو سالم أثناء خروجه في مظاهرة حاشدة في المدينة.
في ذلك اليوم، بدأ الناس يتجمهرون في ساحات المدينة وهم يهتفون بالحرية، فنهض أبو سالم واتجه إلى طيور الحمام التي كانت تهدل متخبطة داخل قفص خشبي داكن له مشبك معدني أصابه الصدأ بمرور الزمن، تأمّل القفص قليلاً، ثم فتح المشبك ومدّ يده وبدأ يحرّر الطيور واحداً تلو الآخر، وأطلقها في السماء، ثم استقام وشدّ إزاره ملثماً وجهه بشماخ مبرقع، وهمّ بالخروج من بيته بعينين غائمتين، فتوسّلت إليه زوجته وهي تشده من قميصه خائفةً، فالتفت إليها وقال لها بحزم:
ـ البلد تشتعل .. لن أقعد في بيتي عاجزاً كالنساء..
وأطبق الباب خلفه بكبرياء.
حينئذٍ، بدأت أصوات الرصاص تتفجر في الأحياء، وفي كل مرة تحدثها جلبة أقدام العائدين إلى بيوتهم هرباً من الاعتقالات، تفتح أم سالم بابها لتستطلع الشارع، علّه يكون زوجها الغائب.
بعد أن أفلتْ شمس المدينة، اطمأنتْ إلى صغيرها سالم غافياً، فارتدت عباءتها السوداء وخرجت باحثة عن زوجها في العتمة المحفوفة بالدماء.
رأت العائدين إلى الحي يتعثرون بأكياس القمامة المتراكمة في الطريق وبأحجار مبعثرة تداعت من البيوت، فتاهت في الصراخ والعويل، وأصوات سيارات الإسعاف تزعق من بعيد، كان المختار أبو أيهم عائداً من الحي المجاور بأنفاس متقطعة حاملاً أمه الهرمة التي تراكم فوق عباءتها الرماد، وأخذ يوبّخ أم سالم لخروجها من بيتها، وقال مستنكراً:
ـ أم سالم !!... ما الذي أخرجك من بيتك في هذه الظروف يا امرأة ..
اقرأ أيضاً: معارك صغيرة
أجابت لاهثةً:
ـ أبو سالم لم يعد إلى البيت ..
قاطعها غاضباً:
ـ لا عليك .. عودي إلى بيتك وسأرى ما القصة ..
مع غروب كل شمس، تتراكم صور زوجها الغائب وتزداد ذكرياتها اشتعالاً، ومع اشتداد وقع الظلام في الأزقة تزداد أسئلة صغيرها إلحاحاً (أين أبي؟..)، ليرسم انتظارها اليومي هالةً رمادية حول عينيها المرهقتين.
***
تشبّع الكيس القماشي المرتمي أمام بيت أبو سالم بلونٍ أحمر دافئ.
وقرع المختار الجرس بكآبة، فشقّت أم سالم الباب قليلاً وعلى رأسها منشفة قماشية مزركشة اتخذتها كحجاب ممسكة بطرفيه كملقط، وأخذت تتفرّس وجهه، فرأت الخيبة مرتسمة على جبينه الأجعد، ثم استقرّ وجهها على ذلك الكيس المرتمي إلى جواره.
قال المختار مواسياً:
ـ أم سالم .. لا تحزني .. فزوجك شهيد..
غطّت وجهها بكفيها موارية كتلةً ملتهبةً من الاختناق.
وأردف بحزم:
ـ التشييع صباح الغد ..
جرجرت الكيس إلى الداخل بيدين مرتجفتين، وتعلّق صغيرها سالم بثوبها محدقاً بالدماء المتسربة من الكيس والتي رسمت خطوطاً ملتوية على أرض البيت، فيما استدار المختار باتجاه بيته محوقلاً.
***
في ردهة البيت المطلّة بفتحتها إلى السماء، سحبت أم سالم كرسياً حديدياً قديماً، ونفضت عنه بقايا ريش حمامٍ راحل، وجلست أمام الكيس بوجه بارد وعينين غائمتين، فأعادت الذكريات الدفء إلى عروقها من جديد.
مع كل غروب تفرغ من زخرفة آنية فخار جديدة تكون قد أعدّتها للبيع في سوق المدينة، فتغسل يديها من زيت الألوان، وتعتلي سطح البيت مسندة صغيرها إلى الحافة لتتيح له رؤية والده عائداً من ورشته في الأحياء المجاورة.. يمشي بصدر بارز وذراعين منهكين يتحركان بتناسق مع قدميه، وما إن يلمحهما حتى يلوّح لهما بابتسامة عريضة، فيتوارى لحظات في البقّالية خارجاً منها بأكياس ملونة من البطاطا المجففة وقطع البسكويت.
تستقبله خلف الباب ليبتسم قلبه أمام وجهها المضيء وهو يتأمل حاجبيها السميكين المقوسين والمشذبين بعناية، ويبدأ بقذف طفله عالياً فيشهق الطفل في الهواء فرحاً ويعود ليستقبله بزنديه الصلبين من جديد، وما زالت رائحة جلده بعد الماء الساخن تعبق دافئة في قلبها، كانت تبوح له مغمضة العينين: "أحبّ رائحة جلدك.."، فيجيب خيالها على المرآة ضاحكاً وهو ينشّف شعره الرطب: "وأنا أعشق حاجبيك.."، فيشغل آلة التسجيل الحديثة ويعلو الصوت على إيقاع الأغنيات الشعبية.
***
أشرقت شمس باردة، وأفاقت أم سالم من غفوتها وهي تنفض الخدر الذي أصاب يدها التي كانت وسادة تتكئ عليها الذكريات، كانت الدماء التي صبغت الكيس قد جفّت، فبدت أقلّ قتامة، وراحت تتأمّل صغيرها مبتسمة، حيث كان يجلس القرفصاء منتعلاً حذاءه كعادته بطريقة معاكسة، وبكتلته الضئيلة أسند رأسه إلى كفيه مفتشاً بعينيه البرّاقتين في الريش المبعثر داخل قفص الحمام الخاوي القابع في الركن المعتم للردهة.
التفت إلى والدته وتأتأ بنزق:
ـ متى ترجع الطيور إلى بيتها؟
مسحت رأسه وهمست له مشيرة بإصبعها نحو الأعلى:
ـ الطيور تحلّق هناك في السماء.. ولا تحب الأقفاص.
احتوت طفلها بين ذراعيها، ففرد كفّه مبتسماً ليريها كنزه الثمين، كانت ريشة طيرٍ بيضاء التقطها وهي تهوي تائهة من سماء المدينة.. حيث كانت تدور حول نفسها كمروحة في الرماد.
فتح مختار الحي أبو أيهم نافذته مستطلعاً المكان من بين القضبان الحديدية، وأخذت تخرّش أنفه رائحة مطاط محترق رسّخته السيارة المغادرة على الإسفلت المتصدّع بفعل مجنزرات عبرته منذ أيام، فخرج من بيته ليقف أمام باب أبو سالم محدقاً بالكيس القماشي المتشبّع بالدماء، وهز برأسه ضارباً كفاً بكف متمتماً بكلمات غير مفهومة.
***
منذ أسابيع كان قد اختفى أبو سالم أثناء خروجه في مظاهرة حاشدة في المدينة.
في ذلك اليوم، بدأ الناس يتجمهرون في ساحات المدينة وهم يهتفون بالحرية، فنهض أبو سالم واتجه إلى طيور الحمام التي كانت تهدل متخبطة داخل قفص خشبي داكن له مشبك معدني أصابه الصدأ بمرور الزمن، تأمّل القفص قليلاً، ثم فتح المشبك ومدّ يده وبدأ يحرّر الطيور واحداً تلو الآخر، وأطلقها في السماء، ثم استقام وشدّ إزاره ملثماً وجهه بشماخ مبرقع، وهمّ بالخروج من بيته بعينين غائمتين، فتوسّلت إليه زوجته وهي تشده من قميصه خائفةً، فالتفت إليها وقال لها بحزم:
ـ البلد تشتعل .. لن أقعد في بيتي عاجزاً كالنساء..
وأطبق الباب خلفه بكبرياء.
حينئذٍ، بدأت أصوات الرصاص تتفجر في الأحياء، وفي كل مرة تحدثها جلبة أقدام العائدين إلى بيوتهم هرباً من الاعتقالات، تفتح أم سالم بابها لتستطلع الشارع، علّه يكون زوجها الغائب.
بعد أن أفلتْ شمس المدينة، اطمأنتْ إلى صغيرها سالم غافياً، فارتدت عباءتها السوداء وخرجت باحثة عن زوجها في العتمة المحفوفة بالدماء.
رأت العائدين إلى الحي يتعثرون بأكياس القمامة المتراكمة في الطريق وبأحجار مبعثرة تداعت من البيوت، فتاهت في الصراخ والعويل، وأصوات سيارات الإسعاف تزعق من بعيد، كان المختار أبو أيهم عائداً من الحي المجاور بأنفاس متقطعة حاملاً أمه الهرمة التي تراكم فوق عباءتها الرماد، وأخذ يوبّخ أم سالم لخروجها من بيتها، وقال مستنكراً:
ـ أم سالم !!... ما الذي أخرجك من بيتك في هذه الظروف يا امرأة ..
اقرأ أيضاً: معارك صغيرة
أجابت لاهثةً:
ـ أبو سالم لم يعد إلى البيت ..
قاطعها غاضباً:
ـ لا عليك .. عودي إلى بيتك وسأرى ما القصة ..
مع غروب كل شمس، تتراكم صور زوجها الغائب وتزداد ذكرياتها اشتعالاً، ومع اشتداد وقع الظلام في الأزقة تزداد أسئلة صغيرها إلحاحاً (أين أبي؟..)، ليرسم انتظارها اليومي هالةً رمادية حول عينيها المرهقتين.
***
تشبّع الكيس القماشي المرتمي أمام بيت أبو سالم بلونٍ أحمر دافئ.
وقرع المختار الجرس بكآبة، فشقّت أم سالم الباب قليلاً وعلى رأسها منشفة قماشية مزركشة اتخذتها كحجاب ممسكة بطرفيه كملقط، وأخذت تتفرّس وجهه، فرأت الخيبة مرتسمة على جبينه الأجعد، ثم استقرّ وجهها على ذلك الكيس المرتمي إلى جواره.
قال المختار مواسياً:
ـ أم سالم .. لا تحزني .. فزوجك شهيد..
غطّت وجهها بكفيها موارية كتلةً ملتهبةً من الاختناق.
وأردف بحزم:
ـ التشييع صباح الغد ..
جرجرت الكيس إلى الداخل بيدين مرتجفتين، وتعلّق صغيرها سالم بثوبها محدقاً بالدماء المتسربة من الكيس والتي رسمت خطوطاً ملتوية على أرض البيت، فيما استدار المختار باتجاه بيته محوقلاً.
***
في ردهة البيت المطلّة بفتحتها إلى السماء، سحبت أم سالم كرسياً حديدياً قديماً، ونفضت عنه بقايا ريش حمامٍ راحل، وجلست أمام الكيس بوجه بارد وعينين غائمتين، فأعادت الذكريات الدفء إلى عروقها من جديد.
مع كل غروب تفرغ من زخرفة آنية فخار جديدة تكون قد أعدّتها للبيع في سوق المدينة، فتغسل يديها من زيت الألوان، وتعتلي سطح البيت مسندة صغيرها إلى الحافة لتتيح له رؤية والده عائداً من ورشته في الأحياء المجاورة.. يمشي بصدر بارز وذراعين منهكين يتحركان بتناسق مع قدميه، وما إن يلمحهما حتى يلوّح لهما بابتسامة عريضة، فيتوارى لحظات في البقّالية خارجاً منها بأكياس ملونة من البطاطا المجففة وقطع البسكويت.
تستقبله خلف الباب ليبتسم قلبه أمام وجهها المضيء وهو يتأمل حاجبيها السميكين المقوسين والمشذبين بعناية، ويبدأ بقذف طفله عالياً فيشهق الطفل في الهواء فرحاً ويعود ليستقبله بزنديه الصلبين من جديد، وما زالت رائحة جلده بعد الماء الساخن تعبق دافئة في قلبها، كانت تبوح له مغمضة العينين: "أحبّ رائحة جلدك.."، فيجيب خيالها على المرآة ضاحكاً وهو ينشّف شعره الرطب: "وأنا أعشق حاجبيك.."، فيشغل آلة التسجيل الحديثة ويعلو الصوت على إيقاع الأغنيات الشعبية.
***
أشرقت شمس باردة، وأفاقت أم سالم من غفوتها وهي تنفض الخدر الذي أصاب يدها التي كانت وسادة تتكئ عليها الذكريات، كانت الدماء التي صبغت الكيس قد جفّت، فبدت أقلّ قتامة، وراحت تتأمّل صغيرها مبتسمة، حيث كان يجلس القرفصاء منتعلاً حذاءه كعادته بطريقة معاكسة، وبكتلته الضئيلة أسند رأسه إلى كفيه مفتشاً بعينيه البرّاقتين في الريش المبعثر داخل قفص الحمام الخاوي القابع في الركن المعتم للردهة.
التفت إلى والدته وتأتأ بنزق:
ـ متى ترجع الطيور إلى بيتها؟
مسحت رأسه وهمست له مشيرة بإصبعها نحو الأعلى:
ـ الطيور تحلّق هناك في السماء.. ولا تحب الأقفاص.
احتوت طفلها بين ذراعيها، ففرد كفّه مبتسماً ليريها كنزه الثمين، كانت ريشة طيرٍ بيضاء التقطها وهي تهوي تائهة من سماء المدينة.. حيث كانت تدور حول نفسها كمروحة في الرماد.