01 نوفمبر 2024
الظلم مؤذن بخراب العمران
تتوج رؤية ابن خلدون في علاقة شبكات الفساد والاستبداد بإشكالية مهمة عن ظلم الحاكم للرعية واستبداده بها، وطغيانه في معاملته لها، وإسرافه في البذخ والترف، ما يقوده إلى المبالغة في الجباية التي تدفع الناس إلى القعود عن الكسب، وهذا كله مؤذنٌ بخراب العمران وزواله، بيد أن ابن خلدون يصل إلى قمة تأشيراته الدقيقة واستنتاجاته العميقة، حينما يقرّر سنة قاضية ماضية بلا مواربة، مفادها "الظلم مؤذن بخراب العمران"؛ فينتقل بذلك نقلة نوعية أخرى، بعد إيراده مقدمات تمكن لشبكات الفساد وسياسات تفضي إلى تلازم الجباية والترف، ومسالك تمكّن لفساد السلطة والحاشية في الاستئثار بالمنافع والعمل في ساحات احتكار الاقتصاد المرتبط بحركة معاش الناس، وعمران حياتهم، والجباية الممولة لمزيد من الترف، فانضافت مسالك الظلم إلى شبكات الفساد، وتراكمت، فأدت إلى زيادة كساد وحال بطالة مستعصية. ومع تمكّن هذه الحال وحلقاتها المفرغة الجهنمية، فيتحول مع تراكم الفساد والظلم والترف والجباية والبطالة، يكون ذلك كله تمهيدا لحال خراب؛ وإحكام مسائل ومسالك من الممكن لها أن تؤدّي إلى زوال العمران برمته، إزاء ما قام به الحاكم حيال رعيته، غير آبه بتراكم هذا كله، ومن ثم فهو يفتتح هذا الفصل الذي أثبته بعبارة جامعة، لما يرتئيه من صور الظلم التي من الممكن لها أن تقود الدولة إلى الخراب، ويحذر الحاكم منها؛ إذ يبدأ قائلا: "اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم. وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك".
يحمل ابن خلدون إشاراته وتنبيهاته، محذّرا من مغبة هذا الظلم الذي يصفه من جرّاء الجُرم الأكبر، وهو الظلم المتراكم في حق الرعية والجرائم المتوالية في حق العمران، فيصفه
بالعدوان والاعتداء، قائلا: "فإذا كان الاعتداء كثيرا عامّا في جميع أبواب المعاش، كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه الآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها". ثم يستطرد مبينا العاقبة قائلا: "فإذا قعد الناس عن المعاش، وانقبضت أيديهم عن المكاسب، كسدت أسواق العمران، وانتقضت الأحوال وذعر الناس في الآفاق، من غير تلك الإيالة في طلب الرزق، فيما خرج عن نطاقها، فخفّ ساكن القطر، وخلت دياره، وخرجت أمصاره، واختل باختلال حال الدولة والسلطان، لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة". ويعرض لصور من الظلم ويعدّد لصور من العاقبة الوخيمة التي سوف تفضي إليها، ثم يصل إلى الخاتمة التي يريد أن يقود ذهن القارئ إليها أن كل تلك الصور من العواقب إنما هي صور لخراب العمران وزواله، وانهيار كيان الدولة وانحساره.
يعيد ابن خلدون تعريف الظلم ومنظوماته، باعتباره حالة عامة وطامة كبرى تنتشر في كل زوايا وأركان وعلاقات العمران، وما يترتب عليه من فساد، من أنه هو أخذ المال أو الملك من يديها كله من غير عوض، ولا سبب، كما هو المشهود؛ بل الظلم أعم من ذلك. "فكل من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه"؛ فجباة الأموال بغير حقها ظلمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون حقوق الناس ظلمة وغصَّاب الأملاك على العموم ظلمة، ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الآمال من أهله. ويستكمل ابن خلدون عناصر شبكة فهمه العميق والدقيق والرصين لحالة الظلم والعدوان والاستبداد المفضية إلى الفساد بالحديث عن أصول العمران في سياق يستدعي فيه حال العمران منسوبا لحال المقاصد الكلية العامة للشريعة من حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال، بحيث يجمع إلى شبكته التفسيرية، فيعقد علاقة لا تنفصم بين ميزان المصالح وميزان الأضرار. "واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ثبت عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذنٌ بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المراعاة للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة، من حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال"، فلما كان الظلم كما رأيت مؤذنًا بانقطاع النوع لما أدّى إليه من تخريب.. فكانت حكمة الحظر فيه موجودة وكان تحريمه ضروريًا ومهمًا.
"ذلك أن الظلم لا يقدر عليه إلا من لا يُقدر عليه لأنه إنما يقع من أهل القدرة والسلطان.. إنما تعني بقدرة الظالم اليد المبسوطة التي لا تعارضها قدرة فهي المؤذنة بالخراب.. ومن أشد الظلمات وأعظمها في فساد العمران تكليف الأعمال وتخسير الرعايا بغير حق.. فإذا كلفوا العمل في غير شأنهم واتخذوا سخريًا في معاشهم بطل كسبهم واغتصبوا قيمة علهم ذلك وهو متمولهم فدخل عليهم الضرر وذهب لهم حظ كبير من معاشهم، بل هو معاشهم بالجملة".. ومع تواري آمالهم في العمارة، فقدوا من السعي فيها جملة "فأدى ذلك إلى انتقاض العمران وتخريبه".
وأعظم من ذلك في الظلم وإفساد العمران والدولة التسلط على أموال الناس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان، ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب، والإكراه في الشراء
والبيع.. وقد يعمم ذلك أصناف التجار المقيمين بالمدينة والواردين.. فتشمل الخسارة سائر الأصناف والطبقات، وتتوالى على الساعات، وتجحف برؤوس الأموال ولا يجدون عنها وليجة إلا القعود عن الأسواق لذهاب رؤوس الأموال في جبرها بالأرباح، ويتثاقل الواردون من الآفاق لشراء البضائع وبيعها من أجل ذلك، فتكسد الأسواق، ويبطل معاش الرعايا.. وتنقص جباية السلطان أو تفسد". ويؤول ذلك إلى تلاشي الدولة وفساد عمران المدينة، ويتطرق هذا الخطر على التدريج ولا يشعر به. ويبين بن خلدون، في ختام تناوله تجليات الظلم الذي يؤذن بخراب العمران، أن أخذ الأموال مجانا والعدوان على الناس في أموالهم وحرماتهم ودمائهم وسائر أعراضهم، هو مفضٍ إلى الخلل والفساد وانتقاض الدولة سريعا لما ينشأ عنه من الهرج المفضي إلى الانتقاض؛ وانتقاض العمران بالهرج أو بطلان المعاش". "واعلم أن الداعي لذلك كله إنما هو حاجة الدولة والسلطان إلى الإكثار من المال، بما يعرض لهم من الترف في الأحوال، فتكثر نفقاتهم، ويعظم الخرج، ولا يفي به الدخل على القوانين المعتادة، فيستحدثون ألقابًا ووجوها يوسعون بها الجباية، ليفي لهم الدخل بالخرج، ثم لا يزال الترف يزيد، والخروج بسببه يكثر، "الحاجة إلى أموال الناس تشتد، ونطاق الدولة بذلك يزيد إلى أن تنمحي دائرتها ويذهب رسمها ويغلبها طالبها".
الظالم واستمرار ظلمه علامة شؤم وخراب، فإذا تُرك يواصل ظلمه، ويراكم خرابه وتخريبه، يأتي على جملة العمران، ويأتي على المعاش بالبطلان. الظلم ظلمات، يزداد ويتراكم، ويشيع ويتعاظم؛ والدائرة المفرغة تعمل عملها، استنادا إلى سنن الاجتماع الماضية، وقوانين العمران القاضية، فتنقطع آمال الإنسان، وينتقض العمران من جراء ما يرتكب بحقه من اعتداء وعدوان؛ فـ"الظلم مؤذنٌ بخراب العمران"، الكيان والإنسان والأوطان.. فأين من يقاوم الظلم وخراب العمران؟
يحمل ابن خلدون إشاراته وتنبيهاته، محذّرا من مغبة هذا الظلم الذي يصفه من جرّاء الجُرم الأكبر، وهو الظلم المتراكم في حق الرعية والجرائم المتوالية في حق العمران، فيصفه
يعيد ابن خلدون تعريف الظلم ومنظوماته، باعتباره حالة عامة وطامة كبرى تنتشر في كل زوايا وأركان وعلاقات العمران، وما يترتب عليه من فساد، من أنه هو أخذ المال أو الملك من يديها كله من غير عوض، ولا سبب، كما هو المشهود؛ بل الظلم أعم من ذلك. "فكل من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه"؛ فجباة الأموال بغير حقها ظلمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون حقوق الناس ظلمة وغصَّاب الأملاك على العموم ظلمة، ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الآمال من أهله. ويستكمل ابن خلدون عناصر شبكة فهمه العميق والدقيق والرصين لحالة الظلم والعدوان والاستبداد المفضية إلى الفساد بالحديث عن أصول العمران في سياق يستدعي فيه حال العمران منسوبا لحال المقاصد الكلية العامة للشريعة من حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال، بحيث يجمع إلى شبكته التفسيرية، فيعقد علاقة لا تنفصم بين ميزان المصالح وميزان الأضرار. "واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ثبت عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذنٌ بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المراعاة للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة، من حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال"، فلما كان الظلم كما رأيت مؤذنًا بانقطاع النوع لما أدّى إليه من تخريب.. فكانت حكمة الحظر فيه موجودة وكان تحريمه ضروريًا ومهمًا.
"ذلك أن الظلم لا يقدر عليه إلا من لا يُقدر عليه لأنه إنما يقع من أهل القدرة والسلطان.. إنما تعني بقدرة الظالم اليد المبسوطة التي لا تعارضها قدرة فهي المؤذنة بالخراب.. ومن أشد الظلمات وأعظمها في فساد العمران تكليف الأعمال وتخسير الرعايا بغير حق.. فإذا كلفوا العمل في غير شأنهم واتخذوا سخريًا في معاشهم بطل كسبهم واغتصبوا قيمة علهم ذلك وهو متمولهم فدخل عليهم الضرر وذهب لهم حظ كبير من معاشهم، بل هو معاشهم بالجملة".. ومع تواري آمالهم في العمارة، فقدوا من السعي فيها جملة "فأدى ذلك إلى انتقاض العمران وتخريبه".
وأعظم من ذلك في الظلم وإفساد العمران والدولة التسلط على أموال الناس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان، ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب، والإكراه في الشراء
الظالم واستمرار ظلمه علامة شؤم وخراب، فإذا تُرك يواصل ظلمه، ويراكم خرابه وتخريبه، يأتي على جملة العمران، ويأتي على المعاش بالبطلان. الظلم ظلمات، يزداد ويتراكم، ويشيع ويتعاظم؛ والدائرة المفرغة تعمل عملها، استنادا إلى سنن الاجتماع الماضية، وقوانين العمران القاضية، فتنقطع آمال الإنسان، وينتقض العمران من جراء ما يرتكب بحقه من اعتداء وعدوان؛ فـ"الظلم مؤذنٌ بخراب العمران"، الكيان والإنسان والأوطان.. فأين من يقاوم الظلم وخراب العمران؟