27 مارس 2017
الغابة لا يسكنها إلا الأشباح
هنيدة غانم
ولدت وكبرت في المرجة، قرية صغيرة بالكاد يعرف اسمها أحد غير سكان القرى القريبة الذين أطلقوا عليها لقب خربة وهي بالفعل كانت كذلك. إذ على عكس القرى القريبة منا، لم تكن المرجة قرية قائمة بذاتها، بل بعض بيوت متباعدة أقيمت في أواخر القرن التاسع عشر لعائلات جاءت من قرية دير الغصون لتفلح أرضها، حفرت الآبار وزرعت الزيتون والعنب واللوز، ولما أحبت ما صنعت يداها، ظلت تحرس المكان.
سكان القرية التي انفتقت من الأرض، لم يكونوا فعليا سوى وكلاء لعائلاتهم الكبيرة في قرية الأم التي اختصرناها بلغتنا الدارجة بـ"الدير". عيونهم مسمرة على القرية الكبيرة، أفراحهم في بيدرها وزيجاتهم تعقد هناك، وأولادهم يدرسون هناك، وحين تهز القرية هناك قصص الثأر والدم والمخترة، ترتجف الخربة هنا.
في عام 1948، ظلت الخربة على عهدها الأول: تنام في حضن أمها. لكن الحال تغير عام 1949 بعد اتفاقيات الهدنة، حين أسقطت خطوط الهدنة فوق رأس الخربة وكانت بمثابة سكين شقتها نصفين، الأخ قطع عن أخيه والأب عن أبنائه والأم عن أولادها.
هكذا وجد جدي نفسه في جانب وأمه وأخوته في جانب آخر، وعمي في جانب وإخوته في جانب، وجد أبي في جانب وزوجته وطفله في جانب آخر.. وبينهم خط سمي حدودا، عليهم أن لا يجتازوه وإلا عرضوا أنفسهم للموت!
الخربة صارت في لحظة مكانا مقطوعا معلقا في الهواء، كروم الزيتون الواسعة والبساتين الجميلة التي تحيط بالقرية ويسكن ملاكوها في الدير تحولت بلمح البصر إلى أراضي غائب.
الزيتون المنقب والأرض المحروثة، والحواكير المسنسلة تحولت تدريجيا إلى حقول أشواك، أراض وعرة مهملة. لكن أهل الخربة لم يقبلوا الحدود بوصفها قدرا، وبدل الاستكانة للقطع النازل عليهم، طوروا ثقافة كاملة للتسلل الذي تحول تدريجيا إلى محور حياتهم وقصصهم وناظم علاقاتهم الاجتماعية.
هكذا كان عمي يتسلل في عتم الليل ليزور جدتي وإخوته، جد أبي يتسلل إلى الجهة الأخرى ليزور زوجته وطفله. في كل بيت نمت قصص التسلل وأنا شربتها مع حليب أمي، كبرت عليها ومعها، وحفظت تفاصيلها، وفي كل مرة كنت أتجول في الهضاب المحيطة بالقرية كنت أبني صور التسلل وأحفظها، أتخيل أبناء العائلة وهم يختبئون من أعين حراس الحدود ليتواصلوا، أكاد أسمع نفسهم المكتوم، ودقات قلبهم الخائفة من طلق ناري متأهب.
لم أعش التسلل لكني عشته بكل تفاصيله.. كنت في لبه! فأنا ولدت بعد أن سالت الحدود بعد النكسة وتحولت من حدود موت مرعبة إلى حدود سياسية. هناك العرب وهنا اليهود كانت تقول جدتي. خط متخيل يمر بالعقل ويتجسد في الهواء.
بعد النكسة لم يعد التسلل لعبة موت، صار لعبة سياسة عمدت بالموت السابق. العائلات التي انقطعت بسبب الحدود عن بعضها عادت لتبث الروح في علاقاتها السابقة، لم تبق عائلة واحدة في القرية لم تقم بتجديد علاقاتها من خلال الزواج. هكذا ولدت أنا وإخواتي الستة، كنا جرعة دم دفقت لتحيي ما ذبل من علاقات بين جدي وعائلته التي قطع عنها هناك.. خلف الجبل.
أخوالي وجدتي وخالاتي هناك.. أمي هنا، والخربة الذابلة انتعشت قليلا. الأقارب يأتون من خلف الجبل مشيا على الأقدام لزيارتنا، جدتي تركب الحمار وتضعني خلفها، أشد بزنارها كي لا أسقط، نقطع الجبل وأقضي الصيف عندها.
الأرض الوعرة موسومة بآثار الأقدام، هنا سبيل دابة، وهنا أثر حذاء طفل، وأصوات كثيرة من الجبل والوادي تتداخل، الصمت صار ضجيجا مجددا. والمتسللون الأوائل امتزجوا بالمتسللين اللاحقين.. وآثار الأقدام تعمقت وتزايدت، الشوك تنحى قليلا وأفسح الطريق للجدات والعمات والأعمام. وأنا عرفت كل حجر وصخرة وعشبة في الأرض المحيطة، عرفت مخابئ النرجس والزعتر، وحفظت غيبا الطريق الواصل بين المرجة والدير، عرفت أسماء كل قطع الأرض، منها ما سميت على اسم مالكها ومنها ما نحت اسمها من طبيعتها: الخلايل، وادي الشام، أرض أم حسن ..إلخ.
لن أطيل أكثر.. كتبت عن المرجة كثيرا.. ويبدو أني لم أكتب شيئا! عدت قبل عدة أيام للتجول، أرض القرية التي كانت مرة بساتين وكروما، ثم أرض غائب يكسوها الشوك، تحولت بقرار من الكيرن كييمت إلى محمية طبيعية، والخلايل سميت الآن "غابة زيمر"..
أهلا وسهلا بكم في "غابة زيمر" الرجاء التقيد بالمسار المحدد!!. الخلايل صارت غابة، وأنا علي أن أتقيد بالمسار الذي وضعته الكيرن كييمت.. وادي الشام الذي يفصل بين المرجة وشويكة صار جزءا من مسار الغابة المحدد بشكل دقيق. حسنا: تحد الغابة من جهة الجنوب أسلاك شائكة وطريق عسكري ومن جهة الشرق جدار وبوابة تفتح بقرار عسكري، وفوق الهضبة المحاذية للغابة تقع قرية حديثة يسكنها كثير من الأزواج الشابة ممن خصصت لهم أجزاء من أراضي الغائب لبناء مساكن لهم! كما يليق بغابة سقطت من السماء بلا لغة وإشارات، سيجت سبل المشي بأسلاك شائكة للحفاظ على الطبيعة..
الشوك الذي تنحى سابقا عاد وانتشر في كل مكان! لا أثر لأقدام خائفة، لا أثر لمتسلل حذر، ولا لسبيل دابة محفور في الأرض. لا حذاء طفل، ولا صوت مناداة. في الغابة التي سقطت علينا: لا أثر لأقدام .. الغابة لا يسكنها إلا الأشباح!
سكان القرية التي انفتقت من الأرض، لم يكونوا فعليا سوى وكلاء لعائلاتهم الكبيرة في قرية الأم التي اختصرناها بلغتنا الدارجة بـ"الدير". عيونهم مسمرة على القرية الكبيرة، أفراحهم في بيدرها وزيجاتهم تعقد هناك، وأولادهم يدرسون هناك، وحين تهز القرية هناك قصص الثأر والدم والمخترة، ترتجف الخربة هنا.
في عام 1948، ظلت الخربة على عهدها الأول: تنام في حضن أمها. لكن الحال تغير عام 1949 بعد اتفاقيات الهدنة، حين أسقطت خطوط الهدنة فوق رأس الخربة وكانت بمثابة سكين شقتها نصفين، الأخ قطع عن أخيه والأب عن أبنائه والأم عن أولادها.
هكذا وجد جدي نفسه في جانب وأمه وأخوته في جانب آخر، وعمي في جانب وإخوته في جانب، وجد أبي في جانب وزوجته وطفله في جانب آخر.. وبينهم خط سمي حدودا، عليهم أن لا يجتازوه وإلا عرضوا أنفسهم للموت!
الخربة صارت في لحظة مكانا مقطوعا معلقا في الهواء، كروم الزيتون الواسعة والبساتين الجميلة التي تحيط بالقرية ويسكن ملاكوها في الدير تحولت بلمح البصر إلى أراضي غائب.
الزيتون المنقب والأرض المحروثة، والحواكير المسنسلة تحولت تدريجيا إلى حقول أشواك، أراض وعرة مهملة. لكن أهل الخربة لم يقبلوا الحدود بوصفها قدرا، وبدل الاستكانة للقطع النازل عليهم، طوروا ثقافة كاملة للتسلل الذي تحول تدريجيا إلى محور حياتهم وقصصهم وناظم علاقاتهم الاجتماعية.
هكذا كان عمي يتسلل في عتم الليل ليزور جدتي وإخوته، جد أبي يتسلل إلى الجهة الأخرى ليزور زوجته وطفله. في كل بيت نمت قصص التسلل وأنا شربتها مع حليب أمي، كبرت عليها ومعها، وحفظت تفاصيلها، وفي كل مرة كنت أتجول في الهضاب المحيطة بالقرية كنت أبني صور التسلل وأحفظها، أتخيل أبناء العائلة وهم يختبئون من أعين حراس الحدود ليتواصلوا، أكاد أسمع نفسهم المكتوم، ودقات قلبهم الخائفة من طلق ناري متأهب.
لم أعش التسلل لكني عشته بكل تفاصيله.. كنت في لبه! فأنا ولدت بعد أن سالت الحدود بعد النكسة وتحولت من حدود موت مرعبة إلى حدود سياسية. هناك العرب وهنا اليهود كانت تقول جدتي. خط متخيل يمر بالعقل ويتجسد في الهواء.
بعد النكسة لم يعد التسلل لعبة موت، صار لعبة سياسة عمدت بالموت السابق. العائلات التي انقطعت بسبب الحدود عن بعضها عادت لتبث الروح في علاقاتها السابقة، لم تبق عائلة واحدة في القرية لم تقم بتجديد علاقاتها من خلال الزواج. هكذا ولدت أنا وإخواتي الستة، كنا جرعة دم دفقت لتحيي ما ذبل من علاقات بين جدي وعائلته التي قطع عنها هناك.. خلف الجبل.
أخوالي وجدتي وخالاتي هناك.. أمي هنا، والخربة الذابلة انتعشت قليلا. الأقارب يأتون من خلف الجبل مشيا على الأقدام لزيارتنا، جدتي تركب الحمار وتضعني خلفها، أشد بزنارها كي لا أسقط، نقطع الجبل وأقضي الصيف عندها.
الأرض الوعرة موسومة بآثار الأقدام، هنا سبيل دابة، وهنا أثر حذاء طفل، وأصوات كثيرة من الجبل والوادي تتداخل، الصمت صار ضجيجا مجددا. والمتسللون الأوائل امتزجوا بالمتسللين اللاحقين.. وآثار الأقدام تعمقت وتزايدت، الشوك تنحى قليلا وأفسح الطريق للجدات والعمات والأعمام. وأنا عرفت كل حجر وصخرة وعشبة في الأرض المحيطة، عرفت مخابئ النرجس والزعتر، وحفظت غيبا الطريق الواصل بين المرجة والدير، عرفت أسماء كل قطع الأرض، منها ما سميت على اسم مالكها ومنها ما نحت اسمها من طبيعتها: الخلايل، وادي الشام، أرض أم حسن ..إلخ.
لن أطيل أكثر.. كتبت عن المرجة كثيرا.. ويبدو أني لم أكتب شيئا! عدت قبل عدة أيام للتجول، أرض القرية التي كانت مرة بساتين وكروما، ثم أرض غائب يكسوها الشوك، تحولت بقرار من الكيرن كييمت إلى محمية طبيعية، والخلايل سميت الآن "غابة زيمر"..
أهلا وسهلا بكم في "غابة زيمر" الرجاء التقيد بالمسار المحدد!!. الخلايل صارت غابة، وأنا علي أن أتقيد بالمسار الذي وضعته الكيرن كييمت.. وادي الشام الذي يفصل بين المرجة وشويكة صار جزءا من مسار الغابة المحدد بشكل دقيق. حسنا: تحد الغابة من جهة الجنوب أسلاك شائكة وطريق عسكري ومن جهة الشرق جدار وبوابة تفتح بقرار عسكري، وفوق الهضبة المحاذية للغابة تقع قرية حديثة يسكنها كثير من الأزواج الشابة ممن خصصت لهم أجزاء من أراضي الغائب لبناء مساكن لهم! كما يليق بغابة سقطت من السماء بلا لغة وإشارات، سيجت سبل المشي بأسلاك شائكة للحفاظ على الطبيعة..
الشوك الذي تنحى سابقا عاد وانتشر في كل مكان! لا أثر لأقدام خائفة، لا أثر لمتسلل حذر، ولا لسبيل دابة محفور في الأرض. لا حذاء طفل، ولا صوت مناداة. في الغابة التي سقطت علينا: لا أثر لأقدام .. الغابة لا يسكنها إلا الأشباح!
دلالات
هنيدة غانم
باحثة ومحاضرة فلسطينية.
هنيدة غانم