العدوان على غزّة والمشروع الإسرائيلي
ساذجٌ مَن يعتقد أن كل هذه الفظائع ترتكبها أقلية وفدت إلى فلسطين بمشروعها الاستيطاني، من دون أن تكون هناك لعبة أنظمة ذات مصلحة في كل ما يجري. يصحّ أن نؤكد على ذلك، من دون الوقوع في زلل الشغوفين بنظرية المؤامرة. فالأخيرة، يمكن أن يأخذها منطقها إلى تخليق المعطيات. لكن، ما جرى في غزة، وما صاحبه من اللامبالاة، وفي بعض الأحيان الشماتة التي أظهرتها وسائل إعلام لا تنطق عن الهوى، يفضح أمراً مفتضحاً، أحسّ به الضحايا في غزة، قبل أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة، وغمر مشاعر الناجين.
لا يختلف اثنان على أن جماعة "الإخوان المسلمين" مستهدفة بخطط اجتثاث. لا أحد من المعنيين بهذا الاجتثاث، يجد نفسه معنياً بتقصي الأسباب الموضوعية لارتفاع أسهم هذه الجماعة، وأهمها فشل النظام العربي في مواجهة التحديات الرئيسة التي ينبغي، عندما نحددها، أن نتحاشى وضع الأولوية في ترتيبها، للتحدي الذي يمثّله المشروع الصهيوني، للهيمنة على المنطقة، وابتلاع كل فلسطين وإخضاع جوارها. لذا، نقول إن هذه التحديات هي: التنمية والاستقلال الاقتصادي، الديمقراطية، النزاعات البينيّة، الأمن القومي، وتحدي الصهيونية.
بعد نحو مئة وخمسين سنة من الخطاب الليبرالي العربي الأول في شأن طبائع الحكم في الدولة الوطنية، وقد وضعه رفاعة الطهطاوي (1801 ـ 1873)، نلاحظ عند معاينة أحوال الدولة العربية الوطنية، أيّاً كانت، أنها فشلت بامتياز، ولا سيما أن الطهطاوي، في وقته ذاك، قال متفائلاً، وظن كثيرون أيامها أن الأمور لن تستغرق وقتاً طويلاً: "إن البلاد حسنة التمدُّن، تقدمت على ديار الإسلام، بفضل تحسين النواميس الطبيعية، وإقامة التسوية في الأحكام والقوانين، بحيث لا يجور الحاكم على إنسان، بل القوانين هي المُحكمة والمعتبرة"، و"إن القوة المحكومة، التي هي الشعب، لا بد أن تكون مُحرزة لكمال الحرية، متمتّعة بالمنافع العمومية، في ما يحتاج إليه الإنسان في معاشه، ووجوه كسبه، وتحصيل سعادته".
منذ ظهرت الدولة الوطنية المستقلة في المشرق العربي، جرى استقراء النُخَب هذا الكلام، ولغيره الذي يصب في الاتجاه نفسه. لكن تطورات الأحداث، والنفوذ الاستعماري الماكث في الأوطان، بعد استقلالها الصوري، فضلاً عن الاضطرابات وصراعات الحكم والانقلابات والمحاولات الانقلابية، وتعاظم دور الأمن على حساب الخبز والحرية، أوصلت كلها الدولة الوطنية، أيّاً كانت، إلى حال العجز الذي يضطرها عند طلب النجاة، إلى وضع مصائرها وسائر شؤونها في عُهدة المستعمر القديم، أو المستعمر الجديد، الذي غادر بجيوشه غير مأسوف عليه. ولو أخذنا مثالاً على ذلك، من دون أن نبتعد عن كارثة غزة، يمكن الإمعان في قول جاء على ذكره الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في حضرة أمين عام جامعة الدول العربية، نبيل العربي. فقد كان المسؤولان العربيان يلتمسان، قبل أيام، مقاربة مُثلى لانتشال غزة من الكارثة. الأول، سليل حركة تحرر وطنية مقاتلة هي "فتح"، والثاني ابن ثقافة قومية ناصرية، يقوم على واجب المسؤولية الأولى عن الإطار القومي الوحيد المتوفر. فماذا قال الرجلان؟ قالا ما معناه: ليت فلسطين تحظى بحماية دولية.
الأول، يرمي في بطن التمني المعنى الضمني لليأس من احتمالات توافر الحماية العربية، ويجد الملاذ في حماية "دولية" لا مشكلة في تسمية أطرافها. أما الثاني، فإنه يرمي مفارقة جارحة، مشبعة بالمعنى الضمني ليأسه ممّا يمثّل، أو ممّا يسعى.
لا محيد عن القول إنّ ما يكمن وراء هذا المنحى، هو أكثر من اليأس المرير. إنه الإحساس، وربما العلم، بأن ما يجري في غزة، هو التطبيق العملي لأمنيةٍ تريدها أطراف سلطوية عدة، هي اجتثاث قوة أيديولوجية مسلحة، تكاد تُكرّس لنفسها جغرافيا سياسية، ووضعية امتناع عن السقوط، تستأنس بها شقيقاتها الحلقات المنتشرات في العالم العربي، وباتت في وضع المطاردة. لكن الطرف الذي تكفّل بتحقيق الأمنية، وتعهّد بالإقصاء، وله مصلحة مباشرة فيه، وتولّى اختلاق ذرائع الحرب، أحرج شركاءه وغَلَبته طبيعته كمستهترٍ بأرواح البشر. وهو، في العادة، إن لم يجد طريدته المحددة، يصبّ حقده ونيرانه على ما يراه حاضنتها الاجتماعية. يعاقبها ويؤلمها، لكي تستجدي الخلاص. هنا، تنشأ الفجوة بين الشركاء، ويتجافى خطابهما النظري والسياسي، وهذا يحدث في الخطط التاريخية للانقضاض على الأمم والأوطان.
في حرب 1967، بدأ التحضير منذ العام 1964، وكان هدف الخطة اصطياد عبد الناصر، بما يمثّله من مشروع تحرري نهضوي، واستقلال اقتصادي وتنمية وتذويب النزاعات البينية وبناء القوة العسكرية. وكشفت الوثائق أن بعض العرب كانوا ضالعين، وتكفلوا بتمويل صندوق خاص لهذه العملية الجراحية الكبرى. وإسرائيل نفسها، كانت مخلب القط الذي "يهبش" وينفّذ. وكان طريفاً، ومريراً في آن، أن جنرالات الجيش الإسرائيلي اجتمعوا قُبيل التنفيذ في بيت رئيس الاستخبارات آنذاك، أهارون ياريف، وتوافقوا على التمرد، إن لم يجر تعديل الخطة. قالوا: "إن لم نزحف شرقاً ونحتل الضفة، فلن نطيع سوى أوامر التاريخ اليهودي وحده". عندئذٍ، جرى أخذ "الطائع" العربي بجريرة "العاصي" في مصر وسورية. حاول ليفي إشكول، رئيس الحكومة آنذاك، أن يكبح جماحهم، وأن يذكّرهم بالتزامات إقليمية. رفضوا، فبدأ يتراجع. سمح لهم بسفر وفد يمثّلهم الى واشنطن، لإقناع الرئيس ليندون جونسون، لكنه أدرك، بينما هم في الطائرة، أن لا فائدة من محاولة كبح الجماح. أعلن عن حل الحكومة، وشكل حكومة وحدة، وجاء بالليكود للمرة الأولى، في شخص مناحيم بيغن، وزيراً للتعليم، وأبرق الى جونسون: "إن الوفد العسكري القادم اليك، يمثّل وجهة نظر إسرائيل كلها".
ليس ذلك وحسب، بل إن أميركا، عندما رفضت حفاظاً على صدقيتها لدى حلفائها العرب، وأرسلت سفينة "ليبرتي" للمراقبة، وهذه لم يعفها الإسرائيليون من القصف البليغ، مثلما لا يعفون أطفال غزة اليوم. قصفوا "ليبرتي" بتأنٍ، وبطائراتهم القديمة القاذفة من نوع "سوبر مستير" الفرنسية، وقتلوا 74 ضابطاً وجندياً بحاراً، وابتلعت واشنطن اللطمة الموجعة.
اليوم، اختلف الشركاء على التفصيلات. ساذجٌ مَن يقول إن لا شركاء. فالحقيقة تتبدى. غزة في حال الكارثة، وباتت قرينة الموت، والضفة تختنق، وتُرمى بنيران متفرقة، والقدس تهوَّد، والعرب بين شامتين وصامتين ببلاهة، أو يتهمهم الصامتون والشامتون، ضمناً، بالتآمر. حسبة عدد الشهداء من الأبرياء لم تدحض حسبة الاجتثاث. وفائض نيران الأوغاد المجرمين في "عقاب" الحاضنة الاجتماعية يخلخل انسجام الشركاء في الإقليم، ولا يباعد بين أمنياتهم. إن لم تفضح ذلك التصريحات الرسمية، تفضحها مضامين رسائلهم الإعلامية، على أن تعرضها عارية، بعدئذٍ، الوثائق حين تمر عليها السنوات ويُسمح بالنشر.